الراي- شروق العصفور
هل عجز الملحّنون في الوقت الراهن عن وضْع لحنٍ «وطنيّ» يتوافر على خصوصيةٍ وعلى سماتٍ لا تشبه سواها؟ لماذا «الهروب» إلى واحة الماضي والاعتياش على الألحان التي تشكلت فيه وإعادة تكريرها، عوضاً عن اجتراح ألحان تواكب الحاضر وتستلهم مستجداته وتحافظ في الوقت نفسه على نكهةٍ «حرِّيفة» ما زال الأردنيون يطربون لها وهم يستعيدونها من منجم الذاكرة؟
هل الأغنية «الأردنية» بالمعنى الحرفي للكلمة موجودة؟ في ظل انعدام وعي ملحنين وفنانين ومغنيين بأهمية أن تكون الأغنية منبثقة من وجدان الشعب، ولماذا على الأغنية الأردنية أن تستند إلى لحن تراثي كي تنجح؟ وهل عجز الملحنون في الوقت الراهن عن ايجاد لحن وطني حديث يربط الماضي بالحاضر، في ظل طغيان الإيقاع السريع على الأغنية الأردنية وإختفاء الإيقاع الهادئ.
حداد: الكلمات تحدد اللحن
يقول الملحن ايميل حداد إن الأغنية الوطنية ذات إيحاء، وإن كلمات الأغنية هي التي تحدد اللحن، فإذا كانت الأغنية تتحدث عن الفروسية والنخوة مثلا، فإنها تحتاج إلى اللحن الشعبي. ويضيف أن الأغنية الأردنية غالبا ما تكون على اللون الشعبي، فالكلمة هي الأساس، فإذا أحس بها الملحن سينتج لحنا يناسبها ويظهرها بصورتها المناسبة.
الشرقاوي: تقييم قدرات الملحنين
من جانبه، يرى الملحن وائل الشرقاوي أن انتشار ونجاح أغان عاطفية أو وطنية مقتبسة من الألحان التراثية لا يعد معيارا أو مقياسا لقدرات الملحنين في خلق جمل لحنية جديدة، بل على العكس، فإن عنصر التلحين غير موجود في هذا النوع من الأعمال، ويقتصر تنفيذه على الشاعر والمطرب والموزع الموسيقي والجهة المنتجة. ويؤكد الشرقاوي أن قرار تنفيذ أغنية ذات لحن مقتبس من لحن تراثي هو قرار تسويقي بحت، ويرى القائمون عليه أن هذه الصيغة تسهل انتشاره وحفظه وتداوله بين الجمهور بكلمات جديدة، مشيرا إلى أن الساحه الفنية شهدت خلال العقود الثلاثة الآخيرة بروز شعراء كبار أبدعوا في صياغة أجمل الصور الشعرية الغنائية لهذه الألحان التراثية وتقديم جيل جديد من المطربين.
ويدعو الشرقاوي إلى تقييم قدرات الملحنين في الأردن وإجراء المزيد من البحث والتحري يقود أعمالهم وألحانهم الناجحة لتغيير هذه الفرضيه الإنطباعية، وتسليط الضوء على التجارب الناجحة، وهذا يقود إلى وضع معيار نجاح الأغنية الأردنيه سواء كانت بلحن جديد او مستمدة من التراث، هل هو غناؤها في حفلات الأعراس أم بثها على الإذاعات أم حصولها على نسبة عالية من المشاهدة على شبكات التواصل الاجتماعي و الـ«يوتيوب».
سكرية: وداعا للزمن الجميل
من جهته يوضح الملحن هيثم سكرية أن الأغنية الشعبية ارتبطت بوجدان الأردنيين وطغت على المشهد الموسيقي وانتشرت على نطاق واسع، واصبحت حاضرة في جميع المناسبات، ويرى أن هذا النجاح الساحق هو السبب الرئيس لعدم نجاح أي انماط اخرى من الغناء، سواء الطربي، أو العاطفي، أو الشبابي. ولذلك استغل الملحنون الأردنيون هذه الظاهرة واتجهوا إلى وضع الحان مستمدة من روح الأغنية الشعبية ومحاكية لها، اعتقادا أن هذا يؤدي إلى إنجاح العمل وانتشاره، مما جعلهم يعزفون عن ابتكار ألحان جديدة متحررة من هذا القيد.
ويؤكد سكرية أن هذه الظاهرة سلبية بكل المقاييس، وأنها تحول دون انتشار الأغنية الأردنية عربيا وعالميا، كما أن إنتاج الأغنية المعتمد على دعم مؤسسات الدولة كان له دور في شيوع هذا النمط، ويضاف إلى ذلك غياب شركات الإنتاج الصانعة للنجوم.
ونظرا إلى أن الفنون والموسيقى تعد مرآة للمجتمع، لأنها الأكثر جذبا وانتشارًا وتعبيرا عن نبض الشارع، لأننا نعيش في زمن السرعة والتكنولوجيا. فمن الطبيعي بحسب سكرية ان ينعكس ذلك على الاغاني، فالزمن الجميل انتهى، وزمننا هذا زمن الزحام والسرعة.
ويختم سكرية بقوله إن الأمر لا يخلو من وجود فنانين مبدعين يخالفون هذا الاتجاه ويحاولون جاهدين ابتكار ألحان اكثر عمقًا وقيمة، ويساهمون في رفع الذائقة الفنية للمتلقي من خلال أعمال جميلة.
