الغد
ديفيد ساترفيلد؛ وجاكوب ج. لو* - (فورين أفيرز) 2025/8/14
تقف غزة على حافة المجاعة بعد انهيار وقف إطلاق النار وإغلاق المعابر، فيما تعجز المساعدات المحدودة عن تلبية الاحتياجات وسط فوضى وعنف وعرقلة من إسرائيل و"حماس". المطلوب اليوم دور قيادي أميركي وتنسيق دولي لضمان تدفق الإغاثة، مع الضغط على "حماس" للإفراج عن الرهائن ووقف الحرب.
ثمة أزمة إنسانية تتكشف في غزة. منذ انهيار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" في آذار (مارس) 2025، تدهورت الأوضاع بشكل كبير، وأصبح احتمال حدوث مجاعة واسعة النطاق حقيقياً. ما تزال آلاف الحاويات المحملة بالمواد الغذائية والإمدادات الطبية ومواد الإيواء عالقة عند المعابر الحدودية على الجانبين، بانتظار موافقة إسرائيلية لدخول غزة، وتوافر الظروف التي تتيح مرورها بأمان من دون أن يستولي عليها المدنيون الغزيون اليائسون، أو عناصر "حماس"، أو تتعرض لهجمات العصابات داخل القطاع. ويتعين إدخال ما لا يقل عن مئات عدة من الشاحنات المحملة بالغذاء يومياً لتفادي كارثة أوسع نطاقاً.
في الواقع، تتحمل أطراف عدة مسؤولية هذه الأزمة. أولاً وقبل كل شيء، أشعلت "حماس" الحرب بهجماتها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على إسرائيل، وبما أن مقاتلي "حماس" يعيشون ويقاتلون في مناطق مدنية وفي أنفاق تمتد تحتها، فقد استدرجوا رداً إسرائيلياً من شأنه أن يعرّض ملايين الأشخاص للخطر. وقد عانى المدنيون في غزة المشقات والموت على نطاق لا يمكن تصوره منذ بداية الحرب، بينما تواجه المنظمات الخارجية التي تحاول تلبية الاحتياجات الإنسانية صعوبة في تقديم المساعدات وسط القتال العنيف والفوضى في بيئة حضرية مكتظة.
منذ البداية، كان الرئيس الأميركي جو بايدن ثابتاً في دعمه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في غزة وهزيمة "حماس" بوصفها تهديداً عسكرياً. لكن إدارته، التي خدمنا نحن الاثنان فيها، أوضحت أيضاً أن على إسرائيل مسؤولية توخي الحذر لتقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين وضمان وصول الغذاء، والرعاية الطبية والمأوى. وبصفتنا السفير الأميركي لدى إسرائيل (لو)، والمبعوث الأميركي الخاص للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط (ساترفيلد)، نقلنا هذين الموقفين في اتصالاتنا اليومية مع القادة الإسرائيليين على كل المستويات. وضغطنا على جميع الأطراف للتنسيق من أجل ضمان وصول ما يكفي من الإمدادات المنقذة للحياة إلى غزة، حتى وإن كان ذلك بصورة غير منتظمة.
كان هناك الكثير من النقص وانعدام الاستقرار. ولأشهر بعد هجمات تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على إسرائيل، وصف بعض المعلقين الوضع في غزة بالمجاعة. ولكن، رغم أن نتائج عملنا لم ترضنا قط، كما لم تُرضِ منتقدينا، فإن الجهود التي قدناها في إدارة بايدن لإبقاء غزة مفتوحة أمام الإغاثة الإنسانية حالت دون وقوع المجاعة. والحقيقة هي أنه طوال العام ونصف العام الأولين من الحرب المستمرة بلا هوادة، لم يواجه الغزيون مجاعة جماعية لأن المساعدات الإنسانية كانت تصل إليهم.
خلال فترة عملنا، نشرت الولايات المتحدة مسؤولين من وكالات عديدة كانت لديهم الأدوات والنفوذ والعزيمة لتحسين الوضع، وكنا ملتزمين بذلك رغم الظروف الصعبة في كثير من الأحيان. وفي آذار (مارس) عندما انهار اتفاق وقف إطلاق النار، تغير كل شيء. فبموجب شروط هذا الاتفاق، الذي تم التوصل إليه في الأيام الأخيرة من إدارة بايدن في كانون الثاني (يناير) 2025، سمحت إسرائيل بتدفق كميات كبيرة من الإمدادات إلى غزة. ولكن عند انهيار هذا الاتفاق، أغلقت إسرائيل جميع منافذ المساعدات الإنسانية في محاولة للضغط على "حماس" من أجل القبول بشروط صفقة تبادل الأسرى. كانت هذه هي المرة الأولى التي تمنع فيها إسرائيل دخول أي مساعدات إلى غزة منذ أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2023. واستمر الحصار الكامل لمدة 11 أسبوعاً، وخلال هذه الفترة الحرجة، وقفت إدارة ترامب موقف المتفرج بينما كانت الإمدادات الغذائية المتبقية تتناقص والمعاناة تتفاقم، إلى أن أدرك الرئيس أن الأزمة بلغت مستويات غير مقبولة سياسياً وأثارت غضباً حتى داخل قاعدة مؤيديه من حركة "ماغا".
