الغد
من بين بحر أفكار، كانت أول فكرة –بل صورة- قفزت إلى المقدمة بمجرد أن كتبت العنوان أعلاه، هي صورة كلمة “العاصفة”، المكتوبة بالخط الديواني الجلي في شعار “فتح” (حركة التحرير الوطني الفلسطيني). حروف كلمة “العاصفة”، التي تحتل كل المسافة في المنطقة الأعرض من الشعار في الأعلى، تندلع من حروفها ألسنة لهب مستعر، وتحتضن خريطة فلسطين التاريخية (في الحقيقة النصف الأعلى من الخريطة، لضرورات المساحة) وتنبثق منها ماسورتا بندقيتين رشاشتين في رأس إحداهما حربة. وتقبض على الرشاشين المتقاطعتين قبضتان، ساعداهما علمان. وفي الأسفل قنبلة يدوية (رمانة)، تحتضنها كلمة “فتح” بحدب. وتحيط بالشعار من الأسفل “شبرة” كُتبت فيها عبارة “حركة التحرير الوطني الفلسطيني”.
ما صلة “العاصفة”؟ ربما تكون في قصيدة الراحل مظفر النواب “في الرياح السيئة يُعتمَد القلب”. الرياح سيئة بالتأكيد، و”الأساطيل” تتجمع لإطباق الحصار. وإذن: “...انسفوا ما استطعتم إليه الوصولَ من الأجنبيِّ المجازفِ، واستبشروا العاصفة/ مرحباً أيُّها العاصفة..”.
* * *
في بعض الأحيان، تصبح الشعارات، ومنها الأناشيد الوطنية الرسمية، ورطة حين لا تعود تعبر عن المشروع. الشعار هو “العلامة التجارية” التي ينبغي أن تختصر طبيعة العمل، وتسوقه. من التغييرات، مثلا، ما شهده النشيد/ السلام الوطني المصري عدة مرات، كان آخرها التحول من نشيد “والله زمان يا سلاحي” الذي اعتُمد من 1960 إلى 1979، إلى “بلادي بلادي بلادي” المعتمد منذ ذلك الحين. لم يعد مناسبا بعد “كامب ديفيد” إنشاد “والله زمان يا سلاحي/ اشتقت لك في كفاحي/ انطق وقول أنا صاحي/ يا حرب والله زمان”. سوف يتعارض هذا الكلام مع روحية السلام، ويصبح حذفه شرطا لتأكيد “حُسن الطوية”.
النشيد/ السلام الوطني الفلسطيني تغيّر أيضا، من “موطني موطني”، نشيد إبراهيم طوقان الرائع الخالد، ربما الأجمل على الإطلاق، إلى “فدائي”، للشاعر سعيد المزين. حسب “ويكيبيديا”: “... أصبح نشيد “فدائي” مستخدما رسميا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1972 بقرار من اللجنة التنفيذية للمنظمة، ثم في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية منذ عام 2005 بقرار من مجلس وزراء السلطة بعدما اشترطت إسرائيل عدم استخدام نشيد “موطني” للجلوس في مفاوضات مع الفلسطينيين”. إذا كانت معلومة “ويكيبيديا” صحيحة، لا أفهم كيف رفضت “إسرائيل” هذه نشيد “موطني” وسكتت عن “فدائي” –يبدو أنها قبلته ما دامت “السلطة” تعتمده. في نشيد “فدائي” مقطع يقول: “بعزمِ الرياحِ ونار السلاحْ.. وإصرار شعبي لخوض الكفاحْ/ فلسطين داري ودرب انتصاري.. فلسطين ثاري وأرض الصمودْ”.
في المقابل، ربما يكون المقطع الأكثر “عدوانية” في نشيد “موطني” هو: “الشباب لن يكلَّ، همّهُ أن تستقلَّ، أو يَبيدْ/ نستقي منَ الرَّدى، ولن نكون للعدى كالعبيدْ”. بل إن فيه مقطعًا ناعمًا عندما يتعلق الأمر بالمنهج: “الحسام واليراع، لا الكلام والنزاع، رمزُنا.. مجدنا وعهدنا وواجب الى الوفا يهزنا”. الحسام بالتأكيد أقل تهديدا من “عزم الرياح” (“العاصفة”؟) و”نار السلاح” و”إصرار شعبي لخوض الكفاح”. لكن “إسرائيل” –و”السلطة”، إذا كان هذا يهُم- قبلتاه. لله في خلقه شؤون!
* * *
بالعودة إلى الشعار الأثير، الذي له محبة في قلوب الفلسطينيين، برموزه وإعلاناته التي تلخص روحهم الوطنية. مع مشاهد استباحة المستوطنين الوحشيين بحماية الجيش الوحشي لكرامات الفلسطينيين العُزّل، واقتلاعهم مما تبقى لهم من ممتلكات قليلة في “فلسطين السلام” غير التاريخية –والأهم، مع الخطاب الرسمي الفلسطيني الذي أصبح أيديولوجيا، من المؤكد أن شعار “فتح” (حيث “فتح” = “السلطة الفلسطينية” = “الدولة” المتصوَّرة) في ورطة: لا علاقة للدال بالمدلول –ربما إلا بقدر التمسُّك بالشعار كدالة على القِدَم فالأحقية، والخشية من الصراحة الصادمة التي ربما يعنيها تغيير الشعار: سوف يعني شِعار جديد تكوينًا جديدًا طائرًا في الهواء، بلا تاريخ وجذور. الأمر أسهل بالتأكيد مع “أناشيد المركزية”: أودع فقط تسجيلات “طالعلك يا عدوي طالع/ من كل بيت وحارة وشارع/ بإيماني وسلاحي طالع”، وكل نشيد فيه سلاح أو رفض لتسويات تخون شبرا من فلسطين، في الأرشيف، وامنع بثها أو تداولها على المسارح وفي الأنشطة الوطنية.
* * *
أين تذهب بنا الطرق في الرياح السيئة؟ كتبتُ عنوان المقال بنية عرض حجة منطقية، بصرامة أكاديمية، عن تصريح جدعون ساعر بخصوص فناء كيانه إذا استجابت الدول الغربية لدعوات حظر السلاح عنه. أردتُ مناقشة الضعف البنيوي للكيان، ومقارنته بالمشاريع الاستعمارية -الاستيطانية الناجزة في أميركا وأستراليا، مثلا، وإظهار أنه لا يمتلك أيا من المؤهلات التي جعلتها تنجح؛ ولذلك يغلب أنه سيفنى بحكم عدم أهليته البنيوية. مثلما وُلد بطرق اصطناعية ويعيش بأجهزة خارجية، سيذهب مثل أي كائن غير طبيعي لا يعيش بأجهزته الحيوية الخاصة.
لكن الأوقات صعبة حقا، والرياح السيئة تخفي المسارات وشواخص الطريق –ولذلك هذا المسار التوليدي الاستطرادي من فشل مشروع الاستعمار إلى “العاصفة” في الشعار الوطني؛ والمسافة بين الشعار والتجلي، والمفارقة في تغيير النشيد الوطني. هذه الظواهر أيضا ربما أربكها عدم وضوح الطريق في الرياح السيئة؛ في الحالة الفلسطينية المضطربة، غير الطبيعية، التي جلبها طقس مُقيم، متطرف، غير طبيعي.