عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Jan-2019

فشل حلم الإسلام السياسي: الشرق الأوسط بحاجة إلى حوار جديد بين الدين والسياسة

 الغد-هشام العلوي* – (لوموند دبلوماتيك) عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 2018

ترجمه (بتصرف): علاء الدين أبو زينة
ركز المسلمون هويتهم على ثنائية الدين والسياسة التي تجسَّدت في الأمة حتى غروب آخر خلافة إسلامية يُعتد بها، الإمبراطورية العثمانية (1290-1924). وتشمل الأمة الإسلام بمجمله ومنجزاته البشرية. وكانت الأمة خالدة سرمدية تمثل ماضي المسلمين ومستقبلهم، وغير محدودة مكانياً، تمتد في كل أنحاء العالم المعروف. ولم تكن الأمة حكومة ولا دولة دينية، وإنما تكويناً جمعياً للإيمان.
لكن هذه النظرة العالمية تغيرت بشكل كبير مع سقوط العثمانيين وصعود الهيمنة الغربية. فمن خلال الإمبريالية والحرب، اخترقت طرائق التفكير الغربية الأراضي الإسلامية، وخاصة مناطق الشرق الأوسط الرئيسية. وكانت الإمبراطورية العثمانية المتدهورة قد استوردت النماذج العكسرية الأوروبية، وبدأت المناطق المستعمَرة تُدمج في الإنتاج الاقتصادي الغربي. وحلت التقاليد القانونية الأوروبية التي أكدت على القواعد والبنى المنهجية محل خطاب الشريعة (الذي ترك متسعاً كبيراً للتكييف)، لتكون العمود الفقري للدول القومية الجديدة. وفي هذه الحقبة الجديدة، أخلت الانسيابية الدينية والسياسية التي أحاطت بمفهوم الأمة الطريق أمام المؤسسات المقنَّنة والحدود الإقليمية.
في استجابة لهذا التراجع الإسلامي والضغوط الغربية، أعاد المفكرون المسلمون تأويل دينهم في أواخر القرن التاسع عشر بغية صياغة أيديولوجيات جديدة تعِدُ بالتجديد. وقاد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده محاولات جعل الإسلام أكثر قابلية للفهم عن طريق الدعوة إلى تكييف الحياة الإسلامية مع وجهات النظر الغربية حول الاقتصاد والحداثة السياسية. ولم يسمّ هذان المفكران نفسيهما أبداً بالسلفيين (وهو مصطلح استخدمه -وأساء استخدامه- المفكرون الغربيون)؛ بالنسبة لهما، كان الأمر يتعلق بالعودة إلى المصادر الأصلية للعثور على توافق مع هذه التحديات الجديدة.
في محاولتهم “إنقاذ” الإسلام، قام هؤلاء المفكرون المسلمون، الذين دعموا حركة النهضة السياسية والثقافية والدينية، بمحاولة نزع مركزيته عن غير قصد. لم تعد الحقائق الظاهرة للإسلام، والأمة، هي النقاط المرجعية للخبرة الإسلامية. وبدلاً من ذلك، أصبح يُحكم على الإسلام فقط بمدى نجاحه في محاكاة المنجزات الغربية. وقد تصاحب هذا الضغط للإسلام في حاويات غربية مع خلق كيانات جديدة من الدول في مناطق الشرق الأوسط ما بعد العثماني؛ ولم تكن أنواع الأنظمة المختلفة التي ظهرت في هذا التشكيل تعبيرات عن القيادة الإسلامية التقليدية، وإنما نسخاً للاستبداد الغربي ذي الطابع العسكري للقرن التاسع عشر.
كما خلف تراجع الإسلام إرثاً قوياً آخر: بحلول بواكير القرن العشرين، أصبح الإسلام مركز المقاومة ضد الغرب لأي شخص رفض المشروع الإسلامي السابق للإصلاح والمصالحة. وحوَّل تسييس الإسلام الدين إلى أداة للصراع المناهض للإمبريالية، وتسبب في جعل الناشطين الجدد يصوِّرون الإسلام على أنه نموذج مناقض للغرب؛ أنه يستطيع أن يحرر المسلمين من تخلفهم المزعوم وحمايتهم من نفوذ الثقافة الغربية -وإنما فقط إذا استطاعوا أن يفهموا النصوص الإسلامية بشكل كامل.
