عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Jan-2019

صبحي فحماوي.. روائي يرصد المأساة الفلسطينية

 الدستور-أحمد علي هلال - سوريا

هو مهندس حدائق قبل أن يصبح مبدعاً، يذهب إلى اشتقاق المعادل الفني للواقع، وما يسفر عن هذا المعادل من تنوع وتعدد فني جمالي بدءاً من القصة وإلى الرواية وإلى الأقصوصة فالمسرح فالدراسات والمتابعات.
إذ إن هذا التنوع الذي ينفتح عليه صبحي فحماوي، بجدلية البذرة والتربة، كما النسغ واللون والرائحة، سيحيلنا إلى جدلية العلاقة بين الهندسة والإبداع، وأكثر من ذلك إلى الثمار المعرفية التي ميزت رحلته ومسيرته الإبداعية، ونهضت بغير علامة ناجزة بتنوع مرجعيات ثقافته واتساع حقول رؤيته في المسرود والملفوظ الروائي على وجه الخصوص، وبمعنى آخر في كيفيات الخطاب الروائي الذي أنتجه مبدع يستنهض أسئلة الفن في مقابل استشرافه للواقع بغية النفاذ في خفاياه وعلاقاته الملتبسة على غير مستوى، من الحالة المجتمعية إلى الحالة السياسية والفكرية التي وسمت تلك العوالم لتشي بخطاب معرفي محايد، شكل في خلاصته قيمة بعينها، باتت تشكل غير حافز للدرس النقدي، بانفتاح شكلها وتعدد مضمونها.
ويشكل الدخول إلى أعمال الأديب صبحي فحماوي السردية، مغامرة معرفية، فضلاً عن أن كتاباته هي بوصفها مغامرة سردية بامتياز، على مدى 33 كتاباً وألف أقصوصة ونيف، و7 مسرحيات ومشاهد مسرحية إلى سواها من شواغل تخص الفن الروائي تحقيباً ومواكبةً واستشرافاً، فمنذ روياته الأولى (عذبة)، بوصفها مجمر النكبة، وتسريد أوجاع حيوات شعب وتحولات تلك الحيوات عبر الأزمنة والأمكنة، في تعالقها بثيمات فنية، فضلاً عن خصوصية سردية ومنها على سبيل المثال ثيمة المرأة التي وجدنا تطييفاً لعوالمها في روايته (حرمتان ومحرم)، فهي اكسير التناقضات والمفارقات، من دلالة الاسم إلى دينامية الحدث الدرامي، (في معسكر الحصار تقبع منجرة أبو ريالة وبقالية غظب، ومستودع البطل لمواد الحديد، ومن هناك مستودع الفار للبلاط، ومحل ألبان الثور ومغسلة السلطة للسيارات، وإلى جوارها محل بناشر العذراء)!
إذ نلحظ تعضيداً للسخرية في بناء المفارقة التي تأخذ بالثنائيات الضدية، لتشكل في بؤرها السردية المشعة محمولات دلالية تقود متون حكاياته، ولعل هذه الثيمة – السخرية - ستستمر في روايته (الأرملة السوداء)، وهي سخرية مركبة بين السارد وشخصياته إذ يوظف في متنها الحكائي شعراً وموسيقا وأغاني مروراً بجملة فنون أخرى، سيتأسس عليها فضاء روايته على المستوى البصري بقيمته الحوارية، في استثماره للمنصات اتصالاً وانفصالاً وبما يسفر عنه من التماعات دلالية قد تعني في واحدة من دلالاتها توليداً لـ (لذة النص)، بحسب رولاند بارت، وقد تعني في الدلالة القصية استنبات كثافة شعرية موازية، سوف تتعدد إلى شعريات تشي بها فعاليات التدوين والإحياء، بتلوين محكي اللغة، وذلك ما يعني في المنظومة السيميائية إحالة لمفهوم العلامة الأيقونية، التي نتعرف بها على ثراء محكي الرواية لغوياً ودلالياً، سيما وأن النطاق الدلالي للملفوظ الروائي سيشي أيضاً بمرجعيات النص الروائي، الثقافية ومكوناته البنائية، التي سنجد غير مثال عليها في أعماله الروائية اللاحقة، وهي أعمال مترعة بهواجس تجربته الروائية وأسئلته التي يستدعيها عبر الجنس الروائي موارباً عن (رجل الفايكنج –أبو جنوة- الذي انتقل متجمداً من الشمالي القطبي إلى المناطق الدافئة، فتحرك دمه المتجمد وتوحش، فلم يجد غير الوطن العربي، مكاناً يستبيحه لينفث فيه سمومه، ويجرب قواه التقنية، التي ما كانت لولا حضارة الكنعانيين العرب الأولى).
