الدستور
«إسرائيل» قاعدة محتملة للقوة الأميركية في منطقة بالغة الأهمية. مذكرة مسرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية (C.I.A) عام 1951.
في 17 أكتوبر عام 2004، كتب الصحفي الشهير رون ساسكايند مقالًا في صحيفة نيويورك تايمز، نقل فيه عن أحد أهم مستشاري الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، والذي يُلقّب بـ»مهندس بوش»، كارل روف، قوله:
«نحن الآن إمبراطورية، وعندما نتحرّك، نخلق واقعنا الخاص. وبينما أنتم منشغلون بدراسته، نتحرّك من جديد ونخلق حقائق أخرى، يمكنكم أن تدرسوها أيضًا. وهكذا تُدار الأمور. نحن صنّاع التاريخ... وأنتم، جميعكم، لن تفعلوا سوى دراسة ما نفعله.»
كشف مجرم الحرب نتن ياهو، قبل أيام، بوضوح لا لبس فيه، أن هدف الإبادة الجماعية الجارية في غزة لا علاقة له بإطلاق سراح المحتجزين لدى حماس، ولا حتى بالقضاء عليها، بل يتمثل في احتلال غزة وتهجير سكانها وتحقيق رؤية ترامب بجعلها أرضًا أمريكية، وهو ما يروّج له وزراؤه الإرهابيون علنًا.
ما يجري في غزة اليوم يُشبه ما جرى في العراق وأدى إلى احتلاله عام 2003. فقد بدأ الأمر بحصار خانق فُرض على العراق من عام 1991 حتى عام 2003، قُطعت خلاله الأدوية والأغذية لأربعة عشر عامًا، واستُشهد نتيجة ذلك أكثر من نصف مليون طفل عراقي. وفي عام 1996، ظهرت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، مادلين أولبرايت، في برنامج ستون دقيقة، وعندما سُئلت عن هذا الرقم، أجابت: «نعتقد أن الثمن كان يستحق ذلك.»
ولا أرى فرقًا بين تصريحها ذاك، وتصريحات الرئيس ترامب وسط الإبادة الجارية في غزة والحصار الخانق عليها، حين يقول: «سندخل بعض الطعام إلى غزة.» أو ما صرّح به مبعوثه الخاص وصديقه المقرّب ويتكوف، حين قال: «إسرائيل دولة مستقلة ذات سيادة تتّخذ قراراتها، والرئيس ترامب يدعم قراراتها.»
ولو أراد ترامب إيقاف الإبادة، لأوقفها في ثانية واحدة. ألم يكن قادرًا على ذلك قبل أن يصل إلى البيت الأبيض، حيث حصل لموقفه هذا على أصوات العرب والمسلمين، ثم أدار لهم ظهره فور وصوله؟ أولم يُوقف الرئيس ريغان الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، حين مارس ضغوطًا مباشرة على مناحيم بيغن، فامتثل للأمر وسحب قواته؟
وكما كذبت الولايات المتحدة سابقًا بشأن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وزعمت تنسيقه مع أسامة بن لادن وتورّطه في أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتبرير احتلاله وسرقة نفطه وتدمير أكبر قوة عربية في المنطقة، ها هي اليوم تكرّر الأكاذيب. فهي تدّعي أنها تسعى لإخراج الرهائن، والقضاء على حماس، وتجريدها من سلاحها كشرط لوقف المجزرة، بينما هدفها الحقيقي هو احتلال غزة وطرد سكانها منها.
برأيي، قد تكون الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل التحضير لمرحلة ما بعد تفكك الكيان الصهيوني. ربما وصلت إلى قناعة بأن مشروعها الصهيوني قد فشل، وأن لا مستقبل له، حتى وإن بدا اليوم في أوج قوته المفرطة. فلولا دعمها المباشر وتدخلها السياسي والعسكري، لكان هذا المشروع قد انهار في السابع من أكتوبر. فالكيان اليوم تحكمه قوى متطرفة، والتطرّف لا يُجيد إدارة الحكم. والمجتمع هناك يشهد انقسامًا داخليًا حادًا قد يقود إلى حرب أهلية.
في الوقت نفسه، تتصاعد مشاعر الكراهية تجاه الكيان لدى الجيل الجديد في الغرب، الجيل الذي بات على مشارف الوصول إلى مواقع القرار. ولم تعد الرواية الصهيو-غربية تُقنع أحدًا. لذلك، قد تكون الولايات المتحدة تستعد لمرحلة ما بعد «إسرائيل»، أو على الأقل تسعى لتأمين وجود مباشر لها داخل المنطقة، بهدف حماية مصالحها الاستراتيجية في النفط، والسيطرة على ممرات الملاحة الحيوية.
وإذا صحّت هذه الرؤية، فإن الاتفاق النووي الإيراني يصبّ في هذا الاتجاه. فعلى الرغم من دعم إيران للحوثيين الذين أوجعوا الكيان قبل أيام، تستمر الولايات المتحدة في التفاوض معها، لسببين: أولًا، إضعاف جميع الفصائل التي تدعمها إيران عبر سياسة الاحتواء؛ وثانيًا، الإبقاء على «البعبع الإيراني» حيًّا، لتبرير سباق التسلح في المنطقة وتعزيز مبيعات السلاح.
ما يجري الآن هو في حقيقته حرب أمريكية خالصة، والكيان الصهيوني ليس إلا بيدقًا تحرّكه واشنطن كيفما تشاء.