ولادة الإسلام السياسي
تسبب هذا الاتجاه في خلق الإسلاموية، وهي أيديولوجية صهرت الدين والسياسة بقوة أكبر بكثير من الشريعة الإسلامية الكلاسيكية التي استحضرتها من أجل الإلهام. وعلى النقيض من ثنائية الدين-السياسة السائلة التي سادت في القرون التكوينية للإسلام، فرضت الحركات الإسلاموية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، مثالاً متصلباً؛ لم يَعد المؤمنون يُسألون عن نوع المسلمين الذين يجب أن يكونوهم؛ بدلاً من ذلك، وبرفض التقاليد الاستنطاقية والفلسفية للإسلام المبكر، كان الهدف منها فقط هو أن تسأل عما إذا كان المرء مسلماً أم كافراً. وتمت إعادة ابتكار الجهاد (من الجهاد الروحي الشخصي إلى القتال ضد أعداء الإسلام) والتكفير -وهما مفهومان مدفونان في الفقه الإسلامي- لتبرير المقاومة والكفاح في هذا العالم الجديد الذي انقسم إلى الإسلام في مقابل الغرب. ولم يعد الإسلامويون ينظرون إلى الإسلام على أنه تكوين خالد ولا حدود له، والذي يمثل كمال سيادة الله وإبداعه البشري؛ وإنما أصبح هدفهم الذي لا لُبس فيه هو الاستيلاء على سلطة الدولة.
أصبح تقدم الإسلاموية السريع خلال النصف الثاني من القرن العشرين ممكناً بانتهاء القومية العربية باعتبارها الأيديولوجية السائدة. وقد تسببت هزيمة العرب في الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1967 في تمزيق هذه المثُل القومية، ثم دمرتها الثورة الإيرانية تماماً في العام 1979 في نهاية المطاف. وأظهر سقوط الشاه أن الأنشطة السياسية التي تُمارس من خلال المعتقد الديني يمكن أن تتغلب على نظام استبدادي قوي يدعمه أكبر راعٍ غربي.
فشل الإسلاموية في الوفاء بوعدها الطوباوي واضح بذاته. وباستثناء حالات نادرة مثل تونس، تم تحييد الحركات الإسلامية عبر كامل الوطن العربي أو جعلها مفلسة. وبشرت الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات بالخيبات التي ستتلو لاحقاً مع “الربيع العربي”. وكانت لجماعة الإخوان في مصر سنة كارثية من الحكم قبل أن يطيح بها انقلاب عسكري في تموز (يوليو) 2013، والذي أعقبه قمع أعضائها. وفي العراق، وسوية، واليمن، فشلت القوى الإسلامية في تعزيز الديمقراطية، واستُهلكت في المعارك ضد التطرف العنيف. وفي بعض الدول العربية، تمتعت الأحزاب الإسلامية الشرعية بنجاحات انتخابية في برلمانات مروَّضة. لكن هذا الواقع أظهر كم كان موقفها هامشياً عديم الأهمية، بينما تعمل في ظل أنظمة قوية ما تزال تحتفظ بسلطات تنفيذية فائقة.
لفشل النموذج الإسلامي ثلاثة أسباب رئيسية. أولاً، لم تعرض الحركات الإسلامية أي حلول اجتماعية واقتصادية ذات معنى، والتي تذهب أبعد من مجرد الشعارات. وليس قول “الإسلام هو الحل، والقرآن هو دستورنا” هو الشيء نفسه مثل ابتكار سياسات عامة لحل المشكلات التي استعصت على القادة الاستبداديين في الماضي: الفقر المتصاعد؛ والبطالة الجماعية؛ وفشل التعليم والفساد المستشري. ومما يقول شيئاً عن ذلك، أنه بمجرد أن أصبح حزب العدالة والتنمية في المغرب في السلطة، فإنه اتبع، مثل الإخوان المسلمين في مصر، سياسات اقتصادية أعدها تكنوقراطيو الدولة تحت ضغط من المؤسسات المالية. وكشف ذلك عن غياب أي نظرية للإنتاج الاقتصادي في العقيدة الإسلامية، وعدم وجود أي رؤية لدور الدولة في إعادة هيكلة الاقتصاد.