ولعل روايته (الحب في زمن العولمة) التي تحكي عن تغول رأس المال، الذي يستخف بالإنسانية، وليس فقط بالشعب العربي الفلسطيني، رأس المال الذي يهدم القيم ويفككها، ويهدم الثقافة ويشظيها، ويوظف الجنس لتتحلل منظومات أخلاقية بعينها، يقول صاحب رأس المال لفريق المحامين التابعين له: (المسألة مسألة أرباح... إنها مجرد أرقام، إذا كانت غرامة دفن نفايات نووية في بلادنا هي مليونا دولار، وأرباحنا من دفن هذه النفايات هي عشرة ملايين دولار، فلا مانع من دفن النفايات النووية... ادفنوها في بلادنا).
ويمكن لحمدة المحمودية بطلة روايته (سروال بلقيس) أن تتساءل: (هل يقدر الناس الشهداء الذين يسقطون فداء للوطن... لماذا لا يتم تقاسم المسؤوليات بين ذوي الشهداء وذوي الأحياء؟).
فيما تبدو روايته (اسكندرية 2050)، مهجوسة بأسئلة المستقبل، وبذات الوقت تتلامح فيها مرجعية الروائي صبحي فحماوي الهندسية، التي يستثمرها في: (تحويل ألوان الناس كلهم إلى اللون الأخضر، وكذلك الحيوانات... وصاروا جميعهم يأكلون من التمثيل الضوئي، فتوقف الصراع بينهم).
لعل هذه الرواية تحيلنا إلى مفهوم الخيال العلمي، الذي سعى غير روائي إلى أرضنته في خطابه الروائي، ولعل ذلك ما يمثل احدى هواجس الكاتب صبحي فحماوي، الذي يذهب إلى ما انتهى إليه الخيال العلمي في الذاكرة والمخيلة الأدبية، إلى الخير العام والمساواة، الذي جهرت به روايات اليوتوبيا من جمهورية أفلاطون، وعالم هكسلي الطريف الشجاع، ومدينة الله للقديس أوغسطين، ومدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا وسواهم.
والحال أن روايته الراهنة (قاع البلد)، الرواية المترعة بتقنية الميتاقص، وبالنزوع إلى تسريد المأساة الفلسطينية، ورصدها عبر تحولات شخصياته القلقة التي تسعى لإيجاد مثالها، أو قوة مثالها، في شخصياته الروائية أو القصصية، لنذهب إلى ما يعني حقيقة الإبداع، أو الحقيقة الروائية القائمة على استلهام الواقع والأحداث عابرة قوسيها نكبة 48 ونكسة 67، وصولاً إلى تراجيديا المصائر وعبر شخصيات تبحث عن مصائرها، (الهربيد عوض، طالب الطب سامي، أبو نجيب الجبالي، الشيخ محسن لهلوب، العجوز أبو غليون.. إلخ).
لينتهي الفصل الأخير منها بالعنوان الدّال (عملية فدائية مذهلة)، وجاء في بيانها السردي إعلان إذاعة صوت العرب من القاهرة في أخبار الساعة الثامنة مساء، أن مجموعة فدائية احتلت حافلة ركاب تابعة لشركة (ايجد) الإسرائيلية في مدينة العفولة، كانت متجهة إلى الناصرة، فمدينة حيفا، وصولاً إلى القدس، لكن هذا الحدث سينتقل من الإخبار إلى ثيمة العودة، التي تشكل ملمحاً هاجسياً في الرواية، ذلك هو هاجس الهربيد عوض (القادم من عمان فدائياً ليتخلص من التهجير الإسرائيلي القسري، وليقضي بقية عمره سواء أكان دقيقة أو يوماً، أو العمر كله على تراب وطنه فلسطين، إذ أنه واجه متاهة في الصحاري الشرقية دمرت حياته كلها، وليست عائلته فقط، ولهذا لم تبقَ أمامه وسيلة للحياة سوى العودة.. واجب العودة، وليس حق العودة).
