عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Sep-2025

خوارزميات الكراهية: اقتصاد الصراخ والغضب: من يريد مكانةً على المنصات يتعلّم أن الطريق الأقصر تمر عبر المشاعر الأعلى إثارة:
درج ميديا-
 
ديانا مقلد-
 
من يريد مكانةً على المنصات يتعلّم أن الطريق الأقصر تمر عبر المشاعر الأعلى إثارة: دهشة، فزع، غضب، تحريض، سباب وضحك هستيري أو بكاء ونحيب. لهذا، يبدو الخطاب السياسي على الشبكات وكأنه دائماً على حافة الصراخ.
 
في ذروة السجال اللبناني حول سلاح حزب الله، قفز إلى الشاشات اسم مراسل تلفزيون “المنار” علي الرضا برّو. في مقطع قصير، يتجوّل بسماجة على الهواتف، محولاً النقاش السياسي إلى مباراة تنمّر: سخر من مي شدياق بوصفٍ مُهين مرتبط بإعاقتها بعد محاولة اغتيالها، قائلاً: “يا مقطّعة يا موصّلة يا بلاستيك”، ثم التفت إلى بولا يعقوبيان ناعتاً إيّاها بـ”مُجنَّسة” في سياق تحقيري لأصلها الأرمني. 
 
ما الذي يجعل شاباً يتقن أبجديات المنصّات، قادراً على تحويل الإهانة والكراهية والعنصرية إلى رأسمال، والشتيمة إلى “وصول” ومشاهدات؟ ليس الأمر زلة أخلاقية فردية فحسب، بل درسٌ نموذجي في آلة تُكافئ أقصى الانفعالات وتُسوِّقها: كلما كان الصوت ناضحاً بالقسوة، كان العائد الرقمي أكبر. هنا بالضبط يبدأ حديثنا عن “اقتصاد الصراخ والغضب”.
 
بتنا نفعل أي شيء كي يشاهدنا الآخرون.
 
تُرى ما الذي تغيّر في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين كي نصل إلى هذا الدرك؟ ليست القصة انحداراً أخلاقاً فردياً وإن كان ذلك حاضراً، بل قصة بنية كاملة تعيد توزيع المكافآت. صار الثناء فورياً، وجماعياً، وله تقديرات بالأرقام. صار التصفيق أو اللايك قابلاً للقياس، وبالتالي قابلاً للإدمان. من يجرّب ضربة شهرة ناجحة من لحظة غضب أو إذلال مصوّرة، يتعلّم بسرعة أن يعيدها، مكبّرة ومشحونة أكثر. نتصرف كما يتصرف المغنّي حين يسمع الهتاف الأول فيرفع الصوت أكثر، لكن المسرح هنا بلا سقف، والمايكروفون في جيب كل فرد.
 
في هذا المسرح الجديد، يتحوّل “الرأي” إلى أداء وشحنة من الانفعالات. 
 
من يريد مكانةً على المنصات يتعلّم أن الطريق الأقصر تمر عبر المشاعر الأعلى إثارة: دهشة، فزع، غضب، تحريض، سباب وضحك هستيري أو بكاء ونحيب. لهذا، يبدو الخطاب السياسي على الشبكات وكأنه دائماً على حافة الصراخ؛ فالصراخ أسرع الطرق إلى الشاشات. ليست هذه مصادفة، بل نتيجة تقنية واجتماعية معًا: تصميمٌ إلكتروني ورقمي يسهّل النشر ويكافئ التفاعل، وجمهورٌ يتجمّع على ما يهزّه بقوة. حين يلتقي هذان الشرطان يولد ما يمكن وصفه بـ “اقتصاد الغضب”: كل انفعالٍ صاخب يشتري لصاحبه مزيداً من الانتشار، وكل وصولٍ جديد يدرّب صاحبه على إنتاج انفعالٍ أشدّ، وكلّما زاد ثمن الشهرة الافتراضية، ازداد إغراء تحويل القسوة والابتذال إلى استعراض.
 
كلما كان الصوت ناضحاً بالقسوة، كان العائد الرقمي أكبر. هنا بالضبط يبدأ حديثنا عن “اقتصاد الصراخ والغضب”.
 