ثم، عندما سمحت إسرائيل أخيراً بدخول كمية محدودة من المساعدات، غيّرت نموذج توزيع الغذاء الأساس، متجاوزة إلى حد كبير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية المعروفة، لصالح مشروع جديد بالكامل يدعى "مؤسسة غزة الإنسانية". وبينما واصلت الأمم المتحدة العمل، واجهت قيوداً وصعوبات تشغيلية كبيرة. وكانت كمية المساعدات الغذائية الشهرية بين آذار (مارس) وتموز (يوليو)، التي بلغت نحو 20 ألف طن، تعادل تقريباً ثلث ما اعتبره برنامج الأغذية العالمي ضرورياً. وتكشف مشاهد الجوع الحاد والمجاعة المحتملة التي ظهرت في غزة في الأسابيع الأخيرة عن تدهور مخيف.
عندما كانت المساعدات تتدفق قبل وقف إطلاق النار، لم يكن ذلك يحدث عن عبث، بل كانت تمر عبر معابر حدودية محددة، وفي قوافل شاحنات منظمة، وكان الأمر يتطلب تجاوز تحديات سياسية وميدانية في كل خطوة على الطريق. وبينما يشاهد العالم الأزمة وهي تتكشف اليوم ويطالب بحل، من المهم التعلم من النجاحات والإخفاقات السابقة، وتذكر أن إيجاد الحل يقع على عاتق جميع الأطراف. فالأخطار كبيرة جداً بحيث لا يمكن السماح لعوامل، مثل الديناميكيات السياسية الإسرائيلية أو العراقيل التي تضعها "حماس" والعصابات المسلحة في غزة أو النزاعات بين مزودي المساعدات، أن تعوق تقديم المساعدات الحيوية. وعلى واشنطن أن تتذكر أنها تمتلك بشكل فريد الأدوات والنفوذ لتفادي تفاقم الكارثة.
تحت الضغط
بعد هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كان الشعب الإسرائيلي في حالة صدمة بسبب وحشية "حماس" وفشل حكومة إسرائيل في حماية مواطنيها. وعقب الهجمات مباشرة، ردت إسرائيل بقوة، ففرضت حصاراً كاملاً على غزة منع دخول أي مساعدات إنسانية عبر المعابر البرية. وقرر مجلس الوزراء الإسرائيلي، كجزء من سياسة رسمية، قطع أي اتصال تجاري أو مدني بين إسرائيل وغزة. في تلك الأيام الأولى، كان من الشائع سماع الإسرائيليين يرددون عبارة "لن تصل قطرة ماء، ولا قطرة حليب، ولا قطرة وقود من إسرائيل إلى غزة". وفي ظل الصدمة التي أعقبت أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كان هذا الشعور مفهوماً، لكنه لم يكن قابلاً للاستمرار في ظل الاحتياجات المتزايدة.
منذ البداية، أوضح المسؤولون الأميركيون أن على القادة الإسرائيليين إيجاد وسيلة لإدخال الإمدادات الحيوية. وشددنا على أن القيام بذلك يعد بلا شك واجباً أخلاقياً. كما شرحنا أنه ضرورة إستراتيجية، إذ سيمنح إسرائيل الوقت الكافي للتخطيط وإنجاز مهمتها العسكرية المتمثلة في القضاء على "حماس" بوصفها تهديداً عسكرياً، مع الحفاظ على الدعم الذي تحتاج إليه من حلفائها، وبخاصة الولايات المتحدة.
في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، زار بايدن إسرائيل ليؤكد تضامن الولايات المتحدة معها بعد الهجمات، وأيضاً لإقناع الحكومة بالسماح بدخول الشاحنات إلى مدينة رفح الغزية عبر مصر. وأبلغ بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء مجلسه الأمني على نحو سري، ثم الشعب الإسرائيلي علناً، أن الولايات المتحدة "تساند إسرائيل"، وأن هذه الأخيرة مخولة -لا بل أيضاً ملزمة- بضمان ألا تتمكن "حماس" من تكرار ما فعلته في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). لكن بايدن شدد أيضاً على أن الحملة العسكرية ضد "حماس" ستكون معقدة، وحذر صراحة من أن قدرة الولايات المتحدة على دعم العملية ستعتمد على شروع إسرائيل في حملة إنسانية فعالة والحفاظ على استمراريتها. وأكد الرئيس أنه من دون هذه الحملة، لن يكون لدى إسرائيل الوقت أو المجال اللازم لتحقيق أهدافها العسكرية.
