صحيفة العرب - سعد القرش -
السهولة التي تتيحها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ربما تسهم في اعتياد جيل من الصحافيين الكسالى على الاستسهال، والاكتفاء بالاقتباس والنقل والسرقة غير الحلال.
وقبل نحو 15 عاما اقترحت على الأستاذ عصام خلف رئيس تحرير النشرة العربية في رويترز أن أتعمّد الخطأ في قصة ما، لكي يقع فيه اللصوص وأشباه اللصوص، ويتحملوا المسؤولية أمام القراء. فابتسم الرجل، وأنا أدافع عن الفكرة، وأشرح الفرق بين لصوص ينتمون إلى فصيلة الذئاب المنفردة، من هواة القنص والنقل الحَرْفي للقصص الخبرية من الوكالة، وسرعان ما ينشرونها موقعة بأسمائهم في صحفهم الإلكترونية والورقية، ولا يؤهلهم ذكاؤهم المحدود لاستبعاد ما يدل على مصدرها الرويتري.
أفرّق بين هؤلاء اللصوص الواضحين وبين أشباه اللصوص المشتركين في الخدمة الصحافية، ولكنهم لا يذكرون المصدر، وينسبون الموضوعات إلى مكاتبهم في هذه العاصمة أو تلك، وأحيانا يضيفون اسم أحد محرريهم حتى لو كانت القصة الخبرية خاصة جدا، مثل حضور المحرر شريكا في حدث مغلق لا يحضره صحافيون، أو أن تكون مقابلة صنعتها مصادفة نادرة، وأهدتها إلى محرر “رويترز” وحده.
عزّزت اقتراحي بأننا سنؤجل بثّ التصحيح للخطأ المتعمد ساعة أو ساعتين، فلا ينتبه إليه اللصوص وأشباه اللصوص، وسيكون الخبر شقّ طريقه إلى الطباعة؛ فلا يسهل عليهم تصحيحه، وما يطمئنني أن الصيغة الأخيرة في رويترز ستكون مصححة. فابتسم الأستاذ عصام خلف رحمه الله، وقال لي “يصعب أن نغامر بهذا. ولا يمكن ضبط اللص الصريح ومحاسبته، أما المشترك فهو يتصرف بثقة الذي يتحكم في ماله، لأنه يدفع ثمن شراء الخدمة الخبرية”.
وتوفي الرجل قبل أن أنتبه إلى صنف من هواة سرقة الآراء، يختلف عن اللصوص وأشباه اللصوص، وهذه من عجائب المهنة. ففي مارس 2015 حضرت افتتاح ملتقى القاهرة السادس للرواية العربية، واتجهت مباشرة إلى مطار القاهرة، لحضور مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية.
وبعد أيام كان عليّ أن أكتب من الأقصر لرويترز في القاهرة تقريرا عن الفائز بالجائزة، في حفل ختام لا أعرف عنه إلا فوز بهاء طاهر بالجائزة، ورئاسة واسيني الأعرج للجنة التحكيم. وأقدمت على تصرّف توفيقي، لا أستطيع الآن أن أحكم عليه مهنيا أو أخلاقيا، إذ تخيّلت من معرفتي بأدب الروائي الفائز ما يمكن أن يقوله رئيس لجنة التحكيم في بيان الفوز، وكتبت على لسان الأعرج أن من حيثيات منح الجائزة لبهاء طاهر “أن أدبه يعالج قضايا إنسانية، كما حمل هموم الإنسان المصري والعربي بلغة لا تتخلى عن شرطها الإبداعي”.
ثم قرأت بيان الفوز، وقد خلا من الإشارة إلى هذه الجملة التي تسرّبت من رويترز، ودخلت في نسيج مقالات لا يشير أصحابها إلى المصدر، على الرغم من رفع البعض منهم لرايات أخلاقية ومهنية وإنسانية وثورية وتربوية بعد انتكاسات الثورات العربية. والبعض من هذه الرايات والمُثل تتبناها، بحق أو بطيبة أحيانا، صديقات جميلات تحظى منشوراتهن الفيسبوكية بعدد وافر من المعجبين، وبعض هذه المنشورات أقرب إلى مقالات تحتاج إلى بضع دقائق للقراءة، وإلى مثل هذه الدقائق للتحاور مع الأفكار. ولكنها في بضع ثوان تجتذب العشرات من إشارات الإعجاب وتعليقات الإشادة، والاتفاق التام.
فكرت أن أقترح عليهن تجربة مسلّية، بكتابة منشور لا يتفق مع قناعتهن، ويختلف تماما عن منشور سابق. وأراهن على أن المعجبين والمادحين والمتحرّشين المكبوتين هم أنفسهم سيسارعون إلى الإعجاب والإشادة، والاتفاق التام.
بدأ فيسبوك عام 2004، ويفترض أنه الآن نضج وبلغ السادسة عشرة، وهي سن تسمح له باستخراج بطاقة الهوية، وله أن يفخر بحسناته في مشاركة أخبار، وكشف جرائم، وتسليط أضواء على أخطاء مسؤولين، والتنبيه الفوري إلى كوارث. إلا أنه من دون أن يتعمّد مؤسسه الخواجة مارك زوكربيرغ يكرس لخلق غيتوهات اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وطائفية. كما يستهوي مستلبين يحلو لهم الاصطفاف في حشود غير مقدسة، لكي ينالوا إعجاب امرأة جميلة، ولو باستحسانها إعجابهم بها. كتبت إحداهن يوما سنها الحقيقية، وأنها تقف الآن على عتبة الأربعين، فسارع أحدهم إلى استدعاء قول محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة: نهاية أيلولَ، سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها. انفعلت السيدة، وأبدت غضبها، ربما لأن من حقها وحدها ذكرُ الأربعين، ولا يحق لأحد أن يذكّرها بهذه السن، فسألها: “طيب، أقول إيه؟”. المسكين لا بدّ أن يقول شيئا، أن يعلق بمدح يضمن له البقاء في الطابور، فردا يلوذ بحماية نفسية وسط قطيع من الهتّيفة فاقدي الرُشد. ويتكفل الوقت بعلاج الأعراض الجانبية للوسائل الإعلامية الجديدة التي منحت الصامتين حق رفع الصوت بأي انفعال.
الدعوة قائمة إلى خوض هذه التجربة الطريفة، بكتابة منشورات مغايرة، ثورة مضادة مؤقتة بالطبع على قناعات معلنة وموثّقة بالنشر؛ لاختبار وعي مواطني الحشود والتأكد من ذكاء سيتفوّق عليهم فيه سائق تاكسي جزائري لمح المخرج المصري مجدي أحمد علي يشرب ماء، فاستنكر عليه الإفطار في نهار رمضان، وأوضح المخرج أنهم الآن في الطريق إلى مطار هواري بومدين، وهذا يعني أن المخرج غريب، وعلى سفر، وذكّر السائق بآية “فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر”. صمت السائق قليلا، ثم قال غاضبا “لا يمكن أن يكون الله قائل هذا الكلام”.