السبب الثاني هو فشل الأحزاب الإسلامية في اعتناق سياسة شمولية وديمقراطية، باستثناء تونس. ولم تعد الحجة القائلة إن الإسلاميين لم يُمنحوا أبداً فرصة عادلة للحكم حتى يثبتوا مؤهلاتهم الديمقراطية صالحة. في مصر، كان الإخوان المسلمون أكثر تركيزاً على الهيمنة من عنايتهم بالتعددية، وأعطى استثناؤهم المتكرر للاعبين العلمانيين الذين يدعون إلى دولة مدنية ذريعة للجيش للإطاحة بالرئيس محمد مرسي.
كما فشل الإسلاميون في إظهار أي حصانة أمام إغراءات السياسة المادية. وحيث شكلوا مجموعات معارضة مشروعة، أبرموا الكثير جداً من تحالفات المصلحة مع قوى استبدادية، واصمين أنفسهم بالعيب نفسه الذي زعموا أنهم يرفضونه. وفي مصر، بعد سقوط الرئيس حسني مبارك في شباط (فبراير) 2011، تعاون الإخوان المسلمون على وجه السرعة مع الجيش، لكنهم حجبوا جميع اللاعبين الآخرين وعاملوهم بازدراء.
في المغرب، اهتم حزب العدالة والتنمية بعلاقته الجيدة مع النظام الذي منحه موارد جديدة وجعله مرئياً سياسياً، كما اهتم بالدعوة إلى إصلاح النظام. وبعد أن كسب انتخابات العام 2011، عكس خطابه الديني هذه التبعية عن طريق التأكيد على مبادئ إسلامية معدَّلة، مثل “النصيحة” و”الطاعة”. أما المبادئ الجوهرية التي ادعاها في السابق، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، فقد أصبحت الآن هامشية. ومن المستحيل أن يدافع حزب العدالة والتنمية عن تغيير ديمقراطي وإصلاحات دستورية عندما يرفض تحدي حق الحاكم المطلق في الفصل في هذه الأمور. ويمكن أن يتحول تحالف اليوم مع السلطة إلى تحالف مع الجيش، وفي النهاية مع الفلول. وقد تحول حزب العدالة التنمية، القانع بالحفاظ على مكانته كمشارك في الانتخابات، من لعب دور حزب معارضة إلى لعب دور حكومي، في حين بقيت السياسة المغربية كما هي.
صدوع وصراع
أصبح الإسلاميون مشتبكين اليوم مع الانشقاقات الجيوسياسية والصراعات الطائفية للمنطقة، بما يستنطق زعمهم بأنهم يتعالون عن الحداثة القذرة لما بعد الكولنيالية، وبأنهم يعرضون رؤية نقية لاستقلال مزدهر.
يعرض لبنان مثالاً. فقد بدأ حزب الله هناك كذراع للثورة الإيرانية، وعبر عن حتميته الأيديولوجية الشيعية ليكون رأس الحربة في السياسة الراديكالية. وبعد وقت قصير من تأسيسه، تحول إلى حركة قومية تحارب من أجل تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، ويمكن أن يُصنف على أنه حركة إسلامية ذات قاعدة شعبية. واليوم، تحت الرعاية الإيرانية، ما يزال حزب الله يدَّعي بأنه يقاتل بالنيابة عن الأمة اللبنانية، لكنه في الممارسة يخصص الموارد للحرب في سورية ضد القوى السنية أياً كان المكان الذي تأتي منه. وقد أعلن حزب الله أنه يقاتل في سورية في ميدان معركة “نهاية العالم” وبذلك، ليس حزب الله حركة إسلامية معنية بمستقبل لبنان الاقتصادي والسياسي بقدر ما هو كيان عابر للحدود، عاكف على مرافقة المهدي، “الإمام المحتجِب”، على الأراضي الجنبية.
