عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Sep-2025

"حكايات من ذاكرة المكان".. استحضار الوطن عبر نافذة البيت الصغير

 الغد-عزيزة علي

في زمن تسوده الضوضاء وتغزو فيه المدنية الإسمنتية كل ركن، تبرز الحاجة إلى استعادة دفء الماضي وصدق الذكريات. فقد جاء كتاب "حكايات من ذاكرة المكان" للدكتور بكري العزام. ليس مجرد سرد لأحداث مضت، بل هو رحلة وجدانية تغوص في أعماق الطفولة، وتستنطق حكايا القرية الأردنية، بكل ما تحمله من قيم التكافل والبساطة والإنسان.
 
 
يصوغ العزام بعين الفنان وقلب الحكاء عالما كاملا، يجعل من قريته في شمال إربد نموذجا لكل قرية عربية طويت ذاكرتها بفعل الزمن. إنه يكتب بلسان الحنين، بلغة بسيطة عميقة، ليعيد الحياة إلى الشوارع الترابية، والحقول الخضراء، ومجالس الأجداد، محولا الأمكنة إلى شخصيات حية، تشارك في صنع التاريخ والهوية.
كما أن هذا الكتاب لا يوثق المكان فحسب، بل يخلد اللغة الشعبية وألفاظها المهددة بالاندثار، شارحا إياها كجواهر ثمينة في سياقها الطبيعي. إنه نداء يذكرنا بأن الانتماء يبدأ من البيت الصغير، والطريق الضيق، والذكريات التي تشكل هويتنا.
"حكايات من ذاكرة المكان" الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون، هو أكثر من كتاب، إنه بوح الروح بذكرى وطن كامل، متمسكا بلغة الأدب، ومحفوظاً في قلب القارئ إلى الأبد.
كتبت الدكتورة خلود العموش مقدمة للكتاب تشير فيها إلى أن الدكتور بكري العزام أديبا عاشقا، ينظر إلى زمن قريته الجميل، وحكايا شخوصها، وقصصهم وعثراتهم، وإنجازاتهم، وإخفاقاتهم، ونجاحاتهم، ولطفهم، وإنسانيتهم، وضعفهم المشروع كبشر، وقوتهم التي يستمدونها من روح الأخوة والتكافل والوحدة في نموذج القرية الجميل". يلخص هذا التقديم جوهر التجربة: القرية كمكان حاضن للكرامة والدفء والتكافل، والمكان الذي تنتج فيه الأخلاق والانتماء.
وترى، أن الكتاب يمثل عملا سرديا حميميا، يستعيد فيه الكاتب تفاصيل قريته الواقعة في شمال محافظة إربد، معيدا تشكيل صور الطفولة، والأسرة، والمجتمع، والطبيعة في إطار إنساني متكامل. 
يضم الكتاب 158 فصلا قصيرا بعناوين مختلفة، صاغها الكاتب بلغة بسيطة وسلسة تنطق بالصدق، لكنها تنطوي في أعماقها على قدر عال من الجمال والرمزية والوعي.
وتقول العموش "إن المكان في هذا العمل ليس مجرد مسرحا للأحداث، بل هو الروح التي تسري في النصوص؛ تفتح للقارئ أبواب الحنين، وتدعوه إلى اكتشاف القرية ككيان نابض بالأصالة، عامر بالتفاصيل الحية التي تعطي للمكان طعمه، ورائحته، ونبضه الخاص". 
يستحضر العزام شوارع قريته، وحقولها، وسهولها، ومجالسها الشعبية، وأصوات المؤذنين، ووقع الخطى على تراب الأزقة، وصوت المطر وهو يلامس سقوف البيوت الطينية القديمة.
وما يميز هذا العمل استخدام الكاتب للألفاظ العامية والمصطلحات المحلية المرتبطة بالمجتمع القروي الزراعي، ولا سيما تلك المتعلقة بالزراعة وتربية المواشي (الغنم والبقر). فقد استخدم مصطلحاتٍ مثل "البيادر" و"المزاطين" و"الدّوّاج" و"الطفخة" و"يبجبج" و"التَّصميخ"، وغيرها من المفردات التي قد تبدو غريبة على الجيل المعاصر، غير أنه حرص على تفسيرها وشرحها ضمن سياقها السردي، ليمنحها بعدا تعليميا وثقافيا. بهذا الأسلوب، يتحول الكتاب إلى ذاكرة لغوية وشعبية تحفظ المصطلح كما تحفظ الحكاية، وتعيد ربط الأجيال الجديدة بجذورها.
