عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Jun-2025

آمال موسى: العاشقة التي نظر إليها النهر!

 القدس العربي-بروين حبيب

قصيدة النثر قصيدة مظلومة وغير محظوظة، كان المقدر لها أن تكون مستقبل الشعر العربي، بعد أن تخلص تدريجيا من سطوة الأوزان في منتصف القرن العشرين، مع ظهور الشعر الحر، أو قصيدة التفعيلة، فتجاوز الشعراء النظام الصارم للبيت ذي الشطرين، المنتهي بروي واحد، وبعدها بعقد أو يزيد قليلا حدثت النقلة الأكبر في تاريخ الشعر العربي مع جماعة مجلة «شعر»، وعلى أيدي شعراء كبار فرضوا موهبتهم وافتكوا الاعتراف بشاعريتهم مثل، محمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وأدونيس، وصرنا نقرأ شعرا مختلفا يحتفي بالهامشي والعادي واليومي وشعرية التفاصيل، بدل صخب الإيقاع وقعقعة الألفاظ وتقريرية القضايا الكبرى.
ولكن هذه الفرحة لم تتم، فقد ظُلمت قصيدة النثر من أحبابها وخصومها على السواء، ظلمتها الحملة الشرسة، التي طالت رموزها بتهم جائرة فصوّرتهم بأنهم معاول لتهديم صرح الشعر العربي، ومن ثم كل قيمنا وتاريخنا وحضارتها، وبلغت حدَّ اتهام روادها بالعمالة للغرب منطلق قصيدة النثر، وظلمها كثير ممن لا يجري ماء الشعرية في نصوصه ولكنه ينسب ما يكتب إلى قصيدة النثر، فتسوّر كلّ من خطَّ سوادا على بياض حائطها، ويسرت وسائل التواصل الحديثة سبل النشر، فأغرقتنا سيول من الهذر والعبث واللغو، بدعوى أنها قصيدة نثر، وفاقم من هذه المهزلة غياب الصوت الناقد. فتعقّدُ لغة النقد وسَكَنُها برجا عاجيا من المصطلحات المستغلقة على غير المتخصصين، جرّأ كل خربشة أن تلبس ثوب قصيدة النثر. والموجع أن أصواتا حقيقية غطى عليها هذا العبث، وتجارب ثمينة انتقلت من متن الشعر إلى هامشه، لا تجد سبيلا إلى النشر، ولا يُلتفت لها في ظل طوفان النصوص الزائفة، التي تسمى ظلما وعدوانا شعرا.
أكتب هذا التقديم وعيني على مجموعة شعرية بعنوان «عاشقة ولا أنظر في النّهر» للشاعرة التونسية آمال موسى، أعادت لي يقيني الأول بأن مستقبل الشعر العربي لقصيدة النثر، والشاعرة التي تسنمت منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة في بلدها تونس، قادمة إلى الشعر من تخصص أكاديمي في علم الاجتماع، كما كانت لفترة مديرة لمهرجان قرطاج الدولي الشهير، وكاتبة مقال أسبوعي، ولكن تعدد الاهتمامات هذا لم يسرقها من شغفها الأبرز، الشعر، حيث تعد مجموعتها هذه «عاشقة ولا أنظر في النّهر» الثامنة في معمارها الشعري، بعد أن لفتت الأنظار إليها منذ قرابة ثلاثين سنة، حين نشرت مجموعتها الأولى «أنثى الماء» سنة 1997. فكانت دواوينها المنشورة، كما وصفها الناقد محمد الغزي، «تؤلف مجتمعة نشيداً طويلاً في مديح المرأة، والاحتفاء بقواها المبدعة»، وقد أهّلتها هذه المثابرة على الكتابة للحصول على جوائز شعرية مهمة مثل جائزة «كاتيلو» العالمية للشعر (2022)، التي تمنحها الأكاديمية العالمية للشعر.
 