في ذلك الوقت، كانت جراح إسرائيل ما تزال مفتوحة، وتركيزها منصباً على الدفاع عن نفسها ضد مزيد من الهجمات. وكان على حكومتها أن تعمل على تلبية الاحتياجات الإنسانية في غزة، في الوقت الذي كانت فيه "حماس" تحتجز رهائن وتمطر إسرائيل بالصواريخ. وفي أي ظرف من الظروف، كان الأمر سيتطلب قيادة حازمة لتفسير سبب مسؤولية الحكومة عن ضمان تلبية الاحتياجات الإنسانية على الأرض في غزة. لكن الأمر كان أصعب في ظل الديناميكيات السياسية داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل. في الواقع، كان ائتلاف نتنياهو يضم أحزاباً يمينية متطرفة كانت تتبنى آنذاك مواقف متطرفة. ولم تقتصر أهداف الأحزاب اليمينية على هزيمة "حماس"، بل كانت تؤمن بأن إسرائيل ما كان ينبغي أن تنسحب من غزة بشكل أحادي وتزيل المستوطنات المدنية الإسرائيلية في أيلول (سبتمبر) 2005، وأنه يجب إعادة توطين الإسرائيليين في القطاع بعد الحرب. ورغم أن هذا لم يكن موقف الحكومة رسمياً، فإن الأحزاب اليمينية المتطرفة كانت تهدد بإسقاط الائتلاف إذا اتخذ مجلس الوزراء قرارات تعارضها، بما في ذلك فتح مسارات للمساعدات الإنسانية.
وبينما عارض بعض اليمينيين تقديم المساعدات الإنسانية، أبدى آخرون في الحكومة الإسرائيلية انزعاجهم عندما ذكّرناهم نحن في الإدارة الأميركية بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وبأن عليها أيضاً التزاماً وضرورة إستراتيجية لضمان وصول المساعدات إلى سكان غزة. وأبدوا استياءهم من فكرة أن تقديمهم للمساعدات الإنسانية يستلزم ضغطاً أميركياً عليهم. ونظراً إلى التوترات داخل الحكومة، تطلب الأمر انخراطاً أميركياً نشطاً ومستمراً لإدارة الديناميكيات السياسية الإسرائيلية الداخلية والحفاظ على تدفق المساعدات بشكل كافٍ. وكانت رسالتنا إلى محاورينا في الحكومة الإسرائيلية، في جوهرها: "إذا كانت السياسة الداخلية صعبة، فحمّلوا الولايات المتحدة اللوم". كان من المهم جداً آنذاك السماح لنتنياهو بأن يستخدم حجة تلبية مطالب الولايات المتحدة، وما يزال كذلك حتى اليوم. وبما أن بايدن لم يتزعزع في التزامه بالدفاع عن إسرائيل، فقد أتيح لنا المجال لحث حكومتها على تلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة.
بعد زيارة بايدن مباشرة، وافقت إسرائيل على فتح معبر رفح أمام شحنات المساعدات القادمة من مصر. في البداية، لم يدخل إلى غزة عبر رفح إلا نحو 20 شاحنة يومياً، وهو رقم غير كاف على الإطلاق لتلبية الاحتياجات الإنسانية. وكان جزء من التحدي يكمن في أن معبر رفح مصمم لعبور المشاة والسيارات، وليس قوافل الشاحنات الكبيرة، مما جعله غير ملائم بالنظر إلى حجم الطلب الكبير والصعوبات اللوجستية. لكن إسرائيل فرضت أيضاً قيوداً على أنواع البضائع وعدد الشاحنات المسموح لها بالعبور عبر رفح (نحو 75 شاحنة يومياً). وامتثالاً لقرار الحكومة الإسرائيلية بعدم السماح بأي حركة مباشرة للمساعدات من إسرائيل إلى غزة، كان لا بد من فحص الشاحنات عند معبر حدودي بين إسرائيل ومصر قبل التوجه إلى رفح، مما تسبب في تأخيرات كبيرة.
فرصة للانفراج
أثناء متابعتنا الأوضاع، أدركنا ضرورة إيجاد سبل لزيادة حجم المساعدات. كان أعضاء الحكومة الأميركية ومسؤولون كبار آخرون يقومون بزيارات متكررة إلى إسرائيل للتشاور في شأن العمليات العسكرية الجارية وتكرار تأكيد ضرورة زيادة المساعدات الإنسانية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونتنياهو محادثة ثنائية، كان من المقرر أن تستغرق بضع دقائق فقط، لكنها استمرت أكثر من ساعة. وبينما كان مجلس الحرب الإسرائيلي وبقية الوفد الأميركي ينتظرون انتهاء الاجتماع بين بلينكن ونتنياهو، بدأنا محادثات غير رسمية، بما في ذلك مع يوآف غالانت، الذي كان حينذاك وزير الدفاع، وكان قد أعلن مباشرة بعد هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أنه لن يتم نقل أي مساعدات من إسرائيل إلى غزة. لكن في تلك المرحلة، كان قد أدرك أن على إسرائيل السماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وكانت لديه فكرة حول طريقة القيام بذلك.
