عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Oct-2021

من وحي المئوية (37) مع الساسة والشعراء*د. جواد العناني

 الراي 

مَرَّ على البلاط الملكي الأردني العديد من الشعراء، خاصة ابان فترة حكم الراحل الملك عبدالله المؤسس في مطلع الإمارة حتى استشهاده على أبواب الأقصى عام 1951.
 
وفي عهد الملك الباني المغفور له الحسين بن طلال كان من أبرز الشعراء السيد حيدر محمود.
 
وهنالك الكثير من الأدبيات التي تروى، والقصص والنوادر التي يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل وجرت بين المرحوم الملك المؤسس والشعراء. وأكاد أحياناً أن أجزم أن بعض هذه القصص يرقى إلى حد الخرافة، معتبراً أن الخرافة هي جزء من القصص الشعبية التي تتغير مع الوقت حسب أمزجة الرواة، ولكنها تبقى قصصاً طريفة جداً.
 
وفي «إرث الأردن» ورد مقال يتحدث عن جوانب من شخصية هذا القائد الفذ، يستعين فيه باستذكار أبيات من أشعاره حين غادر مسقط رأسه في مكة المكرمة لانجاز الثورة العربية الكبرى.
 
ذكرت منازلاً بجوار وَجَّ
 
فاحببت المنازل والديارا
 
منازل أصبحت منا خلاءً
 
وقد كانت لنا أبداً قراراً
 
وكان نزوحنا أنا دُعينا
 
فلبينا نداء مَن استجارا
 
وكان جزاؤنا فيمن تركنا
 
ببلدنا عقوقاً، لا انتصارا
 
وكان جزاؤنا مِمن دعانا
 
إخلافاً واضحاً وأذى جهارا
 
وفي مقالة لابراهيم السواعير يذكرنا بقراءات للشاعر سليمان المشيني يعيد فيها أبياتاً من القصيدة أعلاه، ومن قصيدة ثانية يقول فيها الملك الراحل:
 
تلك حَمّالتي إلى خير أرضٍ
 
ضَمّها النور والهُدى والسّناء
 
إن دنت بي إلى مقام كريم
 
فهي عِتق لا يعتريها شقاء
 
يا رسول الله أنت شفيعي
 
وبك الخير كله والرجاء
 
صاحب الحوض ناصر الحق تأتي
 
يوم حشر، وفي يديك الرجاء
 
وقد نشر هذا المقال في صحيفة الرأي بتاريخ 18/7/2005.
 
ولذلك كان الجانب الشعري لحياة الراحل الملك عبدالله المؤسس مهماً في حياته. وقد صاحب العديدَ من الشعراء بدءاً من الشاعر الراحل مصطفى وهبي التل (عرار). والشاعر خير الدين الزركلي، والشاعر يوسف الخطيب. ولكن أكثر الناس كان تناغماً معه في هذا الاطار هو الراحل عبدالمنعم الرفاعي، الشاعر المتميز. والذي وضع كلمات السلام الملكي الهاشمي (عاش المليك) ونشيد العلم (خافق بالمعالي والمنى)، والذي لحنه على آلة الهارمونيكا المرحوم الأستاذ عبدالملك عرفات.
 
ولي مع نشيد العلم حكاية. فلما فاز الاستاذ عبدالملك عرفات بجائزة أفضل لحن لذلك النشيد، استدعى عدداً من طلبته، ومنهم أنا، لكي يدربنا على غناء النشيد لنستقبل به الراحل الملك الحسين بن طلال رحمه الله. ولكنني فوجئت أنهم يعتذرون لي لأن صوتي لم ينسجم مع المجموعة. وعندما أعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم الحزين، واتذكر فشلي أقول إن الجماعة كانوا مهذبين معي، فلم يقولوا لي إن صوتي كان نشازاً، بل قالوا إنه لا ينسجم مع أصوات الآخرين. وبالطبع، لما انشد الطلبة ذلك النشيد أمام الملك الحسين. تصرفت بحماقة قائلاً إنهم لم يكونوا على المستوى، فرد والدي قائلاً لما سمعني أقول ذلك لإخوتي «أخالفك الرأي، اعتقد أنهم نجحوا تماماً في اداء اللحن والكلمات، وعليك أن تنسى أنك أفضل منهم. اذهب إلى زملائك غداً وبارك لهم نجاحهم».
 
ونحن كلنا نعلم أن الشعر في حياتنا مهم. وأنا أحفظ كثيراً من الشعر إما مما وجدته من قصائد جمعها والدي في كتاب أخضر أيام كان تلميذاً بالكلية العربية بالقدس، وما يزال ذلك الدفتر وقصائده موجودة لدينا. أو ما حفظته من المغنيات الشعرية لأم كلثوم وعبدالوهاب، وغيرهما خاصة قصائد أحمد شوقي، أو مما درسناه في المدرسة. ولكنني تعرفت على عدد من الشعراء والسياسيين الأردنيين المحبين للشعر.
 
