الراي
ما بين خريف راحل و شتاء قادم تسكن الوحشة زوايا النفس البشرية بعبء المشاعر الخفية المُرهقة المتساقطة كما أوراق الأشجار المصفرة الذابلة فوق رصيف العمر.. ذلك الرصيف الذي جلسنا عليه مراراً و تكراراً.. من وزر الأثقال.. وطأة الضغوط... تفاقم الخذلان.. محملين باحساس الخيبة تلو الخيبة.. ومتذوقين طعم الهزيمة المتكررة.. في معارك لم نحقق فيها أو بعدها أيَّ شيء يذكر ... سوى تجرع المزيد من الآلام.
فتعصف بنا تلك الرياح الباردة لتسلم تشرين لكانون بينما يبقى العقل عالقاً بضبابية مفرطة تتأرجح فيها مختلف الظنون... أهي السوداوية المعتادة... الواقعية المجردة أم أنها خاتمة اعترافات فارسٍ ترجل عن جواده الأشهب منذ زمن بعيد.. وألقى بصمت مطبق سيفه الملوح العتيد.. مخمداً أنفاس صيحاته المجلجلة باعتداد -أقرب ما يكون منه إلى الغرور- حاملاً بوهن بطولاته الوهمية لمثواها الأخير بلا أدنى مراسم تشييع. هاهنا.. تذوي الحروف في متاهات التفكير.. تتلاشى الكلمات في عمق التحليل.. تنفذ الأحبار فتجف الأقلام.. ليسود الصمت حيرةً إلى أمدٍ غير معلوم.
ما يُعجز العقل و المنطق أحياناً أنه و بالرغم من كل ما وصلنا إليه من تطور و حضارة نباهي بها أنفسنا بجدارة و نتفاخر بانجازات في كل الميادين جبارة ما زلنا بحقيقتنا الغير معلنه نحيا وفق شريعة الغاب.. بقوالب مدنية حديثة مزيفة باهتة.. شريعة يزداد فيها القوي قوة و بطشاً.. تحلق فيها الكواسر الجوارح بعنجهية تعالياً و سطوة لتتمرد من تحت ظلال أجنحتها الجرذان الزاحفة في مستنقعات الجُبن و الغدر على كل القيم الجوهرية. شريعة يزداد فيها الضعيف ضعفاً... لينجو بذاته يطرق كل الأبواب العتيدة أو حتى الغريبة.. يحتمي برجفاته في كنف كل ملجأ متاح.. وإن كان في يقين قناعاته أن منها ما هو إلا مجرد قواقع خاوية على عروشها.. هشة في جذورها.. متسلقة منمقة في ظهورها.. تعكس تلألأ خادعاً لأضواء عابرة مبهرة في تعرجات طرق لا يُدرك فيها إلى أين يتجه المسير و ما هي نهاية المطاف المحتومة في لعبة المصير.
إنها منظومة كونية أزلية سرمدية.. تبلورت لنظام عالمي بتحديثات متواترة لكنها في نواتها لا تحيد أبداً عن ذات المحور الأساسي ألا وهو الصراع الأبدي ما بين زمر الظلام وبوارق النور وما يتدرج بينهما من ألوان وأطياف متعددة تباعد وتقنن بفجوات وجودها حدة الصراع المستمر المستعر بين الفينة والأخرى.
يقال أن في كل خير شر وفي كل شر خير (نظرية اليين واليانغ في الفلسفة الصينية القديمة والتي تقوم عليها الكثير من المبادىء الأساسية في معتقدات المجتمعات الشرق آسيوية) فلا هناك شر مطلق ولا هناك خير مطلق.. فهو تجاذب الأضداد لتكتمل الحياة فلا معنى لشمس النهار دون حلكة سواد الليل.. لا متعة للذة النجاح لولا مرارة الفشل.. وكل ما يتماثل مع ذلك في شتى المجالات بينما في الايمان العقائدي الراسخ هناك خير و شر ... ثواب وعقاب.. جنة ونار فمهما تكالبت المحن وجَهد البلاء وأُريد الضر بجعل كل خير شر وجعل كل شر خير فإن إرادة الله فوق كل تدبير تجعل في ضرهم نفعاً وفي كيدهم لهم تدمير -و إن طال الزمن- ثم ليجزوا بما عملوا وعداً حقاً يوم لا ينفع مال و لا بنون (يوم الحساب).
الحياة بمنظوماتها المختلفة هي واقع يفرض نفسه بكل ما فيه من لا منطقية تغاير قناعاتنا الشخصية أو لا تخدم جل مصالحنا الفردية فمن البديهي أن لكل عملة وجهين.. ما يرى بأنه الخير من جانب قد يرى بأنه الشر من الجانب الآخر.. وما بين الجانبين حقائق تتفاوت بمصداقيتها.. أصولها وتبعاتها المترتبة على كُلٍّ منا حسب موقعه. هذه هي الحياة أيام تُتداول وأرزاق باختلاف أنواعها تُقدر فلذلك التسليم أحياناً ليس انهزام أو استسلام إنما وعي وإدراك مستنير بأن ليس كل المعارك لزاماً أن تُخاض وإن الانحناء حتى تمر العواصف الرعناء في أغلب الأحيان أسلم من مجادلات وجدالات بيزنطية في حروب هوجاء عشوائية وإن الخروج بأقل الخسائر يعد فعلياً من أعظم الانتصارات في عالم انقلبت فيه الكثير من الموازين وتغيرت المفاهيم مع بقاء ذلك اليقين القاطع في دواخلنا برحمة رب العالمين وقدرته فوق عباده أجمعين. والله دوماً من وراء القصد