شرح لنا غالانت بالتفصيل الجغرافيا المعقدة للمعبر الجنوبي بين إسرائيل وغزة عند كرم أبو سالم (كيرم شالوم). وأوضح أن الشاحنة تستطيع الرجوع إلى الخلف داخل إسرائيل لإفراغ حمولتها في غزة من دون أن تعبر الحدود فعلياً، وأن أبراج المراقبة في إسرائيل يمكن أن توفر رؤية كاملة لرصد التهديدات ضد مثل هذه العملية. ورغم أن الخطة كانت غامضة بعض الشيء، فإنها قدمت خريطة طريق لزيادة نقاط الدخول إلى ما هو أبعد من معبر رفح، وللحد من الحظر الإسرائيلي الشامل على نقل المساعدات مباشرة من إسرائيل إلى غزة.
في أوائل كانون الأول (ديسمبر)، ومع بدء تراجع الدعم الدولي لإسرائيل الذي كان قد ارتفع فوراً بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، رأينا فرصة لوضع الخطة موضع التنفيذ. كان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مستعداً لاستخدام سلطة نادراً ما تُستخدم، وهي المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لإجبار مجلس الأمن على التصويت على قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار. وكانت واشنطن في حاجة إلى أن تُظهر للمجتمع الدولي أن إسرائيل تتخذ خطوات لتلبية الاحتياجات الإنسانية. وقد ناقش البيت الأبيض ووزارة الخارجية ما إذا كان ينبغي أن يتصل بايدن بنتنياهو لمطالبته بفتح معبر كرم أبو سالم، لكننا شعرنا أن الضغط سيكون أكثر نجاحاً إذا جاء من داخل مجلس الوزراء الإسرائيلي نفسه. لذا، طلبنا من واشنطن أن تمنحنا بضعة أيام للعمل من خلال وزارة الدفاع الإسرائيلية.
أكثر من أي جهة أخرى في الحكومة، كان مسؤولو وزارة الدفاع الإسرائيلية يدركون الأهمية الحيوية لخطوط الإمداد الأميركية وللقدرات الإستراتيجية والدفاعية بالنسبة للمجهود الحربي الإسرائيلي. وكما أخبرنا غالانت قبل بضعة أسابيع، كان مستعداً للدفاع عن الموقف القائل بأن فتح معبر كرم أبو سالم يمكن أن يتوافق مع السياسة الرسمية المتمثلة في عدم وجود اتصال مدني مباشر بين إسرائيل وغزة. وفي حديث خاص، أقر بأن المدنيين بحاجة إلى مزيد من المواد الأساسية، وكان يدرك الأهمية الإستراتيجية للحفاظ على دعم واسع لإسرائيل، على الأقل في الولايات المتحدة.
في مكالمة هاتفية في منتصف الليل، قلنا لوزير الدفاع بصراحة: "أنت تعلم أن هذا هو الصواب، وفي غضون أيام قليلة ستكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم المستعدة لعرقلة قرار من مجلس الأمن الدولي يضر بإسرائيل. عليك مساعدتنا والتحرك الآن لفتح معبر كرم أبو سالم". فقال إنه سيدافع عن هذا الموقف ويطرحه على بقية القيادة.
استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار الأمم المتحدة في الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، بحجة أنه لا يدين هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وأن وقف إطلاق النار الفوري سيسمح لـ"حماس" بالاحتفاظ بقوتها العسكرية "ولن يؤدي إلا إلى زرع بذور الحرب المقبلة". وفي 12 كانون الأول (ديسمبر)، زار مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إسرائيل، حاملاً الرسالة نفسها التي كنا قد نقلناها. وفي 15 كانون الأول (ديسمبر)، أعلنت إسرائيل أنها ستفتح معبر كرم أبو سالم.
على مدى الأشهر التالية، نجحت اتصالات أميركية مماثلة، غالباً مع لعب غالانت دوراً محورياً، في إقناع إسرائيل بفتح سلسلة من المعابر الإضافية إلى غزة. وشملت هذه المعابر: البوابة رقم 96 في آذار (مارس)، وإيريز وزيكيم (إيريز الغربي) في نيسان (أبريل) وأيار (مايو)، وكيسوفيم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، وكانت كل عملية فتح تتطلب دبلوماسية شاقة، بما في ذلك رسائل مباشرة وصارمة إلى نتنياهو من بايدن في نيسان (أبريل) 2024 بعد هجوم إسرائيلي على عمال الإغاثة التابعين لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي". وقد أبدى المتشددون الإسرائيليون مقاومة في كل مرة، ومن بينهم متظاهرون كانوا يعيقون مرور شاحنات المساعدات، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى التدخل. وبعد كل قرار بفتح معبر، كان لا بد من مواجهة العنف المحتمل من جماعات يمينية متطرفة، وتجاوز العراقيل اللوجستية والعقبات البيروقراطية. وعلى الجانب الآخر من كل معبر مفتوح، كان هناك مدنيون يائسون، وعصابات إجرامية، و"حماس" الحاضرة دوماً.