يستمدّ هذا الاقتصاد وقوده من نقطة أخرى أقلّ وضوحاً: شعورٌ بالتحرر من الكلفة الاجتماعية خلف الشاشة. الكلمات التي نتردّد في قولها وجهاً لوجه تنزلق بسهولة عبر لوحة المفاتيح. تتقلّص الحواجز، وتتضخّم الذات. نطلب مكانتنا بالهجوم على الآخر، ونغسل ضميرنا بلبوس “الحقّ” أو “الفضح” أو “المزح”. ومع الوقت ينشأ نوع من التباهي، فالمعيار ليس دقة الفكرة ولا أثرها الفعلي، بل شدّة النبرة وقدرتها على خطف الانتباه. نحارب بالتصريحات أكثر مما نتحاور بالأفكار.
 
ثم نصل إلى الظلّ الأكثر قتامة: العنف الأدائي. في الحروب والصراعات، يرثي البشر موتاهم بطقوس وبكلمات، لكن عصر الكاميرا أضاف طقساً جديداً: توجيه المشهد للمتفرّج البعيد. تتقدّم العدسة إلى قلب الحدث، ليس لتوثّق فحسب، بل لتصنع “هالة” حول الفاعل.
 
فحين نكون في قلب مقتلة، وهذا تكرر في السنوات الأخيرة وقد شهدناها في سوريا تكراراً في الأشهر الأخيرة، يطالعنا فجأة مقاتل يحمل سلاحاً بيد، وهاتفاً باليد الأخرى. لا يكفي أن يقتل؛ عليه أن يَظهر وهو يقتل وأن نراه. هنا تبلغ الريبة أقصاها: ليس العنفُ نتيجةً جانبية للتوثيق، بل صار التوثيق نفسه هدفاً للعنف. ها هو يخاطبنا حين يقتل ويهين ويمثل بجثة ضحيته.
 
ينسحب ذلك على البيت كما ينسحب على الساحة العامة. الآباء الذين يصنعون من أطفالهم محتوى يتذرّعون بالضحك، وبعض صناع الرأي يتذرّعون بالحقيقة، وبعض المسلحين يتذرّعون بالقضية، لكن الجوهر واحد: عرضٌ يطلب مكافأة. ما أن نتذوّق لذّة الظهور حتى يغدو الآخر، طفلاً كان أو خصماً أو ضحية، مجردَ أداة لتغذية العرض. 
 
هذه هي الخسارة الأخلاقية الكبرى: أن تُختَزل الكرامة إلى مادة خامّ للانتباه.
 
المنصّات رتّبت العالم بحسب “الأكثر تفاعلاً”، كلما أثرتَ الجمهور أكثر، رُفعتْ منشوراتك أعلى. هذا ليس شرّاً متعمّداً بقدر ما هو هندسة اقتصاديّة. الشركات تبيع انتباهنا، فتبحث عمّا يضمن بقاءنا أطول أمام الشاشة. والنتيجة غير مقصودة لكنها متوقعة: انحيازٌ دائم صوب الحواف القصوى، حيث السخرية أقسى، والعداء أقوى، والعنف أكثر قابلية للتداول.
 
في نهاية المطاف، لا يُختزَل كل شيء في السوشيال ميديا، لكنها صارت المكان الذي تُصنع فيه سمعة الأفراد والجماعات وتُختبر فيه أخلاقنا اليومية. حين يضحك الأب على ذعر ابنته، أو يقتات مؤثر على شتيمة الخصوم، أو يوثّق قاتلٌ لحظة رعب ضحيته وموتها، فإنهم يتشاركون شيئاً واحداً: يقيناً بأن الجمهور هناك ينتظر، وأن الخوارزمية ستفتح لهم الطريق. 
 
استعادة المعنى الأخلاقي للحياة العامة تبدأ من كسر هذا اليقين: أن نربّي ذائقةً لا تُكافئ الإيذاء مهما حمل من إثارة، ونطالب بمنصّاتٍ لا تُحوّل أقصى الانفعال إلى معيارٍ للحقيقة. عندها فقط يمكن أن تعود الصورة إلى مكانها الطبيعي: نافذةً على العالم، لا منصةً لعروضٍ تأكل العالم.