عسكرة المساعدات.. سياسة تجويع ممنهجة لإعادة تشكيل قطاع غزة
الغد-محمد الكيالي
منذ أشهر، يمارس الكيان الصهيوني، سياسة تجويع ممنهجة في قطاع غزة، ليست فقط عبر الحصار والتجويع الاقتصادي، بل وعبر "عسكرة" المساعدات الإنسانية ذاتها، وتحويلها لأداة ضغط وسيطرة ميدانية.
مؤخرا، تصاعدت تحذيرات منظمات إنسانية ودولية، بشأن هذا النمط الصهيوني الذي يُحكم فيه السيطرة على الغذاء في القطاع، ليوجهه لمناطق محددة، في مشهد يُحاكي سياسات التجميع والتجويع القسري للأهالي الذين تتفاقم مأساتهم يوميا، جراء القصف المستمر وجرائم الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها.
وجاءت مجزرة "مواصي رفح" التي ارتكبتها قوات الاحتلال صباح الأحد الماضي، أثناء تدافع المدنيين للحصول على المساعدات، لتضع ما يسمى بـ"الآلية الأميركية- الصهيونية لتوزيع الإغاثة" تحت مجهر الاتهام الأخلاقي والإنساني.
ففي الوقت الذي يستشهد فيه عشرات المدنيين، ويُجرح المئات لمجرد محاولتهم تأمين لقمة العيش، تتهم منظمة "أطباء بلا حدود" الاحتلال الصهيوني، باستخدام المساعدات كوسيلة للتهجير القسري، ضمن ما وصفته بأنه "إستراتيجية تطهير عرقي"، مدفوعة بأجندة السيطرة والاقتلاع الجماعي.
أمام هذا الواقع المعقد، يُطرح تساؤل ملح: هل ينجح الاحتلال في تكريس سياسة التجويع عبر مساعدات "معسكرة" لتصبح أداة لفرض التهجير الجماعي، وإنجاح مشروعها بتفريغ القطاع من أهله؟
هذا التساؤل، لا يتعلق فقط بمصير القطاع، بل بما تبقى من منظومة القيم الدولية التي يُفترض بها أن تحمي الإنسان في وقت الحرب، لا أن تُختطف أدواتها لتتحول إلى وسائل قمع وتهجير ممنهج.
التجويع سلاح لتهجير الغزيين
من هنا، قال المحلل السياسي د. منذر الحوارات، إن كيان الاحتلال لجأ لاستخدام التجويع كوسيلة ممنهجة منذ اندلاع الحرب على غزة، حيث منعت دخول المواد الغذائية والأدوية والوقود في معظم الأحيان، وعندما سمحت بمرورها، كانت الكميات ضئيلة وتخضع لرقابة عسكرية مشددة.
وأشار الحوارات، إلى أن تقارير دولية موثوقة أظهرت أن أكثر من نصف أهالي القطاع، يواجهون خطر المجاعة الحقيقية، في ظل الانهيار الكامل لمنظومة الأمن الغذائي. معتبرا بأن ما يحدث يتجاوز مجرد الحصار، إذ يجري عسكرة المساعدات الإنسانية من طعام وشراب ودواء، بل وحتى حركة التنفس.
وأوضح ، أن الاحتلال فرض نقاط تفتيش محددة لدخول المساعدات، وهي من تتحكم بمسارات التوزيع وتوقيته، بما يمكنها من إجبار المدنيين على التنقل بين المناطق بحثا عن الغذاء. هذه الإستراتيجية، وفق الحوارات، تُستخدم كأداة لإرهاق الأهالي جسديا، وإنهاكهم نفسيا تمهيدا لدفعهم نحو الهجرة القسرية.
وأضاف، أن عمليات توزيع المساعدات، كانت تتم تحت مراقبة الاحتلال الدقيقة، وفي بعض الحالات جرى استهداف مراكز توزيعها، كما حدث في منطقة الدوار الكويتي إذ تحولت المساعدات لهدف عسكري. مبينا أن هذا النمط من التهجير القسري، تحت ذريعة البحث عن الطعام، ليس عرضيا بل جزءا من سياسة الكيان أوسع تهدف لتفريغ القطاع من أهله.
وأشار الحوارات، إلى أن الاحتلال بدأ يستخدم المساعدات كأداة ضغط، بحصره توزيعها على مناطق معينة كالجنوب، لإجبار الأهالي على الانتقال جنوبا، ما يفتح الباب لاحتمالات تهجيرهم نحو سيناء أو عبر البحر.
