عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Oct-2019

رومانسية القومية العربية في رواية (عودة الذيب) لسليمان الأزرعي
 
مجدي دعيبس
 الدستور - مع الأنفاس الاخيرة للعهد العثماني-وما رافقها من ظروف دولية وإقليمية- اشتدت الروح القومية عند العرب وبزغ فجر جديد بعد أن ظل الدين لفترة طويلة يُلطّف العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، ثم جاءت الدولة وموقعة ميسلون التي عمّدت الوصاية الأوروبية على المنطقة  فتعمّقت فكرة القومية في النفوس وخاصة مع ازدياد الوعي بين الشباب المتحمس للحرية والاستقلال وأمجاد العرب الغابرة.
رواية (عودة الذيب) ترصد النضال القومي السوري ضد المستعمر العثماني ثم الفرنسي والإنجليزي من خلال تتبع حياة الشخصية الرئيسة في الرواية وهي (ذيب اللافي). يسرد المؤلف الأحداث من خلال خمسة وعشرين فصلا تعكس أهم المحطات الحاضرة في الذاكرة من كفاح الحركة القومية على أن العديد من هذه الفصول قادر على الوقوف بمفرده وقول ما يريد قوله بدون الاستناد على ما سبق أو الالتفات إلى ما تأخر. وكانت التقنية الموفقة التي انتهجها الكاتب للتملص من فخ السرد التاريخي المحض هي أن يقحم بطله في الأحداث ويحركه مع دائرة الضوء حيث ما تحط في أقطار سوريا الكبرى، فيظهر التاريخ الجمعي على أنه تاريخ شخصي بعيد كل البعد عن منهج المؤرخين المعروف.
الرواية زاخرة بالشخصيات النابضة التي حملت أدوارها بجدارة واقتدار؛صالح الفياض وشخصية الجاسوسالتي أراد لها المؤلف أن تعادل شخصية ذيب اللافي فيظهر الخير والنزاهة مقابل الشر والخسة.بالإضافة إلى عشرات الشخصيات التي أثرت العمل الروائي مثل راشد السلمان ومختار القرية وحنا الفايز وأسعد شرار وغيرهم. كما فيها من الموروث الشعبي والمرويّات المنقولة التي طبعت حياة الأجداد بصبغة ستراها الأجيال اللاحقة كحكايات حميمة في ليالي الشتاء الباردة مثل حكاية بئر الخزين الذي تم الاهتداء إليها من خلال نبش ذاكرة الدواب التي نقلت الأحمال في ذلك الوقت. تم التبرع بالحبوب المخزونة لدعم الثورة العربية الكبرى وهي إشارة إلى وقوف الجميع صفا واحدا وراء الثورة.
رومانسية العرب الأولى وهي قصة المجنون مع صاحبته ليلى العامرية كانت وما زالت موضعا لإبداع القلم والريشة وخشبة المسرح من قبل العرب وغيرهم من الأمم، وهي أقدم من رومانسية روميو وجولييت أو رومانسية عرس الدم. هام المجنون- ولعل هذه الصفة من باب التجني- بابنة عمه وقال فيه شعرا خالدا:
تعلّقت ليلى وهي ذات تمائم   
ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا   
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
وعلى عادة العرب في ذلك العهد- وهو على نحو أوفى في زمن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان- مُنعت عنه لتشببه بها فهام على وجهه وتقرّحت روحه حتى أنهكته جراح الحب والجوى. عندما قرأتُ شعره وسيرته أول ما قرأت قلت في نفسي: كيف له أن يكون بهذا التخبّط وسوء التقدير؟ لماذا لم يكتم حبه ويمسك لسانه ويحبس شيطان شعره حتى ينال مراده لاسيما أنه يدرك تماما خطورة فعله والنتائج المترتبة عليه. عندما مضت الأيام عرفت أن القضية أعقد من هذا بكثير. عاطفة قوية استولت على روحه وملكت زمام أمره. لم يكن باستطاعته أن يكتمها وإلا نالت منه فأطلقها وكان ما كان. أراد أن يعرف الطير والحجر ورمال الصحراء بحبه لليلى فقال فيها الشعر حتى يخفف من النار التي كادت أن تأتي عليه.