إبعاد مثيري الفوضى
خلال هذه الفترة، كان واضحاً أن "حماس" تسعى إلى السيطرة على توزيع المساعدات لصالح مقاتليها وإحكام قبضتها على غزة. في البداية، غضت إسرائيل الطرف عن ذلك، بل إنها امتنعت لفترة من الوقت حتى عن استهداف عناصر شرطة "حماس" الذين كانوا، في سياراتهم الزرقاء، يرافقون القوافل لمنع العصابات القبلية العنيفة والعناصر الإجرامية من التدخل في عملية توزيع المساعدات. لكن إسرائيل أدركت لاحقاً أن هذا الأمر يمنح "حماس" فرصة لتعزيز سيطرتها على الحكم، وفي كانون الثاني (يناير) 2024، بدأ الجيش الإسرائيلي باستهداف تلك السيارات الزرقاء. ومع إبعاد "حماس" عن عملية التسليم، برزت العصابات الإجرامية واللصوص بقوة.
للتوضيح، وجدت "حماس" طرقاً لفرض الضرائب والابتزاز، وتحويل مسار جزء من المساعدات، بما في ذلك المساعدات القادمة من مصر التي كانت تديرها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. ولكن حتى 20 كانون الثاني (يناير) 2025، لم يقدم أي من الجيش الإسرائيلي أو الأمم المتحدة لنا دليلاً، أو يؤكد لنا سراً، أن "حماس" كانت تستولي فعلياً على البضائع الممولة من الولايات المتحدة التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي أو المنظمات الدولية غير الحكومية. وعلاوة على ذلك، لم يكن هناك دليل على تحويل "حماس" كميات كبيرة من أي مساعدات رئيسة تمولها الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية.
كانت سرقة مساعدات الأمم المتحدة أو تحويلها عن هدفها الأصلي عملاً تقوم به العصابات الإجرامية في الأساس، وقد تعاونا مع إسرائيل والأمم المتحدة لاتخاذ خطوات للتقليل من هذه الأخطار. وكان حل إسرائيل هو الاستعانة بمقاولين من القطاع الخاص لتأمين القوافل، قبل أن تخلص لاحقاً إلى أن هؤلاء المقاولين كانوا يساعدون العصابات و"حماس". وفي هذه المرحلة، أصبح الحفاظ على حركة المساعدات وتوزيعها بشكل منظم داخل غزة أكثر صعوبة.
بحلول شباط (فبراير) 2024، دفعت الأوضاع في شمال غزة نتنياهو إلى طلب مساعدة بايدن في أن يتولى الجيش الأميركي إنشاء رصيف عائم لإيصال المساعدات مباشرة إلى غزة عن طريق البحر. وكان من شأن هذا الرصيف أن يتيح وصول المساعدات بسرعة أكبر إلى المدنيين في مدينة غزة ومحيطها، وأن يوفر الوصول إلى الشمال والجنوب عبر طرق أكثر أماناً، وأن يتيح نظرياً تجنب أعمال النهب وتسهيل مرور القوافل عبر حاجز ممر نتساريم الخاضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي. وبحلول ذلك الوقت، كان بايدن يدرس فكرة الرصيف منذ أسابيع، متردداً بسبب طبيعته المؤقتة وكلفته العالية. لكنه منح الضوء الأخضر للمضي قدماً في إنشائه لقناعته بأنه رغم هذه السلبيات، يتعين على الولايات المتحدة استخدام كل الوسائل الممكنة لمعالجة الوضع الإنساني المتفاقم. وكان له هدف آخر أيضاً: وافقت واشنطن على الخطة بشرط أن تسمح إسرائيل لميناء أشدود باستقبال شحنات القمح الأميركية المخصصة لغزة، وأن تفتح معبرين بريين إضافيين من إسرائيل إلى شمال غزة. (كما قدمت إسرائيل دعماً كبيراً في بناء الرصيف وتأمين محيطه، وعلقت بعض عملياتها العسكرية للسماح له بالعمل).
في النهاية، جعلت الأمواج العاتية استمرار عمل الرصيف أمراً مستحيلاً، إذ تحطم مرات عدة وأُغلق بعد أقل من شهر على تشغيله. ومع ذلك، وخلال فترة عمله، تمكن الرصيف من توفير الغذاء لنحو 450 ألف شخص. وحتى بعد إيقافه، أبقت إسرائيل على ميناء أشدود والمعبرين الشماليين مفتوحين. وبحلول نيسان (أبريل) 2024، وبضغط منا، فتحت إسرائيل ميناء أشدود أمام جميع شحنات المساعدات الإنسانية، وليس القمح فقط.