 
 
ناشطون إسلاميون يشاركون في مسيرة احتجاجية في مصر – (أرشيفية)
وفي العراق، جعلت العوامل الجيوسياسيةُ الإسلامويةَ عاجزة. ومنذ غزو قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق في العام 2003، كانت الأصوات ذات التأثير السياسي والاجتماعي الأكبر هي رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، والحشد الشبابي. وفي العام 2006، تحول الصدر من التنديد بالتحول السياسي برعاية أميركية إلى المشاركة في هذه العملية نفسها. وكسبت حركته في ذلك الحين ما يكفي من الحضور البرلماني لتصبح صانع ملوك، وحلت الشبكات الاجتماعية الصدرية محل الدولة الوليدة في جنوب العراق. وفي وقت لاحق، ظهرت قوات الحشد الشعبي كميليشيات شعبية قاومت “داعش”، على النقيض من الجيش العراقي النظامي. وأثبت الصدريون والحشد بشكل جمعي أنهم أكثر فعالية في تشكيل العراق من الأحزاب التقليدية التي ظهرت لملء الفراغ في حقبة ما بعد صدام، وخاصة حزب الدعوة الإسلامي، المشكَّل على غرر أيديولوجية الإخوان الإسلاميين واستراتيجيتهم.
عادة ما يزعم الإسلاميون أنهم ضحايا، مضطهدون من الغرب ومستبعدون من الحكام المستبدين، في حين يطالبون المؤمنين في الوقت نفسه بنشر العقيدة الإسلامية بقوة للتغلب على المجال السياسي وحل هذه المشاكل. وقد جاءت هذه الحركات كنتاجات للدول الاستبدادية التي يدعى منظروها أنهم يستهدفونها، بينما يبقى الانتباه الثيولوجي الذي يمنحونه للحكم الديمقراطي أو التنمية الاقتصادية ضئيلاً قياساً إلى حثهم على تعنيف الكفار أو إنشاء دولة إسلامية متسمة بالكمال.
تشكل تونس قصة النجاح العربية الوحيدة للحكم الإسلامي. وقد عملت حركة النهضة ونظائرها العلمانية، مثل حركة “نداء تونس”، معاً لتفادي نشوب الصراع الاجتماعي والحفاظ على الديمقراطية. و”النهضة” قوة إسلامية مهمة، بقاعدة شعبية كبيرة وقيادة قوية، في حين أن “نداء تونس” والأحزاب العلمانية الأخرى هي خليط من اليساريين والقوميين والنخب التجارية وبقايا نظام زين العابدين بن علي الذي أطاحت به من سدة السلطة ثورة تونس في العام 2011.
الاستثناء التونسي
كانت تونس هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة. فقد نجحت حركة النهضة ضمن أصعب الظروف، وفقط عن طريق وضع توجهها الإسلامي جانباً. وبعد كانون الثاني (يناير) 2011، تمتعت دمقرطة تونس ومشاركة حركة النهضة بدعم دولي كبير والقليل من التدخل الخارجي. وكانت “النهضة” محظورة لعقود، وبذلك شهدت تحوُّلاً عن طريق استيعاب أفكار جديدة من خارج العقيدة الإسلامية. ولم تسفر نجاحاتها الانتخابية عن هيمنة أيديولوجية، وإنما ألزمت قيادتها بتقديم تنازلات عن طريق تخفيف المطالب الدينية في داخل الدستور والسياسات العامة. وبتعلُّم كيفية فصل الرسالة الإسلامية عن الحياة السياسية، والعمل عن قرب مع اللا-إسلامويين، اصطبغت حركة النهضة بالعلمانية؛ وأصبحت العملية حتمية لا يمكن وقفها، حيث ووجهت كل محاولة للتجاوز بردة فعل شعبية علمانية. كما صنعت سابقة الانقلاب الكارثي في مصر لدى قادة “النهضة” حساً بالحذر والميل إلى التسوية.
