عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Aug-2020

تزييف الوعي في رواية «بروكا/ حكاية الفتى رضا»

 

 فوزي الخطبا
 
الدستور- صدرت للروائية الأردنية عهود السرحان رواية «بروكا/ حكاية الفتى رضا»، وقبل الوقوف عند مضامين والمعمار الفني وتشكلات النص وتعداد شخصيات الرواية لابد ان نقف عن عتبات النص. السطر الاول في الرواية وما يحمل من جملة دلالات وتأويلات لا سيما عندما يكون العنوان مغايرا إلى ما ورد في المعجم العربي من معاني ومن هذه المعاني البركة وإنما الزيادة والتبريك الدعاء للإنسان او غيره بالبركة والاسم مغاير للاسم الطبي والعلمي الذي يشير إلى الاسم، الحسبة الكلامية رمز وعنوان الصمت للطفولة التي تهدر في وسط الموت وهي في الأساس نتيجة لإصابة في منطقة بالدماغ وهي غالبا ما تأتي لكبار السن وخاصة عندما يصابون بجلطة دماغية.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الباب ما علاقة هذا الاسم في أحداث الرواية. هذا ما سنقف عليه عندما ما تحدث عن الصورة العامة والكلية للرواية في أبعادها ومضامنيها. الفتى بروكا الشخصية المحورية في الرواية ولا يكاد مشهد من مشاهد الرواية إلا يكون حاضرًا فيها وشخصيات تدور في فلك هذه الشخصية المركبة والمعقدة المواضع.
 
أحداث الرواية حول الإرهاب والتطرف والفكر الظلامي التي عانت منها الجزائر فترة من الزمن وهي اول رواية أردنية تتحدث عن هذ الموضوع برؤية فنية متقدمة، كشفت الرواية عن اساليب وأهداف الخلية الإرهابية التي عاشتها الجزائر في أصعب الظروف واحلك الايام وبالتحديد من عام 1993 إلى 2002 وهو ما أطلق عليها العشرية السوداء او ما يسمى سنوات الجمر.
 
والسؤال الكبير الذي يستيقظ في هذا المقام انه كيف استطاعت الروائية السرحان أن تكتب عن هذه الاحداث الصعبة والمخيفة في رؤية فنية وطاقة إبداعية وصور ودلالات نصية. شخصيات مقنعة وقوة تعبيرية مدهشة ومؤثرة عن حياة شريحة من الناس تجاوزوا حد المنطق والعقل والدين والإنسانية، سنجيب عن هذ السؤال بشيء من التوسع بعد أن نقف عند فضاء الرواية وشخصيتها.
 
وفي منولوج داخلي تقدم الروائية الشخصية المركزية بروكا في صراع نفسي عن ذكرياته وهو يشعر بألم وما يعانيه من ضغط نفسي واجتماعي حاد. يعجز به عن تحقيق ما يريده أقلها النطق والكلام، لقد كشفت الروائية حجم المعاناة الأليمة وعن هواجسه باستخدام المونولوج ليعبر عن مشاعره الدفينة وألمه وصراعه الداخلي وشعوره في الغربة بقوله:
 
«تناهى إليَّ من ذلك العالم الآخر البعيد عن ذكرى أمي وصوت البلورات، صوت يده تحمل العصا صارخًا يُريد القضاء عليَّ. أكان عليَّ أن أنهي الحكاية هُنا! أن أنهي فصول الألم بفصلٍ واحد! هل من معنى لحياتي بعد الآن. أنا رضا، طفلُ الجبال.
 
لكنني لم أتمكن من التفكير حينها، لم يُنجبني والداي لهذه اللحظة. كانا يُخبرانني دومًا بأنني سأعيش سعيدًا. لهذا تمكنتُ من رفع صوتي وأنا أحمي وجهي بيديَّ. آملًا بأن يخرجَ هذا الصوت، فاقدًا للأمل الأخير الذي تمسكتُ به مُرغمًا.
 
«بروكا»
 
امتد صوتي بقول الآه لتصبح تعبيرًا عن الألم وارتفع صوتي عاليًا، ختامًا لاسمٍ ليس اسمي، ولكنه منقذي.
 
طوال سنين كم تمنيتُ أن أسمع صوتي، أن تُغرد حُنجرتي. أن أكون طفلًا طبيعيًا مثل باقي البشر، كان الكلام يُحشر في عقلي إلى أن يُعاد دفنه. لأن لا مكان له في العالم الخارجي. أكنتُ أحتاجُ لكل هذا الخوف لكي تُنبت الأجنحة على كلماتي! ألا يا ليتني لم أتمنَّ. كيف لي أن أعلم أن تحقيق هذه الأمنية يعني أعيش دون عائلتي، دون مأوى وجبل»
 
عندما أُصيب بحبسةٍ كلامية لم يُدرك رضا أن ما بعد الجبال ومرورًا بالغابات عالمٌ لا يُشبه عالمه، وأن الصمت لم يكُن عدم القدرة على الكلام، بل هو الصمت عن الحق.
 
باع رضا اسمه وعقد هدنةً مع الموت.
 