أنقذت هذه الجهود الأميركية أرواحاً في غزة. وكثير منا في إدارة بايدن كانوا يطرحون سؤالاً أساسياً كل يوم: كم عدد الشاحنات التي دخلت؟ كان هذا مقياساً غير كامل، لأنه لا يوضح طريقة توزيع المساعدات أو مَن تلقاها، لكنه كان مؤشراً بسيطاً وقابلاً للقياس ومهماً. حتى بايدن كان يتابع عدد الشاحنات يومياً. وكنا نعلم بحلول كانون الأول (ديسمبر) 2024 أنه إذا دخل أقل من نحو 250 شاحنة يومياً، فقد ينهار نظام التوزيع مجدداً تحت ضغط سكان غزة اليائسين. وكنا نعتقد أن غزة تحتاج إلى ما بين 350 و400 شاحنة تقريباً. ورغم أن الشاحنات لم تكن جميعها تحمل الكمية نفسها، إذ كان بعضها يحمل قدراً أقل بكثير من الطعام والمساعدات مقارنة بغيره، فإن كل شاحنة كانت تُحسب. وكل معبر مفتوح كان يصنع فرقاً.
ما الذي تغير؟
بين الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 وانتقال السلطة إلى إدارة جديدة في كانون الثاني (يناير) 2025، عمل فريقا بايدن وترامب جنباً إلى جنب للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن. وعندما أبرم الاتفاق، أطلق سراح 33 رهينة، وبدأ دخول أكثر من 600 شاحنة يومياً إلى غزة. ومع تراكم مخزون المواد الغذائية، بدا أن الوضع الإنساني قد تحسن بشكل ملحوظ. وخلافاً للمخاوف من أن إسرائيل قد لا تسمح أبداً للمدنيين الغزيين بالعودة إلى منازلهم، عاد مئات الآلاف إلى الجزء الشمالي من غزة، وهو مطلب رئيسي لـ"حماس" لإتمام صفقة إطلاق سراح الرهائن.
وهكذا صمم اتفاق وقف إطلاق النار لينفذ على مراحل. وكان من المقرر أن تبدأ مفاوضات إضافية لإطلاق سراح جميع الرهائن مقابل وقف دائم لإطلاق النار تزامناً مع تنفيذ المرحلة الأولى. لكن هذه المفاوضات النهائية لم تتحقق قط. وفي غضون ذلك، كانت هناك إدارة جديدة في واشنطن أقل انخراطاً بكثير في تفاصيل إيصال المساعدات، وبدأت في تفكيك منظومة المساعدات الأميركية حول العالم.
وفي شباط (فبراير)، فجر الرئيس دونالد ترامب تصريحاً مدوياً، إذ اقترح نقل جميع سكان غزة إلى خارج القطاع بينما تتولى الولايات المتحدة إعادة إعماره. وأعلن في مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو: "ستتولى الولايات المتحدة إدارة قطاع غزة"، موضحاً رؤيته لما سماه "ريفييرا الشرق الأوسط".
بطبيعة الحال، لم يسأل أحد سكان غزة عما إذا كانوا يريدون المغادرة، ولا الدول الأخرى عما إذا كانت مستعدة لاستيعاب مليوني لاجئ. وفي المؤتمر الصحفي، بدا نتنياهو متفاجئاً من تصريحات ترامب. وتجنب تبني الهدف أو رفضه، واكتفى بالإشادة بـ"الرؤية الجريئة" للرئيس حول غزة. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن تصريح ترامب أسعد الإسرائيليين في أقصى اليمين، ومنحهم قدراً من الشرعية السياسية والنفوذ داخل الحكومة أكثر مما كان بإمكانهم تخيله. وفي دقائق معدودة، حظيت فكرة الترحيل الجماعي القسري، غير القابلة للتنفيذ عملياً، والمرفوضة أخلاقياً، والمنافية للقانون، بشرعنة من أعلى سلطة في الولايات المتحدة، الرئيس الأميركي نفسه.
أوقفت إسرائيل دخول جميع المساعدات الإنسانية إلى غزة في الأسبوع الأول من آذار (مارس)، بعد انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار. وأعلن نتنياهو أمام حكومته والشعب الإسرائيلي بأنه "لن يُسمح بوصول أي مساعدة إلى حركة ’حماس‘". كان هذا قراراً محورياً. فقد أظهر قلقاً حقيقياً من أن "حماس" تستولي على المساعدات. ورغم أن حجم هذا الاستيلاء المزعوم لم تثبته أدلة، فإنه أيضاً انطلق من فرضية أن حرمان غزة من الغذاء سيزيد الضغط على "حماس" للإفراج عن الرهائن المتبقين وتسليم أسلحتها. ومع تناقص الاحتياطات الغذائية، كانت النتيجة أزمة إنسانية جديدة وغير مسبوقة: لأول مرة، ظهرت علامات انتشار سوء التغذية على نطاق واسع.
