الراي
قبل أن تستولي العصابات الصهيونية على القدس الغربية عام 1948، أطلقت على خطة الاستيلاء على المدينة المقدّسة اسم عملية «نَخشون»، وهو، بحسب أساطير التوراة، اسم أول رجل إسرائيلي قفز في البحر الأحمر، عندما خرج اليهود من مصر، مُطارَدين من فرعونها، في إشارة ذات مغزى تاريخي، وهو أن الأعمال الكبرى، في تاريخ الشعوب، تحتاج إلى مبادرات كبرى «إلى الأمام...!»، تصل إلى حد الانتحار.
وحين قيل، أثناء تعميد كلوفيس، ملك قبائل الفرنكيين، في النصف الأول من الألفية الأولى: «احرق ما عبدته، واعبد ما حرقته»، كان المقصود هو الإشارة إلى أن اللحظة تعني تحولاً جذرياً في العقلية، يؤدي إلى اعتناق قيم جديدة، حيث تطرد المعتقدات الجديدة المعتقدات التي سبقتها بقوة أكبر، وتحل محلها. وهو ما يصار إلى ترسيخه الآن بشكل استراتيجي في فلسطين والمنطقة، بعد صراع للإرادات والمصالح تجاوز القرن في هذا الجزء من العالم.
ولأن الاستراتيجية هي «فن الجدل بين إرادتين متعارضتين، تستعملان القوة لحل الخلاف»، حيث لا تنتصر إحدى الإرادتين إلا إذا تم التوصل إلى وضع يُفرض فيه على العدو تأثير نفسي خاص، يقتنع فيه بأنه «لا فائدة من تجديد الصراع، أو جدوى الاستمرار فيه»، فقد استطاعت الدولة العبرية، بعد أقل من عقد على وجودها (1948)، تطوير حالة التعاطف الأوروبي مع فكرة «ضعف إسرائيل»، من دون أن تخسر هذا التعاطف. وقد عبّر بن غوريون، في أواخر الخمسينات، عن هذا الفهم قائلاً: «يجب ألّا ننسى، ولو للحظة واحدة، أن مشكلة أمن إسرائيل تختلف اختلافاً تاماً عن مشكلة أيّ بلد آخر، فهي ليست مشكلة حدود أو سيادة، بل مشكلة بقاء مادي، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة».
وبعد نكسة حزيران (يونيو) 1967، أدرك قادة إسرائيل أن التوسع الأقصى قد تمّ، ولو إلى حين، وأنه تمّ أيضاً على حساب القضاء على خرافة ضعف إسرائيل، التي أكسبتها في الماضي تعاطفاً وتسامحاً في الغرب. وأن الوقت قد حان لصيانة المكاسب وترسيخهاً. وذلك عبر فرض التسوية بالشروط الإسرائيلية المطلوبة، ولكن بوسائل أخرى. وتحول هذا الفهم بـ «فرض التسوية» إلى الهدف المباشر لهذه الاستراتيجية في العقود الثلاثة التي تلت كارثة حزيران.
في المقابل، وبسبب الشعور الشعبي العام، بالحق العربي الفادح في فلسطين، فإن الطرف العربي الآخر في صراع الإرادات لم يختلف عن الفهم الصهيوني لهذا الصراع بأنه «صراع وجود»، من دون أن يكسب العرب تعاطفاً غربياً، ولهذا أسباب دولية أخرى. ومنذ إعلان دولة إسرائيل وهزيمة العرب في العام 1948، اضطر الخطاب الرسمي العربي إلى مجاراة الشعور الشعبي، بالحق المطلوب للعرب في فلسطين، وبعدم مشروعية الحركة الصهيونية في إقامة «دولة لليهود» في الأرض العربية. وهو فهم تخلّف عن الفهم الدولي «للمسألة الفلسطينية» و«مشكلة اليهود» فيها بأكثر من ثلاثة عقود. إذ إن صكّ انتداب بريطانيا على فلسطين، الذي أقرّته عصبة الأمم الدولية، تضمّن نصّ وعد بلفور الشهير، وأن وظيفة الدولة المنتدبة، وبشكل قانوني وشرعي هي «تأمين الظروف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين»، وهو ما تمّ بالفعل طوال العقود الثلاثة، التي سبقت نكبة العام 1948.
بازدواج الخطاب الرسمي العربي، وتحوّله إلى خطاب مُعلَن، يجاري الشعور الشعبي العام حول فلسطين، وخطابٌ آخر يُمارَس بشكل غير مُعلَن، ويتّفق مع الفهم الغربي للقضية الفلسطينية، منذ ذلك الازدواج، تطوّر وتضخّم في الذهن الشعبي العربي وثقافته حالة من «الفِصام السياسي»، حول كل ما يتّصل بفلسطين. بمعنى آخر، لم تكن هناك استراتيجية عربية رسمية فعلية ومعلنة حول فلسطين منذ قيام دولة اسرائيل، وأن ما طَغى أو سيطر وطبع الصراع في المنطقة استراتيجياً هو الفهم الإسرائيلي لهذا الصراع. أما طرفه الآخر، فهو، كما رآه قادة إسرائيل مبكراً، الشعوب العربية الرافضة لوجودها من أساسه. وهي شعوب، يدرك هؤلاء، أن الأنظمة الرسمية العربية لا تعبّر عنها فعلياً، وأن مشكلة أمنها ووجودها تتحدّد بشكل استراتيجي بكيفية إيصال هذه الشعوب، بشكل يقيني، إلى القبول بها والتعايش معها. وهو فَهمٌ حدّد، وعلى مدى العقود الماضية، المضامين الأساسية لفهم قادة إسرائيل لاستراتيجية الصراع.
وبالتدريج، بدأ ازدواج الخطاب الرسمي بالافتراق إلى خطابين: خطاب تمثّله الأنظمة الرسمية العربية، الأقرب إلى الفهم الدولي للصراع في فلسطين، التي اعترفت بعد نكسة حزيران بقراري الأمم المتحدة 242 و383، بما في ذلك نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وخطابٌ آخر، موجهٌ لثقافة الشعوب العربية العامة، مع ما يحتمله الحدث اليومي من متغيرات.