ويمكن للروائي بوصفه السارد الضمني، أن يشي على ألسنة شخوصه بفكرة أثيرة سوف نجد معادلها بالقول التالي: (هناك طرق كثيرة تؤدي إلى عكا وحيفا ويافا وغزة، وذلك كرديف لطريق المقاومة المباشرة... منها طريق العلم والأدب والفن... وطريق الزراعة والصناعة والتجارة).
ولعل رحلة الهربيد عوض لاختراق الحدود الأردنية الفلسطينية للعودة إلى فلسطين، ما يؤكد غير حافز للرواية على أن تجهر بالعودة، وعبر متخيلها السردي لتكون العودة بهذا المعنى، وفي السياق الروائي ذاته دلالة متحركة لمعنى (عملية فدائية مذهلة) الذي أراد منه الروائي صبحي فحماوي، أن يجعل منها وفقاً لمفهوم الأدبية، أي التحفيز الواقعي والتحفيز الجمالي، والتحفيز التأليفي –بهذه المكونات والركائز- أن يكتب رواية تخص العودة عابراً غير مضمر سردي، ينفتح بالكثير من الدلالات، على شخوصه التي ركبت الحافلة، وهي التي سارت على الأقدام بعيداً عن الشريط المحاذي لنهر الأردن، والمدجج بسيارات جيش المحتلين الإسرائيليين وحفريات خنادقهم، لتذهب في عملية فدائية تمثل المعادل للعودة إلى الوطن والبيت في شرق بيت لحم، ليصعدوا الحافلة العمومية وتنطلق بهم.
بالمعنى الذي يذهب به الروائي/ السارد إلى أمثولة العودة بإيجاد معادلاتها الواقعية، والأكثر تعالقاً مع الواقع، مختتماً بها رحلة الهربيد المفتوحة كما رواية قاع البلد بنهايتها المفتوحة أيضاً، بقول روائي لا ينفك على أن يحمل متخيله السردي من الصورة إلى الواقع، إذ لم يعد الهربيد عوض -هنا- مجرد شخصية روائية فحسب، بل قوة مثال والحامل لكبرى المقولات في الذاكرة والوعي الجمعي.
إذ يستثمر الروائي هنا جملة من الأبعاد السيكولوجية لشخصياته، وما يعادلها على المستوى الفني من النهوض بمفهوم العمارة الروائية، والقدرة على تخصيب أرض النص، وأرض النص ليست محض لغة فحسب، بل هي تاريخ ما نسيه التاريخ، وذاكرة على اتساعها وسعتها، تروي لتجهر بما انقطع في سيرورته، فتلتقط تاريخ المهمشين، وليس الهامشيين.
ما يشكل غير تحول في مستوى الخطاب الروائي الفلسطيني بخاصة والعربي بعامة، من تجذير أمثولات الفضاء الشعبي، وتحرير المعنى في مفهوم البطل والبطولة، أي من البطل الفردي إلى البطل الجمعي، وصولاً إلى الشرط الإنساني، الذي مثل حمولة دلالية لأعماله الروائية.
إن صبحي فحماوي النص، هو ذاته الشخص، من دّال حكاياته الفاخر، إلى دوائر شغفه بأن يستنبت فضيلة المعرفة في فضاءات سردية مترعة بالحلم والرؤيا، عبر تقاليد روائية متجددة محكومة بالتجاوز، وبتأثيث الروح، وذلك ما يغذي حقيقة التناسل الإبداعي في حدائقه المعلقة لتصبح لياليه الفلسطينية والعربية مترعة بالنجوم، بفتنة سردها، فتنة معلّلة بحساسية الزهر للنور، والماء للنهر، والنهر للتدفق، تلك هي ينابيع الرؤيا في سرديات صبحي فحماوي.