ديوانها «عاشقة ولا أنظر في النّهر» من عنوانه ينبئنا بلغة شعرية مغايرة محملة بالدلالات، فهذه العتبة النصية الأولى تومئ بطرف خفي إلى نرسيس «العاشق الذي ينظر في النهر»، ذلك الشاب الجميل المغرور الذي رفض حب الآخرين له فعاقبته الآلهة بالنظر إلى صورته المنعكسة على سطح الماء فعشقها، وبقي أسيرا لها يحدق فيها، إلى أن ذبل ومات وتحول إلى زهرة النرجس، التي اشتقت منها صفة النرجسية، ولكن المفارقة أن آمال موسى العاشقة لا تنظر في النهر، وبالتالي تجنبت مصير سلفها نرسيس، وهذه النرجسية عند الشاعرة، أشار إليها محمود المسعدي مقدم ديوانها الأول «أنثى الماء»، حين كتب «وهيهات أن يسلم من عجبه الطاووس الكامن فيك وفيها وفي جميع الناس على السواء». وتتجلى أيضا في عنوان أحد مجموعاتها الشعرية «مثلي تتلألأ النجوم». ولكنها نرجسية محمودة لا مقيتة نتج عنها احتفاء بروحها وجسدها، دون وقوع في الابتذال ولا مخاطبة الغرائز «فالجسد هو المركزُ الذي عليه دوران (شعرها) فيما يشبه الطقس والشعيرة، فليس القصد من ذلك أن يصير الجسد مصدر إغواء وإغراء وإنّما باعتباره معبرا إلى روح الأنوثة الخالصة»، كما كتب عنها الأكاديمي التونسي أحمد الجوة في مقاله «آمال موسى وتجليات الماء والضوء في شعرها»، لذلك اتسم شعرها بالجرأة: جرأة المتصالحة مع جسدها، واثقة الخطوة تكتب بوحها بلا فضائحية ولا استعراض، بل برغبة قصدية في التعبير عن قضايا المرأة صغيرها وكبيرها العاطفي منها والجسدي العلني والحميم، ونقل كيان المرأة جسدا ومشاعر من الهامش إلى المتن ومن الأطراف إلى المركز، محتفية بالجسد في تألقه وتفتحه حين تكتب «ها إني نهضت من موتي/ كأبهى ما يكون/ في عنفوان الأنوثة/ أتأمل ابتسامة الماء الدافق وهو ينهمر من شَعري حتى أناملي/ يحتفي بتضاريسي برفق شديد/ لكأنّ الماءَ أنثى هو أيضاً».
 