الرواية من الروايات الإبداعية المتميزة في بابها وموضوعها استخدام اللغة الفصيحة في حوارها بطريقة عفوية وبساطة وابتعدت عن الجمل والكلمات الصعبة بأسلوب أدبي مشرق ومشوق نتابع احداث دون كلل أو ملل.
 
لقد كانت الروائية السرحان موفقة في طرحها وحوارها ولغتها وسردها.
 
دخلت عوالم السرد والتسرديب بقوة باقتدار وثقة بدلالالة واضحة على تنوع وعمق ثقافتها المتنوعة.
 
أبعاد الرواية:
 
تتحدث الرواية عن حقبةٍ قلّما أشارت إليها الأقلام والتي تدمج ما بين واقع الإرهاب المُبطّن والطفولة، وبين حالة ذوي الاحتياجات الخاصة.
 
وهُنا نذكر حالته كطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة.
 
لم تتناول الرواية الإرهاب من الناحية الدينية ولا ذِكر الديانات بأيّ شَكل، بَلْ تناولتْ الأثر الناتِج عَنه وطَريقة انتشاره. لِنَكتشف عند التوغل بينهم بأن رسالتهم كانت مُختلفة عمّا آلت اليه الأمور.
 
وهُنا يأخذنا (رضا) معه إلى أرضٍ لا تُشبه منزلهُ في جَبل المدية، وبعد مقتل عائلته والتوغل في حياة من قتلوهم. يبدأ رضا الصامت - والذي لُقبّ بروكا لأنها الكلمة الوحيدة التي خرجت من فمه خوفًا عندما سألوه عن اسمه- بأخذنا إلى عالم الإرهاب الحقيقي وليس كما نراه نتيجةً ظاهرة في الإعلام. يتشتت (رضا) ما بين التعامل مع شخصٍ جيد أجبِرَ أنْ يَكونَ بَينهم، وبَينَ عقولٍ تُدير العَمليات لأهدافها الخاصة.
 
مع توالي الأحداث، ما بين استسلام (رضا) للواقع وما بين الماضي الذي يُعيده إلى عالمه الحقيقي في الجبل. هذه الذكريات الحيّة تكون قوّة (رضا).
 
(بروكا) هو رمز للصمت، أما (رضا) الذي يُجسد الصمتّ ما هو إلا رمزاً للضحايا التي قُتلت بصمتْ.
 
سنقف عند الملامح العامة لشخصيات الرواية حتى نكشف دورهم في الرواية واثرهم في إغناء الحوار وكيفية تعامل الروائية معهم.
 
شخصيات الرواية:
 
- رضا (الشخصية الرئيسية/الراوي)
 
طفل في العاشرة من عمره مُصاب بحبسة بروكا وهي إصابة في الجهة اليسرى من الدماغ مما يؤثر على النطق، يستطيع فهم الأحاديث لكنه لا يستطيع النطق، أي أن لغة الاستقبال صحيحة لكن لا يوجد لغة للإرسال، ويُعرف بأن مثل هذه الحالات تحتاج لجلسات علاجية. يوجد حالات لم تتمكن من النطق طوال حياتها وهناك حالات تمكنت من نطق بعض الكلمات منها الاسم.
 
- عائلة رضا ومكونة من:
 
- والدته: تترك عائلتها في وهران لتبقى مع زوجها ونعرف عنها من حديث رضا، حيثُ يتذكر كلماتها وحبها لزراعة الأزهار.
 
-والد رضا: نعرف عنه من كلمات رضا، حيث يذكُرْ أن والده وعمه كانوا يخيفونهم من اللعنة ( وهي التي تحدث في حال الخروج من الجبل)، يذكر بأن والده يعشق الطبيعة لهذا جعلهم يتركون المدينة والاستقرار في الجبل في وسط المزرعة التي يعملون بها.
 
- عم رضا: لا يذكر الكثير عنه، لكنه يخبرنا بأن عمه لحق بوالده لأنه لم يعد يمتلك المال للعيش في مكانٍ آخر، وبأنه يشعر به مُجبراً لهذه الحياة، بالإضافة أن زوجته لم ترغب باللحاق به، لكن أولاده الثلاثة لم يتركوه.
 
- ناصر (ابن عم رضا) :يذكره رضا في فصولٍ كثيرة والسبب أنه أمضى أكثر حياته معه، حيث كانا يتشاركان الحديث من طرفٍ واحد لكن رضا كان مستمعاً لناصر وكاتمًا لأسراره. نرى بأنه يترك الجبل من الفصل الأول لأنه لم يعد يحتمل الحياة فيها، ثم يذكر رضا في الفصول اللاحقة بأن ناصر ترك الجبل بعد أن اختفت أخته آيه وهي خطيبة ناصر وعشق طفولته.
 
- أولاد عم رضا (صالح وسليم) :لم يذكر شيئاً عنهم، لأن كل ذكرياته مع ابن عمه ناصر.
 
- آيه (أخت رضا): تكون خطيبة ناصر، لكنها لم ترغب به يوماً. لا يذكر رضا سوى أنه فقد أخته بيومٍ واحد دون أن يعلم السبب، يتذكرها كثيراً لأنها كانت تعتني به وتساعده على تقبّل مرضه، وهي الشخصية الداعمة لرضا في بقية الفصول بسبب ذكرياته معها.
 