الزعبي: غياب اللحن «الوطني»
يؤكد الملحن نصر الزعبي أن الأغنية تعد اخطر وسائل الاتصال الجماعي، فتأثيرها على الرأي العام سريع ومباشر، مضيفا ان هناك محاذير في مجتمعاتنا في التعامل مع موضوع الأغنية، لتبقى تحت السيطرة الأمنية في توجهاتها العامة بما في ذلك «الأمنية المجتمعية» مثل المحافظة وعدم الاقتراب من الغزل الصريح، والخضوع لجملة من الشروط نزعت عنها سمة «الحرية».
ويرى الزعبي أن ازدهار الأغنية الأردنية تاريخيا، لم يكن نتيجة برنامج عمل ضمن أولويات الدولة، ولكنه كان مصادفة في سياق اهتمام رجال دولة معينين مثل وصفي التل وفواز شرف وعبد الحميد شرف، وبعد رحيلهم تراجع الاهتمام بالأغنية كثيرا.
ويلفت الزعبي إلى غياب القوانين والتشريعات الناظمة للعمل الفني، وفي مقدمتها قانون الملكية الفكرية الذي لو تم تفعيله بشكل صحيح، لمكّن العديد من التجارب من الظهور، ولما بقيت المحاولات قائمة على الدعم الوافد من الإذاعة والتلفزيون أو المؤسسات الخاصة، وهو الأمر الذي يؤدي لخضوع المطرب لمبدأ «من يدفع للزمار يحدد النغم»، ولذلك أخذت هذه الأغاني لونا واحدا استهلك فيه المغنون الأغاني الشعبية التي كانت دارجة بمضامينها ورقتها؛ لتكون وقودا لنار هذه الأغاني المستعرة بشكل غير طبيعي وغير مبرر.
ويؤكد الزعبي أنه لا وجود لأغنية «أردنية» بالمعنى الحرفي للكلمة، لعدم وعي الملحنين والفنانين والمغنيين بأهمية أن تكون الأغنية منبثقة من وجدان الشعب، وتراثه وتاريخه وتنوعه الثقافي، حيث يفترض بهذا التنوع الثقافي أن يشكل المشهد الجمالي بشكل عام، ويدعم بلورة أغنية تمثل الجميع، لكن ذلك لم يحصل. وما زالت الأوساط الثقافية الاجتماعية المختلفة أعمالا فنية بمعزل عن الآخرين وكأنها جزر معزولة؛ وهذا بطبيعة الحال لا يصب في تشكيل هوية خاصة بالأغنية الأردنية، بل يبعث على إضعاف قدرة هذه الأغنية على مواكبة الأغاني في المحيط العربي.
ويشير الزعبي إلى غياب الدراسات التي تبحث في موضوع الأغنية والتراث الشعبي بشكل عام، الأمر الذي جعل العمل في الأغنية الشعبية متاحا للجميع وعن غير دراية، مضيفا أن ثمة اعتقاداً أن الجمل التراثية والثيم الشعبية محبوبة لدى الناس، وبالتالي يتكئ عليها العديد من المطربين بشكل انتهازي، للوصول إلى جمهور حفلات الأعراس وغيرها.
ويوضح الزعبي أن الاعتماد على التراث الشعبي عكس العجز عن إيجاد الحان جديدة مواكبة، مما ساهم في تشويه الكثير من الملامح الفنية والجمالية لهذا التراث، حتى إن الأجيال الحديثة غدت لا تميز بين ما هو أصيل في هذه الأغاني وما هو مقلد.
وعن غياب لحن وطني يربط الماضي بالحاضر، يقول الزعبي: «بعض الملحنين ليست لديهم القدرة على إبداع أعمال لها ملامحها الجمالية والفنية المحترفة التي يمكن أن تحاكي عواطف وذائقة الناس، بدليل أن الأغاني غير الأردنية هي أكثر تأثيرا في ذائقة المجتمع الأردني من الأغاني الأردنية»، لا سيما أن الأغاني الأردنية تحت تأثير إرهاصات الهاجس الأمني، تحولت بالغالب إلى ما يسمى ب"الأغنية الأمنية» وليس «الأغنية الوطنية»، فالأغنية الوطنية ليس بالضرورة أن تكون متعلقة بالسياسة بشكل مباشر أو بالأيديولوجيات أو بالفئوية؛ فأغاني توفيق النمري مثلا تكاد تكون أغاني وطنية بالكامل.
ويوضح الزعبي أن الأغنية الأردنية كانت وما تزال نمطية من حيث الكتابة، تنتمي لبحور معينة من الشعر مثل الزجل والهزج، وهذا انعكس على المادة اللحنية، فهي أيضا نمطية ومنحصرة في مذاهب تكاد تكون متشابهة حتى في لحنها.
ويختم الزعبي بالقول: ليس مستحيلا أن نحقق شيئا للأغنية الأردنية، لأن الإنسان الأردني ذواق بطبيعته، عاشق للجمال، يستقبل التنوع بما في ذلك التنوع الفني والجمالي، ولكن ذلك لا يتم إلا عن طريق وجود مسؤوليات متعددة، منها ما يتعلق بالفنان نفسه سواء على المستوى الفردي أو التنظيمي مثل نقابة الفنانين، أو على المستوى الرسمي؛ فأين هي توجهات الدولة؟ وماذا تقدم الدولة من دعم يتعلق بالأغنية؟ ولماذا تغيب المهرجانات؟ ولماذا تنحاز بعض المهرجانات لأغاني الآخرين وليس للأغنية الأردنية، مثلما هو حاصل في مهرجان الأغنية الوطنية الأردني؟ ولماذا لا يمنح أصحاب الخبرة الإبداعية والأعمال الناجحة -على قلتهم-، فرصة إبداء الرأي، ليكون لهم إسهامات حقيقية في تجديد مشروع الأغنية الوطنية، الذي يحتاج إلى خبرات ومسؤوليات وطنية؟.