وبعيدا عن المواضيع التي تتناولها قصيدة المرأة عادة مثل، حريتها وتحدي الهيمنة الذكورية، تدخل آمال موسى مطبخها وتحوله إلى ثيمة شعرية يذكرنا بما كتبته الشاعرة الإيرانية الراحلة شيوا أرسطويي «إذا كانت هناك امرأة تحب مطبخها، فلماذا تنكر ذلك؟ لماذا يجب عليّ أن أنكر صفاتي الداخلية؟ بل على العكس، فأنا أؤكد عليها وأحوّلها إلى فضيلة ونصف» وهذا ما فعلته آمال موسى، وقد لاحظ محمد الغزي هذا المطبخ الشعري فكتب «برزت صورة المطبخ في هذا الديوان، المطبخ بوصفه المعادل الرمزي لمختبر الكتابة، لكيمياء الألوان والأصوات والعطور، للمتعة والانتشاء»، فوصفت في قصيدتها «أنا والبيضة شقيقتان» علاقتها بمطبخها، بل علاقة الطبخ بالكتابة حين كتبت «المطبخ غرفة تستيقظ فيها الشهوات/ حسابنا البنكي المبعثر داخل الثلاجة وبين الطاولة وسلة المهملات/ البعض يكتب/ البعض يُعدّ طعامه/ وأنا أكتب وأطبخ». ولغة الطعام ومشتقاته حاضرة في مجموعتها الشعرية فتقول مثلا «أحب.. الاسترخاء صحبة آنية مملوءة بالشوكولاتة السويسرية/ وقطع من الكنافة النابلسية شهية الرائحة والحقيقة/ الصمت في الحب كراميل بالبندق»، أو كما جاء في قصيدة «كم أحن» فمن بين الأشياء الجوهرية التي يجذبها الحنين إليها ما له علاقة بالأكل، دون اهتمام باحتساب السعيرات الحرارية، فهي تحن إلى «أكل ثلاث وجبات في اليوم/ وما بينها شكولاتة وموز وبسكويت ومكسّرات وحلوى السّمسم/ كان جسدي حريقا/ ووزني ثابتا مثل عودي».
وكان لا بد أيضا للمواضيع الراهنة أن تجد سبيلها بدورها إلى قصيدة آمال موسى فوباء مثل كورونا شغل العالم لسنوات فرض نفسه عليها، فكتبت قصيدة «العشق زمن كورونا» في تناص واضح مع رواية ماركيز الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا» ولم تُخفِ هذه الإحالة، بل أعلنتها إذ جاء في قصيدتها «أظن يا ماركيز أن الحب زمن الكوليرا ظل شريفا»، ولكن هذا الحب الكوروني لم يكن سوى لعزلتها لا لرجل من لحم ودم فكتبت «شكرا غرفتي/ أنت الرجل الذي أسكنه/ أنت الحب الوحيد زمن الكورونا». هذه الراهنية في قصائد مجموعة «عاشقة ولا أنظر في النّهر» تجلت أيضا في توظيف لغة جديدة أعتبرها نقطة قوة الديوان، نجد فيها لغة وسائل التواصل الاجتماعي كقولها «ما أبخس عشق الواتساب والفايسبوك» أو كما جاء في قصيدة أخرى، «لم يكن في حقيبتي.. هاتف ذكي أميّز فيه بين رنتي الميسنجر والواتساب» نجد هذه المفردات الحديثة متجاورة مع لغة تراثية محملة بالدلالات تتمظهر في جمل مثل «ناقة أشعلت نار البسوس» أو «يداه قدّتا» أو «حمّالة الحطب» أو الإشارة إلى بيت عنترة الشهير: (فوددت تقبيل السيوف لأنها… لمعت كبارق ثغرك المتبسّم) في قولها «السكين عنترة وثغر عبلة الباسم»، وتتنوع اللغة حسب جو القصيدة فهي توظف مصطلحات اللسانيات والنقد الأدبي الحديث في معمار قصيدتها «ها أني في اللحظة الصفر من العشق/ في اللحظة الصفر من الكتابة/ أجالس عاشقا منهكا وجان بودريار ورولان بارت/ قلت لبودريار: الدال والمدلول عادا إلى الصفر أخيرا»، أو توظف ما له علاقة بتخصصها الأكاديمي علم الاجتماع، أو الفلسفة فتستحضر أوغست كونت «لم يكن كونت وضعيا في الحب/ ظل قلبه لاهوتيا/ كبير الوضعيين نهشه الحب»، كما تستحضر ميشال فوكو، وحتى كارل ماركس، موظّفةً مصطلحات مثل البروليتاريا ورأس المال، فتكتب «البيضة أرهقت كارل ماركس كثيرا/ هل هي من طبقة الفقراء أو الأثرياء»، ونجد أحيانا اللغة الصوفية متجلية في مقطع مثل «يا إله العاشقين/ لقد مس قلبي الهوى/ فمال عن هواك قليلا/ لا تجعل التراب دعائي/ وروحي بنار الجوى تبتلى»، أو تتناص مع شطر ابن الفارض «قلبي يحدثني بأنك متلفي»، فتكتب «نفسي تحدثني بأنك معذبي».
هذا الثراء القاموسي الذي يمتح من التراث ومن اللغة المعاصرة شكّل فرادة تجربة آمال موسى، ومنح قصيدتها حيوية ميّزتها عن مجايليها بقدرتها على توظيف الفلسفة والمعارف الحديثة، دون تكلف، وأعاد لنا اليقين نحن الذي راهنّا على قصيدة النثر، أنه رغم غلاة التقليديين وعبث المتطفلين، تبقى بل يجب أن تكون قصيدة النثر مستقبل الشعر العربي.
 
شاعرة وإعلامية من البحرين