- الإرهابيون:
 
- حليم: وهو قائد المجموعة، كان في المهمة التي نُفذت في الجبل ويكون في كل فصول الرواية، يحاول استغلال عجز رضا بالكلام لهذا يوكل له بالكثير من المهمات، وليس ذلك فقط، بل هو يؤمن بأنه هذا الطفل يمتلك ما لا يمتلكه غيره وكان يأمل بأن يصنع آلةً للموت من خلاله.
 
- رسول:
 
هو لقب أطلقوه عليه، لأنه مهمته حفظ المعلومات وإيصالها، ويمتلك ذاكرة هائلة، يكون في العديد من الفصول، في البداية يذكره رضا بشكل عابر، لكن عندما ينتقلون لمكانٍ آخر فأن رضا سيعيش عند عائلة رسول وهي التي سنتعرف عليها فيما بعد.
 
- خاطر (ابن رسول)
 
شاب في مقتبل العمر، يُخرج حقده الدفين بوجه رضا، ويناديه بالمتسول والأخرس، وبهذا يتمنى رضا الموت كثيراً. هذه الشخصية من الشخصيات الضاغطة على رضا.
 
- سلوى (ابنة رسول)
 
فتاة في الخامسة من عمرها، يحاول رضا اللعب معها، وعندما تفقد سلوى كل عائلتها بسبب الارهابيين انفسهم يقوم رضا بالاعتناء بها حتى شعر بها عائلته التي فقدها وهي بدورها تتشبث به خوف أن تفقده أيضاً، فيرى بها طفولته المفقودة.
 
- يونس: أحد الارهابيين، يُخبر رضا قصة حياته وكيف تم انضمامه بالمجموعة، وأن فقره وعجزه وانتحار زوجته وقتلها لأطفال قد جعل الحقد ينمو في قلبه، يشعر يونس بالندم لكنه يخاف التراجع لكي لا يقتلونه، نرى فيما بعد بأن يونس لم يعد يحتمل ويريد ترك المجموعة، لكنهم لا يدعونه وشأنه، فيتم استغلال رضا للتخلص من يونس.
 
- رحمة: فتاة تصغر رضا بسنة واحدة، تقوم بالاعتناء فيه بعد أن يُصاب بحمى شديدة تكاد تفتك به، يتعلق بها وتقوم بقراءة الكتب له ومحاولة تعليمه الكتابة لأنها تملك العديد من الكتب، يرى رضا العالم من خلال الكتب.
 
- رفيق: ينضم للمجموعة لأجل عدة مهمات، يهتم لأمر رضا ويشفق لحاله، يقوم بتدريب رضا على استخدام الاسلحة لأجل مهمةٍ لم يُرد له المشاركة فيها، يقوم رفيق بمعرفة اسم رضا من خلال لعبة على الرمال، وبهذا يشعر رضا بالأمل لهذا الرفيق الجديد لكن الأمر لا يستمر.
 
- سيف (ابن عبد الرحيم)
 
يقوم باغتصاب الطفلة سلوى ويشهد على ذلك رضا، فيقوم بإخبار عائلة رسول.
 
نعيد الإجابة عن التساؤل الاول، إن الروائية كيف استطاعت الربط بين الأحداث والأبعاد الفنية.
 
المبدع الحقيقي هو دائمًا في تواصل مع قضايا أمته الكبيرة يعيش هموم قضاياها بقلبه وقلمه ووجدانه. لا ينظر إلى هذه القضايا من برج عاجي أو عزلة وإنما يعبر عنها بفكره ودمه وإبداعه وفي حوار متواصل ومستمر يكشف عن الجوانب المضيئة ويعري الجوانب المعتمة والمظلمة يحدث التغيير وينير الطريق.
 
والعمل الإبداعي في حقيقته وسيلة كبيرة ومهمة وطاقة إبداعية موثرة تستطيع التغيير بأسلوب جمالي خلاق.
 
لقد استلهمت الروائية السرحان من التاريخ الحديث صور واحداث وسيلة تعبيرية وفنية حتى نأخذ العبر والدروس ونعي حركة التاريخ ومعرفة تزييف الحقائق والقضايا، مزجت بين الخيال والواقع بتناغم وأسلوب آسر يغريك في القراءة وطرح الأسئلة لما يحدث ذلك ولمصلحة من مشاهد الرواية، نصوص جمالية أدبية رسمتها بريشة الفنانة والمتفننة.
 
وخاتمة القول إن هذه الرواية الأولى للروائية عهود تبشر في إبداع وعطاء في عالم السرد دخلت المشهد الإبداع وهي تملك أدواتها الإبداعية بثقة واقتدار. ستكون في طليعة الروائيين العرب تغني الحركة الأدبية الأردنية خاصة والعربية عامة بفيض من إبداعها المتميز وجدية وأصالة موضوعها وطرحها العميق وجمال معمارها الفني. نرحب بها في صفوف المبدعين وارباب القلم وأصحاب الرؤية الفنية الممتدة.