واذكر من هؤلاء اثنين على وجه الخصوص، هما الدكتور منذر حدادين، ورئيس الوزراء الاسبق الأستاذ عون الخصاونة.
 
أما الأول، فهو يحفظ كثيراً من عيون الشعر العربي الجزل في العصر الجاهلي، والأموي والعباسي الأول، وهو يقرأ الشعر بتذوق. ولعل أجمل ما سمعته ينشد هو القصيدة الكاملة للشنفرى الشاعر الصعلوك، والمعروفة باسم «لامِيَّة العرب» والتي يقول في مطلعها.
 
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم
 
فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لأَمَيلُ
 
ويعتبرها كثير من النقاد والمحللين أعظم قصيدة عربية. وقد اكتشفنا اثناء مفاوضات السلام في واشنطن العاصمة أن رئيس الوفد الاسرائيلي «إلياكيم روبنشتاين» قد كتب بحثاً مطولاً عنها كمدخل لفهم ثقافة العرب.
 
وكان الدكتور حداد يحفظ أيضاً لامية العجم للشاعر الطغرائي والتي يقول مطلعها:
 
أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ
 
وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ
 
ومع أن قصيدة الشنفرى هي من بحر الطويل، وقصيدة الطغرائي من بحر البسيط، وقافية الشنفرى تنتهي بالضم، وقافية الطغرائي تنتهي بالجر، إلا انهما رائعتان، وإن كنتُ إلى الشنفرى أميل. وسمعنا من الدكتور حداد قصيدة البحتري التي عارضها شوقي، ويقول البحتري:
 
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي
 
وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
 
أما أخي عون، فهو حافظ لأبيات من قصائد كثيرة يستلذ بها. وهو ليس له عصر مفضل على عصر آخر، ولكن كان يميل للشعراء بعد الألف الميلادية، ومن أصحاب قصائد ذات طرافة. وتجده يأتيك بأسماء اعترف بأن نصفهم على الأقل لم أسمع بهم من قبل.
 
واطرف ما حصل ذات ليلة في سهرة بعمان كنا مدعوين إلى منزله العامر. وصار دولته يقرأ لنا أبياتاً من الشعر الجميل من شعراء مثل الشاعر الأعمى القيرواني، أو الأعرج الديلواني. أو أي اسم من هذا القبيل. وبعد أن سمى الابرص والأكمة، وغيرهم، ضحكت. فتوقف دولته عن الحديث «فقلت له ألا تحفظ شعراً لأحد بدون أزمة جسدية؟».. وحينها دار حديث مطول بيننا أن من أفحل شعراء العرب من كانوا من أصحاب المعوقات الجسدية. فبشار بن برد، أبو العتاهية، وأبو العلاء المعري كانوا فاقدي البصر. والبحتري كان جلده ابرص، وجسده كبيراً ومنظره بعيداً كل البعد عن الذوق الرائع في شعره. ووجدنا أن المئات من الشعراء كانوا كذلك.
 
وزارني مرة الدكتور منذر، وكان غاضباً وبسبب استقالته من منصب بسبب خلاف مع جماعة نافذة. وكنت أنا أيامها خارج الحكومة في مكتب للاستشارات بعمارة «الرياض سنتر» قرب الدوار الثالث. وسألني فجأة، ولماذا تركت وظيفتين في القطاع الخاص لتفتح مكتباً خاصاً بك؟ فقلت له أريد أن اجرب حياة العمل في القطاع الخاص. فقال اياك أن يحصل معك مثل ما حصل مع الشاعر الياس فرحات الذي سافر من لبنان التي عانت اقتصادياً إلى البرازيل. ولما وصل البرازيل ضاقت عليه الدنيا، فقيل له تركت لبنان وقد ازدهرت. وهكذا مضى به الحال. فكتب من وحي هذه التجربة قصيدته التي تقول:
 
طوى الدهر من عمري ثلاثين حجة
 
طويت بها الأصقاع أسعى وأدأبُ
 
أُغرِّب خلف الرزق وهو مشرق
 
واقسم لو شرقت راح يغرب
 
ولكن حظي كان أحسن حالاً بكثير من الياس فرحات. ومن أجمل السهرات التي أمضيتها كانت مع المرحوم علي الحمدان الخليفات، والذي عمل لسنوات في مدرسة السلط الثانوية وكان واحداً من أحسن حفظة الشعر الذين قابلتهم. وقد تعرفت عليه من خلال ابنه المرحوم هاشم الحمدان (ابو علي) زميلنا الهمشري في البنك المركزي. وقد فوجئت أن هاشماً كان يحفظ شعراً كثيراً، واخبرني أن لدى والده مكتبة زاخرة بدواوين الشعر.
 