تحت وطأة الضغوط المتصاعدة إثر بدء تداول الصور، وبخاصة الضغط من ترامب والجيش الإسرائيلي، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى التحرك. وفي محاولة للتوفيق داخل الحكومة بين الإعلان عن "عدم تقديم أي مساعدة" إلى "حماس"، والمطالبات باستئناف الإغاثة الإنسانية، تخلت إسرائيل عن نظام تقديم المساعدات الذي كان قائماً قبل انهيار وقف إطلاق النار. وبدلاً من ذلك، لجأت في أيار (مايو) إلى "مؤسسة غزة الإنسانية " (GHF)، وهي منظمة غير حكومية جديدة مقرها الولايات المتحدة وسويسرا، مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة.
وفق تصورها الأصلي الذي جاء كجزء من مفاوضات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، كان من المقرر أن تعمل المؤسسة في غزة ما بعد الحرب؛ حيث تتولى قوات دولية حفظ الأمن، وتتولى سلطة انتقالية بمشاركة فلسطينية ودولية إدارة شؤون الحكم، ويتم توزيع المساعدات مباشرة على المدنيين في مناطق آمنة. لكن عمليات المؤسسة بدأت في ظل ظروف حرب مختلفة تماماً. فقد أنشأت نقاط توزيع في عدد محدود من المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي في جنوب ووسط غزة، مما منحها، حسب اعترافها، القدرة على توزيع نحو 20 في المائة فقط من إجمالي المساعدات الغذائية التي يحتاج إليها سكان القطاع. ومع تزايد يأس المدنيين، وورود تقارير عن وفيات خلال محاولات ضبط الحشود التي قادتها وحدات الجيش الإسرائيلي المحيطة، إلى جانب مقاولين عسكريين من القطاع الخاص تم الاستعانة بهم للمساعدة في التوزيع، تعثر انطلاق عمل المؤسسة بمشكلات كبيرة. وقد قتل أو أصيب عشرات المدنيين الباحثين عن المساعدة، سواء بسبب التدافع أو جراء إطلاق النار الحي، وكانت مصادره مزيجاً من الجيش الإسرائيلي و"حماس" والعصابات الإجرامية.
ما من حل سحري
في حديثه قبل أسبوع من كتابة هذه السطور، اعترف ترامب بوحشية الوضع القائم وواقع المجاعة. لكن ضمان استمرار إسرائيل في فتح معابر عدة للسماح بدخول مئات الشاحنات إلى غزة يومياً يتطلب انخراطاً مستمراً على أعلى المستويات، وليس مجرد تعليق عابر من المكتب البيضاوي أو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. وكما تبين لنا، فإن تلبية هذا الحجم الهائل من الاحتياجات الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا وجدت جميع الأطراف وسيلة للعمل معاً.
والخطوات اللازمة لتصحيح الوضع واضحة:
أولاً، يجب على إسرائيل ألا تتعامل مع المساعدات الإنسانية كوسيلة ضغط قسرية على "حماس". فهذه السياسة تعرض حياة المدنيين في غزة للخطر وتجعل إسرائيل عرضة للإدانة والعزلة الدولية. كما يجب على إسرائيل إبقاء المعابر البرية مفتوحة وضمان أن يكون استخدامها للقوة متوافقاً مع قواعد الاشتباك التي تحمي المدنيين، وهذا يعني مزيداً من التدريب، ومزيداً من المساءلة عن الخسائر في صفوف المدنيين، وتنسيقاً أفضل مع مقدمي المساعدات.
ثانياً، على جميع مقدمي المساعدات والوسطاء العمل معاً. ففي هذا المشهد الممزق والمليء بالعسكرة، يجب أن تتدفق المساعدات عبر قنوات عدة، حتى وإن كانت غير مثالية. ولدى إسرائيل أسباب وجيهة لمنع "حماس" من الاستفادة من المساعدات الدولية، بينما ترفض وكالات الأمم المتحدة ومعظم منظمات الإغاثة الدولية التعامل مع أي جهة تراها مسلحة ومرتبطة بأحد أطراف النزاع، بما في ذلك "مؤسسة غزة الإنسانية". لكن الواقع أن هذه المؤسسة أصبحت اليوم القناة الأساسية لإدخال الغذاء.
