الغد
تشهد الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023 موجة من الاعتداءات الإسرائيلية غير المسبوقة، سواء عبر عمليات الجيش أو عبر هجمات المستوطنين التي تكثفت بصورة لافتة، مستغلة حالة الهدوء الهش في غزة.
وقد أدت هذه الاعتداءات المتواصلة إلى نزوح ما يقارب 33 ألف فلسطيني، من بينهم نحو 14 ألف طفل، وفق تقديرات أممية تناولت أوضاع مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس وغيرها من المناطق.
مما يظهر حجم الأزمة الإنسانية المتفاقمة في الضفة الغربية.
هذه الأرقام الكبيرة للنزوح تكشف عن واقع ضاغط يستدعي دعما عربيا وإقليميا ودوليا عاجلا للسلطة الوطنية الفلسطينية، باعتبارها الجهة الرسمية والشرعية الوحيدة القادرة على التعامل مع هذه الأزمات المتشابكة.
وفي موازاة أزمة النزوح، تشير تقارير ميدانية متقاطعة إلى استشهاد ما لا يقل عن 1078 فلسطينيا منذ أكتوبر 2023، بينهم 223 طفلا.
غير أن الأوضاع الميدانية تكشف أن العدد الفعلي للضحايا أعلى من ذلك، وهو الرقم الذي قد يعكس الحجم الحقيقي لتصاعد العنف في ظل غياب تام للمحاسبة.
هذا التصاعد في عمليات القتل، إلى جانب الاستخدام غير القانوني للقوة من قبل الجيش وأعمال العنف من قبل المستوطنين، يعمّق الهوّة بين حجم الانتهاكات وبين القدرة الفلسطينية على مواجهتها، ما يجعل من دعم السلطة الوطنية مسألة مصيرية وليست خيارا سياسيا فحسب.
كما تظهر البيانات الإنسانية أن أعداد الشهداء والمصابين تفوق ما يُعلن رسميا خلال الفترة نفسها، وتشير إلى استشهاد أكثر من 1085 فلسطينيا، وإصابة قرابة 11 ألفا آخرين، واعتقال ما يزيد على 20 ألفا و500 مواطن منذ بدء حرب الإبادة في قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وقد رُصدت كذلك حوادث إعدام ميداني لفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي، ما أثار صدمة عميقة لدى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ودفع مفوضها فولكر تورك إلى المطالبة بإجراء تحقيقات مستقلة وسريعة وفعالة لضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات الخطيرة.
وفيما يواجه السكان هذه الظروف القاسية، تتوسع المشاريع الاستيطانية بوتيرة غير مسبوقة.
فقد كشف معهد الأبحاث التطبيقية في القدس أن الحكومة الإسرائيلية طرحت خلال الفترة أوضح التقرير أن الجهات الإسرائيلية درست 355 مخططا هيكليا تهدف إلى بناء 37,415 وحدة استيطانية على مساحة تصل إلى 38,551 دونما.
وقد تمت المصادقة على 18,801 وحدة، في حين تم إيداع 18,614 وحدة جديدة قيد المتابعة. وتركزت المخططات في محافظة القدس بواقع 148 مخططا، تليها بيت لحم بـ 51 مخططا، ثم سلفيت بـ48 ورام الله بـ38، إضافة إلى مخططات متفرقة في محافظات أخرى.
كما شملت الإجراءات تسوية أوضاع 11 بؤرة جديدة تُلحق بـ68 بؤرة زراعية قائمة، بالتزامن مع إقامة 114 بؤرة استيطانية جديدة في تصعيد غير مسبوق.
وبلغ عدد الحواجز الدائمة والمؤقتة 916 حاجزا، بينها أكثر من 243 بوابة حديدية نُصبت بعد 7 أكتوبر 2023.
المشهد برمته يفرض على السلطة الوطنية الفلسطينية تحديات ضخمة تفوق إمكانياتها، خاصة في ظل الضغوط المالية والسياسية التي تواجهها. فهي مطالبة بتأمين الخدمات الأساسية لعشرات الآلاف من النازحين، وتوفير الدعم للأسر المتضررة، ومتابعة ملفات الاعتقال والإصابات، والتصدي دبلوماسيا لعمليات القتل والتهجير والاستيطان.
وكل هذه الملفات تُفتح دفعة واحدة في وقت تتعرض فيه السلطة لمحاولات تهميش إقليمية ودولية، ما يزيد من خطورة المرحلة.
الدعم العربي ضرورة أولى، فالدول العربية تمتلك القدرة على تعزيز صمود السلطة من خلال الدعم المالي والسياسي، والضغط الدبلوماسي في المؤسسات الدولية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية.
كما أن دعم السلطة يقطع الطريق أمام محاولات خلق بدائل سياسية غير شرعية أو فرض قيادات محلية تتجاوز التمثيل الفلسطيني الرسمي.
أما الدعم الإقليمي، فيكتسب أهمية أكبر في ظل المشاريع الاستيطانية الكبرى التي تستهدف السيطرة على مساحات واسعة من الضفة، إذ إن الموقف الإقليمي الموحد يمكن أن يشكل عامل ردع مهم يحد من هذه السياسات ويمنع تفاقم التوتر.
على المستوى الدولي، يصبح الدعم أكثر إلحاحا، خصوصا في ظل دعوات متكررة من الأمم المتحدة ودول أوروبية لإسرائيل بوقف الهجمات التي تثير الذعر بين المدنيين وتضر بأي جهود لإحلال السلام. الدعم الدولي المطلوب لا يقتصر على البيانات، بل يجب أن يشمل تحركا فعليا لفتح تحقيقات دولية، ومساءلة المسؤولين عن عمليات القتل والتهجير، والضغط من أجل وقف الاستيطان وضمان حماية السكان الفلسطينيين.
إن الضفة الغربية تمر بمرحلة مفصلية تُهدد وجودها الجغرافي والديموغرافي والسياسي، في ظل سياسة ممنهجة تمارسها حكومة الاحتلال تقوم على ضم الأراضي بالتجزئة وفرض واقع جديد على الأرض عبر التوسع الاستيطاني والانتهاكات المستمرة.
وتجد السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها في مواجهة هذه المرحلة الحساسة بأدوات محدودة، بينما تتصاعد الضغوط الميدانية والسياسية بوتيرة غير مسبوقة.
إن دعم السلطة اليوم ليس مجرد موقف سياسي، بل هو دعم مباشر لصمود الفلسطينيين وحماية ما تبقى من إمكانية إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة.
فكل يوم يمضي يشهد تعميقا لسياسة فرض الوقائع، ما يجعل غياب الدعم العربي والدولي خطورة كبرى قد تفتح الباب أمام تآكل شامل لمستقبل الضفة الغربية وانزلاقها نحو حالة من الفوضى يصعب تجاوزها.