ولفت إلى أن بعض التقارير تؤكد أن عددا كبيرا من أهالي القطاع، حاولوا مغادرته بفعل شح الغذاء، متسائلا: هل سينجح الاحتلال بكسر البنية النفسية والاجتماعية للغزيين بسلاح التجويع؟
وأكد الحوارات، أن النجاح الكامل لهذه الإستراتيجية ما يزال بعيد المنال، برغم نجاحات تكتيكية محدودة، وذلك بسبب عدة عوامل، منها صمود الفلسطينيين، ورفض مصر تحويل القطاع إلى ملف جديد للاجئين، فضلا عن الضغوط الدولية المتزايدة على الكيان، وبدء تحركات قضائية في محكمة العدل الدولية، تطالب باعتبار التجويع سلاحا حربيا محرما.
وشدد على أن الاحتلال، لم يتمكن حتى الآن من تجاوز العوائق الميدانية والدولية، برغم محاولاته الحثيثة لتجاوزها، في وقت ما يزال فيه الغزيون، يصمدون في وجه مشروع التهجير المنهجي، رافضين التخلي عن أرضهم وحقهم بالبقاء.
فرصة للهيمنة على المساعدات
من جانبه، أكد المحلل السياسي د. عامر السبايلة، أن العجز عن وقف العدوان الحالي على القطاع، لا يقتصر فقط على الفشل بإنهاء الحرب، بل يمتد أيضا إلى السماح للاحتلال بإعادة صياغة المشهد الإنساني وفقا لرؤيته الخاصة.
وأوضح السبايلة أن الكيان نجح بتحقيق الفصل بين الجانب الإنساني المتمثل بالمساعدات والإغاثة، والمسار العسكري الذي يقوده على الأرض، ما منحه مساحة واسعة للتحكم الكامل بآلية إيصال المساعدات، وتحديد حجمها ومواقع توزيعها والطريقة التي تُسلم بها.
وأضاف، أن هذا الفصل المتعمد بين الإغاثة والحل السياسي أو العسكري، يفتح المجال للاحتلال كي يفرض شروطه في المدى المنظور، سواء بشأن الوضع الميداني، أو بالترتيبات المستقبلية المرتبطة بالقطاع.
وأشار السبايلة، إلى أن هذا الواقع يمنح الكيان الصهيوني تفوقا إستراتيجيا، إذ بات يتحكم في الملف الإنساني كأداة ضغط سياسي، ما يعكس فشل المجتمع الدولي ببناء مقاربة متكاملة توازن بين الاحتياجات الإنسانية والضغط لوقف العمليات العسكرية.
افتقار إدخال المساعدات للاستدامة
المحلل السياسي جهاد حرب، أكد أن الاحتلال يسعى على نحو حثيث، لإنجاح الآلية المشتركة مع الولايات المتحدة بشأن إدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية للقطاع، مع الإبقاء على سيطرة الاحتلال الكاملة على هذه العملية.
وأشار حرب إلى أن هذه الآلية، برغم المحاولات المتكررة، غير قادرة على تحقيق النجاح وفق ما يطمح إليه الاحتلال لسببين رئيسين: الأول، افتقارها لمقومات الاستدامة؛ والثاني، غياب البنية التنظيمية التي تُمكن من إدارة التوزيع على نحو فعال كما يريده الكيان.
وأوضح أن الآلية المقترحة، تفتح المجال أمام حركة المقاومة الاسلامية- حماس، للاستيلاء على جزء من المساعدات، نظرا لعدم وجود بيانات دقيقة، أو آليات إشراف فعالة للشركات الأميركية المشرفة على عملية التوزيع.
ولفت إلى أن حجم الاحتياج الإنساني في القطاع بالغ الاتساع، نتيجة سياسة التجويع الممنهجة التي استمرت لأشهر، ما يعني أن أي عملية توزيع غير منظمة، ولا تعتمد على سجلات موثوقة، قد تُستخدم بطرق غير عادلة.
وتابع حرب قائلا، إن غياب نظام توزيع عادل وشفاف قد يؤدي لحصول أفراد على كميات تفوق احتياجاتهم، بينما يُحرم الضعفاء والفئات الأكثر هشاشة من الوصول للمساعدات. مضيفا أن هذا التفاوت قد يثير رفضا في المجتمع، وربما يُواجَه بمقاومة من "حماس" قد تتخذ مستقبلا طابعا عنيفا ضد من يتعاونون مع هذه الآلية، أو من يحصلون على المساعدات عبر القنوات المرتبطة بالكيان.
وأشار حرب إلى أن هذه الآلية، وإن بدت فعالة على المدى القصير، لكنها على المدى البعيد قد تتحول إلى مصدر أزمات أعمق، سواء عبر استمرار الانتقادات الدولية لها، أو بسبب العجز عن ضبط المساعدات بعد توزيعها ومراقبة مصيرها الحقيقي.
ولفت إلى أن هناك بعدا إضافيا لهذه الإشكالية، يتمثل في أن تأثر المقاتلين من "حماس" بانخفاض تدفق المساعدات قد ينعكس على تعاملهم مع أسرى الاحتلال، ما يشكل عبئا أمنيا وإنسانيا إضافيا على الكيان نفسها.