بحسب اعترافها، لا يمكن لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" أن تكون بديلاً عن الأمم المتحدة أو غيرها من الوكالات الدولية، ولا أن تلبي كامل احتياجات سكان غزة. كما أنها غير مصممة أو مجهزة لتوزيع أغذية متخصصة للفئات الأكثر ضعفاً، مثل الأطفال والنساء وكبار السن. وفي الوقت نفسه، يواجه نموذج الأمم المتحدة المعتاد لتوزيع المساعدات صعوبات في الوصول إلى المحتاجين، إذ تتعرض قوافله للحصار والهجوم من مزيج من المدنيين اليائسين والعصابات وحركة "حماس". ويتعين على الأمم المتحدة والجيش الإسرائيلي، من خلال التنسيق العملياتي المستمر وآليات فض الاشتباك، بذل كل جهد ممكن لتكثيف تدفق المساعدات إلى أقصى حد بما يقلل محاولات المدنيين توزيعها بأنفسهم ويحد من دوافع النهب الإجرامي. ومع ذلك، فإن حالة الفوضى والاضطراب التي تحيط بالقوافل تجعل من الصعب على الأمم المتحدة الوصول إلى الفئات الأكثر ضعفاً في غزة.
بالنظر إلى هذا الوضع، فإن الأمم المتحدة و"مؤسسة غزة الإنسانية" وغيرهما من مزودي المساعدات في حاجة إلى التنسيق مع بعضهم بعضاً ومع الجيش الإسرائيلي، حتى وإن استدعى ذلك إبداء مرونة في المواقف الراسخة. وهذا يعني إيصال المساعدات وتوزيعها على جميع الفئات المحتاجة في غزة، وبكل الوسائل المتاحة. وانطلاقاً من هذا المبدأ، يجب على الأمم المتحدة قبول توفير الحماية من الجيش الإسرائيلي أو من "مؤسسة غزة الإنسانية" أو من الجهات المتعاقدة معها. وبدلاً من محاولة تهميش "مؤسسة غزة الإنسانية"، ينبغي للأمم المتحدة العمل معها، أو على الأقل بالتوازي معها. كما يجب على "مؤسسة غزة الإنسانية" أن تكون منفتحة على الاستفادة من خبرة الأمم المتحدة ومعرفتها العميقة بأساليب العمل في غزة وبآليات تنظيم المساعدات الإنسانية. إن التشرذم والتناحر المؤسسي لن يسهما في تحسين الوضع. ويجب أن يأتي تخفيف المعاناة الحادة لسكان غزة في المقام الأول، حتى لو استلزم الأمر العمل مع جهات لا يتفق معها المرء -أو بجانبها- وفي ظروف لا يسيطر عليها بالكامل ولا يختارها.
ثالثاً، يجب على واشنطن أن تتولى القيادة. في أيار (مايو)، لعب ترامب دوراً رئيساً في إطلاق "مؤسسة غزة الإنسانية" وتوفير بعض التمويل الأميركي لها. وفي الأيام الأخيرة، زادت إسرائيل من تدفق المساعدات إلى غزة عبر هذه المؤسسة والأمم المتحدة. ولكن، من دون تقديم المساعدات على نطاق واسع، فإن ما سيصل إلى المحتاجين سيكون ضئيلاً جداً. ولا يمكن أن تكون هذه مشاركة مرة واحدة من البيت الأبيض، بل يجب أن يكون الضغط مستمراً ومصحوباً بمتابعة دائمة من كبار المسؤولين الأميركيين. لقد لقي عدد كبير جداً من سكان غزة حتفهم في هذه الحرب. وإيصال المساعدات، مهما كان فوضوياً وغير مثالي، يمكن أن يساعد في إنقاذ أرواح آلاف آخرين الذين قد يموتون بخلاف ذلك. لكن تحقيق ذلك سيتطلب قيادة أميركية وتنسيقاً فعالاً.
أخيراً والأهم، يجب على "حماس" إطلاق سراح الرهائن لإنهاء هذه الحرب. وكما أدرك القادة العسكريون الإسرائيليون منذ أكثر من عام، فإن ضمان مستقبل خال من حركة "حماس" بعد انتهاء الحرب يتطلب وضع خطة لحكم لا يخضع لسيطرة "حماس". لقد بدأت الحركة الحرب وهي تدرك تماماً أنها تعرض مدنييها للخطر، وهي الآن تهدد مزودي المساعدات والمستفيدين منها. يجب على مصر وقطر والحكومات الأخرى ذات النفوذ الضغط على "حماس" والعصابات لإطلاق سراح الرهائن وإلقاء السلاح وإنهاء سلوكها العدواني، الذي يلعب دوراً رئيساً في خلق مجاعة جماعية.
إن المساعدات الإنسانية، التي لا تقتصر على الغذاء وحسب، بل تشمل أيضاً المياه والمأوى والرعاية الطبية التي تلبي احتياجات جميع سكان غزة، من الممكن -لا بل من الواجب- أن تعود إلى مسارها الصحيح.
*جاكوب ج. لو: أستاذ الشؤون الدولية والعامة في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا. شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل من العام 2023 إلى العام 2025، ووزير الخزانة الأميركية من العام 2013 إلى العام 2017. *ديفيد ساترفيلد: مدير معهد بيكر للسياسات العامة في جامعة رايس. شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط من العام 2023 إلى العام 2024. الترجمة العربية لصحيفة "الإندبندنت".