ومن الناس المبدعين الذين قابلتهم أيضاً الراحل الدكتور ناصرالدين الأسد. وقد التقيته أول مرة عام 1964 بولاية كاليفورنيا في حفل أقامه رئيس الجامعة التي كنت ادرس فيها تكريماً له. وكان يسلم على صف الضيوف، متحدثاً معهم باللغة الانجليزية الفصحى مثل «أند هاو آريو سير»، وكدت أضحك لأنني تخيلته سيقول ما كان يقوله لنا استاذ اللغة العربية ونحن طلاب في الكلية العلمية الاسلامية «اعرب ما تحته خط». ولما وصل إليّ حدثني بالانجليزية سائلاً عن حالي فأجبته بالعربية «الحمدلله، شكراً» فاستدرك وعاد الي وقال «هل تحدثت بالعربية؟» فقلت بكل بلاغة «نعم». فقال «ومن تكون؟». فقلت له «جواد أحمد العناني» مشدداً على كلمة أحمد لانه زامل والدي في الكلية العربية بالقدس، فنظر إلي وقال «لعنة الله عليك». فتساءلت عن السبب، فقال أنا أبحث عنك منذ أيام. وزرته في اليوم التالي، واخذته في جوله على معالم مدينة لوس انجلوس، وصار يقرأ لي شعراً كثيراً، ومنه قصيدة إلى زوجته كتبها قبل يوم. وحفظت منها بيتين. ولما تخرجت ذهبت إليه طالباً لأكون معيداً بالجامعة الأردنية فأرسلت له أبياتاً من قصيدته التي كتبها لزوجته. فخرج إلي وهو يقول » ادخل... بسرعة».
 
وتعرفت إلى شاب اسمه ابراهيم حداد عمل محرراً مع د.عبدالله المالكي في مجلة المصارف الأردنية التي كانت تصدرها جمعية البنوك الأردنية في بدايات تأسيسها. واكتشفت أن العمل المصرفي الذي كان يؤديه في أحد البنوك الأردنية ليس إلا لطلب الرزق، أما هو فقد كان شاعراً وجامعاً للشعر، وتعرفت معه إلى المغني العراقي «سعدون جابر»، حيث نختار قصائد يغنيها سعدون بلحنه الفوري. وذات يوم جاءني ابراهيم بمخطوطة لمجموعة شعرية بعنوان «اغزل الغزل في الشعر العربي». وقد اختار قصائد غزليه جميلة جداً لأكثر من 150 شاعراً أو ابياتاً منهم. وطلب مني أن اكتب له مقدمة الكتاب. وقد فعلت وما يزال ذلك الكتاب يشكل عندي ينبوعاً للشعر الغزلي الجميل عندما أحن إلى الصبا والجمال.
 
ولقد جلست مرات مع دولة الأخ الكريم زيد الرفاعي، حيث نتبادل الحديث في الشعر والأدب. وكم أفرح لسعة معرفته في ذلك المجال. وكنت أعجب بسماع خطبه. فلغة الرجل سليمة، ولا يلحن، ولا ينشز في اللفظ. وبالطبع يجب أن أتذكر أنه من أسرة الرفاعي، التي وان غطى على صورتها العامة العمل في السياسة، إلا أنها أسرة صوفية، تعنى باللغة العربية واجادتها، وتتذوق الشعر وتفهمه.
 
وكم ضحكت أيضا مع السيد طلال أبو غزاله عندما ذكرت له قصيدة «كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء» ولا يزال يستذكر ذلك البيت ويضحك.
 
وأنا مراهق بالكلية دخلت مسابقة شعرية في المكتبة. وكان غريمي الاخير يختار لي ابياتاً تنتهي بحرف الميم. وعلى كثرة الأبيات التي تبدأ بحرف الميم، إلا أنني وصلت الى طريق مسدود، وكدت أخسر، فقلت فجأة:
 
«مستفعلن فاعلن فعولن
 
مستفعلن فاعل فعولن»
 
فاحتج منافسي، وسألتني اللجنة، ولكن هذا ليس بيت شعر. فقلت بلى وقد ورد هذا البيت في قصيدة لابن الرومي يهجي بها صاحباً له اسمه عمرو. وما خلت الا ومنافسي يسأل – ومعه حق- وما معنى هذا البيت. فقرأت له فوراً البيت التالي من قصيدة ابن الرومي والذي يقول:
 
«بيت كمعناك ليس فيه
 
معنى سوى أنه فضول»
 
يبقى بالطبع عند الحديث عن الشعر والسياسة، الاستاذ حيدر محمود الذي وضع الدواوين وقصائد كثيرة متغنياً بوطنه الأردن وهي فعلاً من اجمل القصائد. ولعل لنا رجعة إلى هذا الشاعر في مقالة لاحقة.