في تونس، قبِل الإسلاميون بأن أي تأويل للإسلام لا يستطيع أن يتغلَّب على المسؤولين المنتخبين في صياغة السياسات الداخلية والخارجية. ولا يستطيع المسؤولون المنتخبون أن يعيقوا الممارسة السلمية للدين، حتى في المجال العام. ويمكن أن تنخرط الإسلاموية في هذا التسامح المزدوج (كما تفعل الأديان الأخرى أيضاً)، لكنها يجب أن تتخلى عن أكثر مطالبها تعصباً كي تمنح كل الأصوات فرصة متساوية لتعبر عن رأيها.
مع أنها ووجهت برفض الكثير من الإسلاميين، فإنه يمكن العثور على هذه الدينامية من الأخذ والعطاء، حتى في الأيام المبكرة للحضارة الإسلامية، عندما تم إدراك أنه على الرغم من أن النصوص المقدسة تحتوى على كلمات مقدسة، فإن تأويلها وتطبيقها هي أعمال بشرية يجب استنطاقها ومراجعتها باستمرار، ومناقشتها وتحويلها بطريقة شمولية. هذا الحوار بين المقدس والدنيوي، أو بين المقدس والإنساني، يجسد ثنائية الديني/السياسي في الإسلام، وليس الإصرار على أن أحدهما ينبغي أن يدمر الآخر.
ما هو الحل؟
إذا لم تكن الإسلاموية هي الحل، فما هو الحل إذن؟ قدَّم الربيع العربي بداية لجواب: السياسات الديمقراطية؛ السيادة الشعبية؛ واستعادة الكرامة. وقد تراجع جزء كبير من المنطقة ليعود إلى الخضوع لحكم استبدادي متجدد، وأصبح واضحاً أن الإسلاميين لا يمكن أن يكونوا مخلِّصين. لقد فشلت يوتوبياهم، التي وعدت بالخلاص في مقابل الخضوع؛ ولم تتحقق اليوتوبيا الأخرى، الديمقراطية، التي وعد بها الربيع العربي.
احتفظ المواطنون العرب برغبتهم في الاحتفاظ الإيمان، مع أنهم أصبحوا الآن “مناهضين لرجال الدين”، في نبذٍ للسلطات التي تدعي أنها تؤول الدين. وأصبح العرب الآن ينفرون من أي استخدام للمقدس كأداة، أو من فكرة أن الشخصيات أو الجماعات الدينية مثل الإسلاميين، أو المؤسسات مثل العلماء (الخبراء الفقهيين) الذين تعينهم الدولة، تتمتع بنيوياً بمكانة مقدسة وتستحق الطاعة أو الرهبة. ويعني الرفض الشعبي للقدسية على هذا النحو نهاية إرث الثورة الإيرانية وفقدان الإسلاموية بريقها.
حولت الأنظمة استراتيجياتها تبعاً لذلك. وحاولت ملء الفراغ الذي تركته الاتجاهات المتداخلة من الأسفل: الرفض المناهض لرجال الدين والدعاية الإسلاموية؛ وسعي الناس إلى نيل الحريات الديمقراطية التي تم التعبير عنها في الربيع العربي؛ والرغبة الدائمة في التدين في الحياة اليومية. وفرضت الأنظمة تأويلاتها الخاصة للأخلاق والإيمان، مع العديد من الأمثلة المعاصرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الفرض الصارم لصيام الناس في رمضان، أو مكانة المرأة في المجتمع.
بإملاء هذه القواعد الاجتماعية، تستجيب الأوتوقراطيات لنزعة محافظة غير معلنة بين بعض المواطنين، بينما تقمع رغبة الشباب في الحرية. لكن قيام هذه الأوتوقراطيات بإخضاع المجالات الدينية لسلطة الدولة، إنما يكرر خطأ الإسلاميين.
