عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Dec-2025

من سيحكي قصة أفريقيا «إعلامياً»؟*عبد الله ولد محمدي

 الشرق الاوسط

على مدى خمسة أيام، أقمت في أديس أبابا للمشاركة في فعاليات النسخة الأولى من «جوائز الإعلام الأفريقي». كان الحدث مناسبة لاجتماع أكثر من 800 صحافي من مشاهد إعلامية مختلفة في القارة، إلى جانب حضور لافت لأبناء وأحفاد بعض القادة المؤسسين في دول شرق أفريقيا وغربها. رغم تنوع الخلفيات، بدا واضحاً أن المناسبة تتجاوز مجرد تكريم مهني إلى محاولة تقديم صورة أوسع عن التفاعل بين الإعلام الأفريقي وشركائه الدوليين، وفتح نقاشات على الهامش حول عنوان الحفل: «قارة واحدة لهدف واحد». الحفلُ يأتي في سياق تتطلعُ فيه القارة الأفريقية إلى كتابة تاريخها الخاص، وسعي واضح نحو الابتعاد عن السرديات المستوردة، من خلال طموح كبير نحو قارة تسردُ قصصها بنفسها، من دون انتظار من يتكلم بالنيابة عنها. هكذا تحلمُ القارة، ولكن ماذا يقولُ الواقع؟! اللافت هو أن رعاية الحفل وتنظيمه من قناة «روسيا اليوم»، التي وفّرت إمكانات تقنية ولوجيستية كبيرة، وأضفت على الحدث طابعاً احترافياً من حيث البث وإدارة المنصة.
 
أما مديرتها، المعروفة بقربها من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فحافظت على حضور هادئ في الكواليس، تاركة الواجهة لضيوف القارة ومسؤوليها، وهو ما منح المناسبة طابعاً أفريقياً رغم أن الإمكانات الأساسية جاءت من الخارج. من المشاهد التي أثارت الانتباه حضور عدد من أبناء وأحفاد قادة أفارقة سابقين. وبدا أن دورهم أقرب إلى تمثيل رمزي لحقبة سابقة في السياسة والإعلام، أكثر منه مشاركة مهنية في المجال. فقد ارتبطت تلك الحقبة، في عدد من البلدان، بإعلام يعمل في خدمة السلطة أكثر مما يعمل في خدمة المجتمع. ورغم احترام هذه الرمزية لدى كثيرين، فإن حضورها المكثف في مناسبة إعلامية معاصرة يعكس استمرار تأثير التاريخ السياسي في تشكيل الفضاء الإعلامي حتى اليوم. ورغم هذه الملاحظات، حمل الحفل جانباً إيجابياً واضحاً، تمثل في القدرة على جمع مؤسسات وأفراد من دول متعددة حول اهتمام مهني واحد، وفي منح المنصة لعدد من الوجوه الشابة، من بينها صحافي سنغالي لفت الأنظار بتحقيق عن المخاطر البيئية المحدقة بجزيرة سنغالية اشتهر سكانها بزراعة البطاطا، ولكنها اليوم منسية ومهددة بالضياع. حمل الحفل أيضاً تكريماً مهماً لمؤسسات إعلامية في جنوب القارة، لا تزال تمتلك بنية إعلامية أكثر نضجاً مقارنة بمناطق أخرى.
 
إلا أن المشهد الأوسع الذي رافق الحدث يطرح سؤالاً مهماً حول مدى استقلال الإعلام في أفريقيا. فإقامة حفل كبير يحتاج إلى إمكانات ضخمة، تقنية ومالية وتنظيمية، وهو ما جعل الاعتماد على طرف خارجي أمراً محورياً. قد يبدو ذلك طبيعياً في إطار التعاون أو الشراكات، لكنه يعكس في الوقت نفسه فجوة لا تزال تفصل بين الطموح الإعلامي في القارة والقدرات المتاحة لها. فالمؤسسات الأفريقية، في أغلبها، تواجه تحديات كبيرة: محدودية التمويل، وضعف الاستثمار في المحتوى، وغياب التدريب المتخصص، وضغوط السياقات السياسية.
 
هذه المعطيات تجعل من الصعب تنظيم فعاليات كبرى أو إنتاج منصات إعلامية قادرة على المنافسة إقليمياً ودولياً من دون دعم خارج الحدود. ومع ذلك، لا ينبغي عدّ هذا الاعتماد حتمياً أو دائماً، بل خطوة انتقالية على طريق بناء قدرات داخلية أقوى. ما يحسب للمنظمين الروس أنهم تركوا مساحة واسعة للأفارقة ليكونوا في الواجهة. فقد تناوب ثلاثة من وزراء الإعلام من دول مختلفة على التقديم وإلقاء الكلمات وتوزيع الجوائز، بينما بقي الجانب الروسي في الخلفية، ملتزماً بدور الداعم لا المتصدر.
 
هذا التوازن، وإن كان يحمل رسائل سياسية، فإنه سمح للحدث بأن يحافظ على طابعه الإقليمي، وأن يعكس شيئاً من روح التعاون التي باتت تميز العلاقات بين روسيا وعدد من الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة. في السياق العام، يشهد المشهد الإعلامي في أفريقيا تحولات متسارعة. فالاهتمام الدولي المتزايد بالقارة، سواء من القوى التقليدية أو من شركاء جدد، جعل الإعلام جزءاً من أدوات بناء العلاقات والنفوذ. والمؤسسات الأجنبية التي تستثمر في الإعلام الأفريقي تُدرك أن القارة تمتلك سوقاً شابة، واسعة، ومتعطشة لمحتوى نوعي. ومن هذا المنطلق، تُقدَّم مبادرات التدريب والدعم والتجهيز على أنها شراكات، لكنها تظل في جانب منها وسيلة لبناء حضور وتأثير.
 
غير أن هذا الواقع، على تعقيداته، لا يلغي الجهود الجارية داخل القارة لتعزيز الاستقلال المهني. فهناك مؤسسات أفريقية تعمل اليوم على تطوير تجارب رائدة، وبعضها بدأ ينجح في بناء محتوى يحظى بمتابعة إقليمية واسعة. ومع تزايد الاهتمام بالتحول الرقمي وتنامي المنصات المحلية، قد تكون السنوات المقبلة مرشحة لظهور نماذج جديدة أكثر قدرة على المنافسة. خرجتُ بانطباع مزدوج: من جهة، قدرة القارة على تنظيم مناسبة ذات طابع دولي، تجمع بين رموز الحاضر وأسماء من التاريخ السياسي؛ ومن جهة أخرى، إدراك حجم التحدي الذي يواجه الإعلام الأفريقي ليصبح أكثر استقلالاً واستدامة. فالتجارب التي تعتمد على دعم خارجي قد تمنح زخماً لحظياً، لكنها لا تؤسّس لنهضة إعلامية متجذرة ما لم تُقابل ببناء مؤسسات قوية تملك قرارها وتموّل نفسها وتدرّب كوادرها. وفي النهاية، يبقى الأمل قائماً في أن تكون مثل هذه الفعاليات خطوة على الطريق، لا غاية في حد ذاتها. فالاستقلال الإعلامي لا يتحقق في يوم واحد، بل عبر تراكم طويل من العمل المهني، وتطوير المهارات، واستثمار حقيقي في المؤسسات.
 
ما تحتاج إليه القارة اليوم ليس احتفالاً باذخاً بقدر ما تحتاج إلى بيئة تسمح للإعلام بأن يكون صوتاً حراً ومسؤولاً، قادراً على التعبير عن واقعها وطموحاتها، بعيداً عن تأثيرات الماضي وضغوط الحاضر.