رومانسية ذيب وسلمى في سردية القومية العربية تقابل رومانسية العرب الخالدة وقصة قيس وليلى والشعر المحفوظ في بطون الكتب. ذيب اللافي أحب ابنة عمه سلمى وهام بها فتزوجها وأنجب منها.ولم تنل قسوة حياة الريف من رومانسية وحب الزوج لزوجته التي انتظرت عودته كل مساء، فإذا سمعت صوت غنائه لوّحت بالفانوس لتحيته والترحيب بعودته،ثم كانت القضية التي أرّقته وعلى مثال صاحبنا قيس بن الملوّح لم يستطع القعود دونها لأنه لو فعل لمات كمدا فترك أهله وبيته والتحق برفاقه من دعاة القومية ومقاومة المستعمر. عندما عاد إلى قريته وأهله بعد سنوات طويلة من الكفاح والمقاومة وجد أولاده قد كبروا وزوجته قد تزوجت على أساس أنهم لم يسمعوا منه لسنوات فظنوه ميتا. وفي موقف من أكثر المواقف حزنا وتأثيرا والذي يصلح لبناء مسرحية متكاملة حوله عندما لم يجد من يتعرف عليه في القرية بعد هذا الغياب بسبب الحروق التي نالت من وجهه وغيّرت من ملامحه. عرفته الزوجة لكنها اختارت أن تنكره حتى لا تتعقد الأمور ويمضي النزر المتبقي من الحياة بسلاسة وبلا أي منغصات. بات ليلته وفي الصباح كان قد غادر القرية إلى غير رجعة بعد أن أدركأنه يجب أن ينسحب من المشهد ويضحي بنفسه لصالح زوجته وأبنائه.
ليلى العامرية تزوجت الذي اختاره أهلها وربما تعرضت لضغوط هائلة من المجتمع المحكوم بعادات وتقاليد راسخة ومضت في حياتها وظلّت تتنسم أخبار قيس وربما كان هذا بسبب الشعور بالذنب لما آل إليه من الضياع والتشتت ولكن موقفها وموقف سلمى يأتيان على ذات السوية من السلبية فكلتاهما حكّمتا عقل المحب وليس قلبه وهذا منطق مرفوض في حساب العشق والغرام، في حين خالف لوركا هذا المنهج في (عرس الدم) فانتفضت العروس في اللحظة الأخيرة لتقلب الطاولة وتتمرد على قدرها المرسوم وتهرب مع حبيبها (ليوناردو) الذي لقي حتفه فيما بعد إلى جانب غريمه العريس.عرس الدم مسرحية للشاعر الإسباني المعروف لوركا كتبها عام 1933 وهي مأخوذة عن حادثة حقيقية في الريف الإسباني وقد صدرت رواية قصيرة بعنوان (خنجر القرنفل) تتحدث عن الحادثة ذاتها. 
ذيب اللافي الذي عاش رومانسية رقيقة مع زوجته يأتي يوم وتنتفض الثورة في روح العاشق ضد الظلم والقهر وتشتد عليه فيضرب في أقطار سوريا حتى يخفف من وطأتها، وعندما يغلبه الشوق للعشير والولد يعود إلى القرية ليجد خيبة أمل كبيرة بانتظاره. عندما خاض رحلة الكفاح الطويلة في سبيل قيم الحرية والعدل والمساواة فقد مارس الرومانسية وأيضا عندما غادر القرية في الصباح من دون أن يشعر به أحد مارس الرومانسية، لكنها رومانسية من نوع خاص؛ هي رومانسية القومية العربية. قد تلتقي مع الرومانسيات الأخرى وقد تفترق عنها لكنها تبقى مقرونة بذلك البطل القومي الذي الذي عاش ومات وهُزم برومانسية.
كغيرها من الرومانسيات المعروفة يظهر فيها العنصر التراجيدي المؤثر الذي يستهلك الكثير من المشاعر الجيّاشة التي تشد القارىء وتدفعه لممارسة إنسانيته والتعاطف مع الشخصيات والتفاعل مع الأحداث. وفي الختام أكرر إن رواية (عودة الذيب) أو بالذات الفصل الذي يسرد وقائع العودة للقرية يمكن أن يُحوّل إلى عمل مسرحي جميل بقلم مبدع يعرف كيف يقود الفصول والمشاهد والمونولوج الذي سيثري الجانب الإنسانيوينقل القارىء إلى أجواء مسرحية (عودة الذيب) التي نأمل أن نراها كعمل متكامل على خشبة المسرح في المستقبل القريب.
الأديب سليمان الأزرعي يحمل درجة الدكتوراة من الجامعة اللبنانية بالنقد الحديث وعمل كأستاذ جامعي في عدد من الجامعات الأردنية وصدر له عدة مجموعات قصصية حملت آخرها عنوان (أمميّة) وله مؤلفات في النقد والدراسات مثل (الرواية الجديدة في الأردن) و(هؤلاء الكبار) وتعتبر (عودة الذيب) الرواية الوحيدة في رصيده. ومما يجدر إثباته هنا ما ذكره المؤلف في الشهادة الإبداعية التي قدمها في حفل التوقيع حيث قال إنه لم يكن ينوي كتابة عمل روائي عندما قرأ مئة مرجع كتحضير لمادة مشروع كتاب آخر لا علاقة له بذيب اللافي لكن الأمر انتهى على هذا النحو غير المتوقع ولعله من حسن الطالع للمكتبة العربية هذا التحول المحمود.