وتضيف أن المؤلف يلتقط في كتابه الحياة من تفاصيلها الصغيرة: فطور الأسرة، وركض الأطفال في الحارات، وسوق إربد، ومواسم الحصاد، وطقوس الأفراح، وحكايات الجدّات، وينسج منها ذاكرة جمعية عابرة للفرد، تجسد هوية جماعية يحتفى بها. وعلى الرغم من الطابع الذاتي للتجربة، فإن الكاتب ينجح في تقديم قريته كنموذج لمجتمعات عربية كثيرة تتشارك في القيم والعادات والروح.
لقد منح الكاتب لمكانه الأول "القرية" خصوصية رمزية، فجعل منه الحاضن القيمي والثقافي والتاريخي للإنسان، وفي الوقت ذاته، حرص على إبراز بعده الواقعي اليومي، فكتب عن العمل في الحقول، وعن بسطات الباعة، وعن العلاقات بين الجيران، وتربية الأولاد، والعقوبات، والجوائز الصغيرة، وعن الأفراح والأحزان التي تتشارك فيها القرية كجسد واحد.
وتوضح، أنه من اللافت أن العزام لم يكتف بتوثيق هذا المكان، بل ختم معظم فصوله بعبارات ذات طابع وعظي أخلاقي، تنبه إلى أهمية حفظ الوطن من الطامعين والمستغلين، وتؤكد ضرورة صون العادات الأصيلة، والتمسك بالقيم التي شكلت جوهر الحياة القروية. تأتي هذه العبارات لتكون ضوءا موجها للقارئ، تربط الماضي بالحاضر، وتحفز على حماية ما تبقى من هذا النسيج الإنساني.
أسلوب الكاتب، رغم بساطته، يتميز بقدرة استثنائية على ملامسة العاطفة، إذ إنه يستحضر المكان لا بوصفه جمادا، بل ككائن حي، ينبض بالمحبة والكرم والبساطة. إنه يأنسن الأمكنة، ويجعل من شجرة التين، وبئر الماء، والبرندة، والبيت القديم، شخصيات فاعلة في الحكاية. فالمكان هنا ليس مشهدا خلفيا، بل هو الحاضر الأكبر، هو البيت الأول والملجأ الأخير، وهو الكنز الذي نحمله في الذاكرة كلما ابتعدنا عن الجذور. ولهذا، فإن "حكايات من ذاكرة المكان"، ليس مجرد عمل أدبي، بل وثيقة وجدانية تسجل للتاريخ والإنسان في آن معًا.
في زمن تتآكل فيه الهويات أمام طوفان التكنولوجيا والمدن الإسمنتية، يأتي هذا الكتاب ليذكرنا بأن المكان الذي نشأنا فيه هو مرآتنا، وهو نافذتنا نحو الفهم الأعمق للذات. فكل بيت صغير، وكل طريق ترابي، وكل حكاية عائلية، تشكل جزءا من كينونتنا. من هنا، فإن رسالة هذا الكتاب تتجاوز المتعة السردية إلى إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية التي تشكلت في تلك القرى البسيطة، وتذكيرنا بأن للمكان ذاكرة لا تموت طالما هناك من يكتبها، ويحكيها، ويؤمن بها.
وخلصت إلى أن "حكايات من ذاكرة المكان"، عمل أدبي وإنساني، يكتب فيه الدكتور بكري العزام بروحه قبل قلمه، ليستحضر الوطن من خلال نافذة البيت الصغير، ويحكي عن الكرامة من خلال صورة أبٍ أو أمٍّ أو شيخٍ أو طفلٍ. إنه كتاب عن الحنين، والانتماء، وذاكرة الأماكن التي تعلمنا كيف نحب، وكيف نبقى أوفياء لما كنا عليه، وكيف نكون امتدادا حيا لذاكرة وطن بأكمله.