مواقع التواصل الاجتماعي (1): التطرف الرقمي.. الخطر الصامت*د.محمد صبحي العايدي
الغد
لم يعد التطرف اليوم يولد في الزوايا المظلمة، ولا في البيئات المغلقة فقط، بل ينشأ أيضاً في غرف مضيئة وعلى شاشات صغيرة وبين أيد بريئة، لم تدرك بعد ما يحاك لها، لقد نشط التطرف في عصر المنصات الرقمية بشكل واسع، حيث بات يتشكل في قلب الفضاء الرقمي اليومي الذي نعيشه، وتصنع الأفكار كما تصنع العادات بالتكرار والتدرج، من دون أن نشعر بالخطر، لقد تغير وجه التطرف ولكنه لم يتغير جوهره، انتقل من التنظيمات الظاهرة إلى الخوارزميات الصامتة، ومن الخطاب الصريح إلى المحتوى المموّه، حيث يعيد تشكيل الوعي بطريقة غير مباشرة، بعيداً عن أعين الآباء والمربين.
التطرف الرقمي لا يختص بعمر معين، بل يتلون بحسب المرحلة، يبدأ بصورة مبسطة للعالم الذي نعيش فيه، وفهم سطحي للنصوص، وانتقاء مشوه للتاريخ، ويعاد تشكيل الوعي على أساس الثنائية الحادة: أصدقاء أو أعداء، نحن أو هم، اصطفاف أو خيانة، وعند المراهقين يتغذى على زرع القلق الوجودي، والحاجة إلى الانتماء، ثم يتنامى الفكر إلى الانحياز الأيديولوجي المطلق، والشعور بالاصطفاء الفكري، والدور البطولي الذي ينتظره، وفي جميع هذه المراحل يربى العقل على الانغلاق والإجابات الجاهزة لا على البحث، وعلى الامتثال لا على النقد.
وما يجعل التطرف الرقمي أكثر خطورة أنه لا يحتاج إلى قائد ظاهر ولا خطاب فج، بل يبدأ بسؤال عابر، أو مقطع مؤثر، أو فكرة حادة تقدم على أنها يقين، أو سردية مظلومية بلغة مشحونة، يعتمد هذا النمط من الاستقطاب على مخاطبة العاطفة، فيقدم الغضب بوصفه غيرة على الدين، والتزاماً لا يقبل المساومة، والحدة بوصفها صدقاً وإخلاصاً، والتوازن تمييعاً وتنازلاً وجبناً، هنا يختلط الثبات بالتعصب، واليقين بالانغلاق، والغيرة بالعداء، فيعيش الشاب داخل عالم فكري مغلق، ويفصل عن بيئته الطبيعة تدريجياً: أسرته، مجتمعه، تراثه الديني المتوازن، ليعاد دمجه في جماعات رقمية مغلقة تمنحه الاعتراف والهوية، مقابل التخلي عن استقلاله الفكري، وإقصاء الآخر، فيلبس التطرف هنا ثوب الفضيلة، ويصنع لبنة لبنة حتى يصير قناعة.
أهم أدوات مواجهة هذا الواقع تكون بإعادة الاعتبار للعقل النقدي، بوصفه عبادة فكرية، فمن لا يمتلك أدوات التفكير النقدي ولا يعرف مراتب الأحكام، ولا يفرق بين القطعي والظني، يصبح فريسة سهلة لأي خطاب متطرف، ولذا فالوقاية الحقيقية تبدأ ببناء وعي داخلي، قادر على التمييز، حيث يتعلم الأبناء صغاراً وشباباً كيف يفكرون، هو أهم من تعليمهم ماذا يفكرون، وأن التفكير النقدي والفلسفي لا يهدد الإيمان، بل يعززه ويحميه، فطرح الأسئلة البسيطة: من يتكلم؟ ولماذا يقال هذا الآن؟ وماذا يراد منا؟ هذه الأسئلة على بساطتها كفيلة بتفكيك الخطاب الرقمي المتطرف، فالسؤال والبحث والتأمل والتفكر، أدوات قادرة على كشف زيف هذا الفكر، وهي طوق النجاة الذي لا يستغني عنه أبناؤنا، فالوقاية ليس أن نمنع الطريق، بل أن نعلم السير فيه بوعي.
كما أن تقديم الدين بوصفه طريق تزكية ورحمة واتزان، وليس مشروع صراع دائم، ينظر إلى مآلات الأمور بعين مقاصدية كلية، يشكل هذا الوعي خط الدفاع الأول والأعمق، فالدين الذي يعلم أن الاختلاف سنة، وأن الخطأ لا يخرج من الدين، وأن الرحمة أصل لا استثناء، يجعل الخطاب المتطرف نشازاً لا إغراء.
ولا يقل عن ذلك أهمية الحوار داخل الأسرة والمؤسسات التعليمية، فالبيت الذي يسمح بالأسئلة دون تخويف، والمؤسسات التعليمية التي تعلم النقاش لا التلقين، وتصنع عقولاً، ومعنى متوازناً، لا يقيناً جاهزاً، تصنعان حصانة داخلية، لا توفرها أقوى أدوات الرقابة، فالتطرف ينمو في الجهل، ويتراجع بالحوار.
أما الفضاء الرقمي نفسه، فالوقاية أصبحت جزءاً من التربية الحديثة، وهي لا تعني الانسحاب، بل الحضور الواعي، ودعم المحتوى المتزن، وتعليم الأبناء كيف يديرون علاقاتهم بالمنصات، وكيف يميزون بين الخطاب الصادق الواعي، والخطاب المستغل المتلاعب بالعواطف على حساب الحقائق.
إن صيانة الوعي في زمن المنصات ضرورة وطنية ومسؤولية مشتركة، ولا تكون بردود أفعال مؤقتة، بل استثمار طويل الأمد في أمن المجتمع واستقراره، وحين نحصن عقول أبنائنا بالمعرفة، ونربيهم على المسؤولية، ونمحنهم مساحة آمنة للحوار والانتماء واحترام الكرامة الإنسانية، نكون قد اخترنا الطريق الأضمن لحماية المجتمع، طريق العقل والاتزان والوحدة.