سوف تكون لتدخلات الدولة في المجال الديني على هذا النحو تداعيات كبيرة على الأمد الطويل -ليس فقط بالنسبة للدين، وإنما بالنسبة لمستقبل الديمقراطية والاستقرار في الشرق الأوسط. وقد أقامت بعض الحكومات سياساتها الخارجية على النشر الخارجي للإسلام الرسمي. وحتى وقت قريب، اعتمد حزب العدالة والتنمية الذي يحتل السلطة في تركيا منذ العام 2002 بكثافة على الشبكات الحليفة لفتح الله غولِن، لتعزيز سلطة الدولة وتصدير رؤيتها الإسلامية. ومنذ انفصال الرئيس رجب طيب إردوغان عن الغولنيين (الذين أصبحوا الآن عدوه رقم واحد)، أصبحت سياسات وأيديولوجية حزب العدالة والتنمية متمركزة الآن حول إردوغان.
في المغرب، يتم تطبيق نهج استيلاء الدولة على الدين من خلال القوة الناعمة. وتقوم الدولة بتقديم رؤيتها للإسلام على أساس محور “شمال-جنوب” كجزء من دبلوماسيتها الدينية. والهدف الأول هو أوروبا؛ حيث يطوِّع المغرب الدعم من خلال تقديم رسالة عن إسلام معتدل يمكن أن يحارب التطرف والإرهاب. (يدرِّب المغرب أئمة فرنسيين). والثاني هو جعل المغرب مركزاً اقتصادياً وسياسياً جذاباً لأفريقيا، لمواجهة النفوذ الجزائري.
كما يريد المغرب أيضاً سيطرة سياسية أكبر على شتاته في أوروبا. وتدير المؤسسات الدينية المغربية في أوروبا، مثل مجلس العلماء في بروكسل، الشؤون الدينية، وهي موضوع لتدخل القنصليات والدبلوماسية المغربية وأجهزة الأمن، التي تسعى إلى التأثير على المغتربين. ويتم عرض صورة للـ”اعتدال” في الخارج، لكن هناك في الوطن حالة من التعصب الحكومي المتخفي في هيئة حماية الأخلاق العامة، مع استهداف المجالس الإسلامية الرسمية لمجموعات الأقلية وإحباط النقاش الديني، ومحاربة الكفر والإلحاد، وأنواع من الممارسات الشخصية.
يواجه هذا الترتيب الديني-السياسي تحديات أساسية. هناك المشكلة الاقتصادية: من دون إعادة توزيع اقتصادي ناجحة ومستدامة، لن تقدم الجهات الفاعلة الاجتماعية الطاعة الكاملة. وهذا الترتيب هو مزيج من الأفكار الدينية التي تجمعها السلطة السياسية معاً، والتي يمكن تحديها في أي وقت بالمعرفة الفقهية المتماسكة التي تم التعبير عنها عبر التاريخ الإسلامي. وليست هذه مسألة علمنة، بل هي احتكار للفضاء الديني.
إن فكرة “التحديث” هي في حد ذاتها فكرة استبدادية، لأنها تتطلب إملاء حدود الخطاب الديني. وينبغي أن لا يكون الهدف الأساسي هو تقديم الإسلام المعتدل، وإنما الإسلام المتنور. ويتطلب التنوير التفكير النقدي؛ وهذا هو العدو الأعلى للاستبداد.
 
*باحث مشارك في مركز ويذرهيد،
في جامعة هارفارد.
*المراجع:
(1) All notes are by the editorial team. See Nabil Mouline, Le Califat: Histoire politique de l’islam, Flammarion, Paris, 2016.
(2) Rudolph Peters, Jihad in Classical and Modern Islam: a Reader, Markus Wiener Publishers, ‘Princeton Series on the Middle East’, Princeton, 1996.
(3) Alain Gresh, ‘Shadow of the army over Egypt’s revolution’, Le Monde diplomatique, English edition, August 2013.
(4) Marie Kostrz, ‘Hizbullah’s mission in Syria’, Le Monde diplomatique, English edition, April 2016.
(5) Gilbert Achcar, ‘The Saudi predicament’, Le Monde diplomatique, English edition, March 2018.
*نشرت هذه الدراسة تحت عنوان: MIDDLE EAST NEEDS NEW DIALOGUE BETWEEN FAITH AND POLITICS: Failed dream of political Islam