عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Sep-2019

نداء من أجل العربية - د.أحمد الريسوني
 
الدستور - تعتبر اللغة والدين المحددين الأساسيين لهويات الأمم والشعوب وانتماءاتـها على مر التاريخ وإلى الآن.ويزداد هذان العنصران قوة في ذلك، إذا التحما في بوتقة واحدة، بحيث تكون اللغة القومية لجماعة بشرية ما، هي نفسها لغتها الدينية.
ورغم المحاولات الحديثة والحثيثة، لإعادة تشكيل الأمم والشعوب وانتماءاتها والانتماء إليها، على أسس جغرافية وسياسية وقانونية، فإن ذلك لم يلغِ ولم يضعف قوة الانتماء الديني والانتماء اللغوي. فما زال الولاء القومي واللغوي، والانتماء الديني، يعلوان فوق الانتماء الوطني السياسي، في حالة ما إذا كانا مختلفين.
وتشكل اللغة الأم ـ لغةُ التنشئة والتعامل ـ حضنا وغذاء نفسيا وعاطفيا لشخصية أي إنسان. فالمفهوم الأولي والبسيط، السائد عن وظيفة اللغة، بأنها مجرد أداة للتواصل والتفاهم بين الناس، هو جزء من الحقيقة، وليس كل الحقيقة. ووصف اللغة بعبارة ( اللغة الأم )، هو التعبيرالحقيقي الصادق عن دور اللغة ووظائفها. فـ (اللغة الأم)، تعني أن للغة وظائف كوظائف الأم.وهذا التعبير بمعناه المذكور، يعفيني من إطالة الشرح والبيان لما تضطلع به ( اللغة الأم )، من وظائف وخدمات نفسية وعاطفية وتربوية وتثقيفية وتواصلية، مع المحيط القريب والبعيد. بل حتى هذه الوظيفة التواصلية للغة، فإنها ليست بالمحدودية التي تتبادر إلى الأذهان، وهي التخاطب والتواصل بين الناس المتعاصرين، بل هي ـ فوق ذلك ـ أداة للتفاهم والتواصل بين العصور والأجيال، مع ما ينشأ عن ذلك من ارتباط عاطفي، لا تختلف طبيعته عن ارتباط الشخص بأقاربه وأصدقائه ومعاصريه.
ولحكمةٍ ما ـ أرادها الله تعالى ـ كانت المسألة اللغوية حاضرة منذ اللحظة الأولى لخلق الإنسان، فقد كان أول تعليم رباني تلقاه الجنس البشري، هو اللغة والبيان، حتى قبل أن يتعلم آدم كسب قوته، أو عبادة ربه، أو ستر عورته.) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا( [البقرة/31] ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ( [الرحمن/1-4]. وأقل درس يستفاد من هذا، هو أن لِلُّغة وظيفة أساسية وعاجلة في حياة الإنسان.
وإذا كان (كل إناء بالذي فيه يَرْشح)، فإن كل لغة ـ واللغة إناء ـ بالذي فيها تَرْشح، ترشح بما فيها، على مَن حولها ومن تعامل معها. ولذلك فإن الاحتكاك، أو الاندماج، مع أي لغة من اللغات ـ وخاصة في مرحلة النشأة الأولى ـ يُفيض على الشخص ويبث في روعه ونفسه، من تاريخ تلك اللغة وأدبها وثقافتها وقيمها وذكرياتها
فالانتماء اللغوي/الثقافي للأشخاص وللمجموعات البشرية، يتجاوز في تأثيره حتى الانتماء العرقي نفسه. ولذلك نجد اليوم شعوبا إسلامية كبيرة قد انتمت إلى العروبة بسبب اندماجها في لغة العرب، مع أنها ذات انتماءات قومية ليس لها أي أصل عرقي عربي. وقد جاء في الأثر : « يا أيها الناس إن الرب رب واحد، وإن الأب أب واحد، وإن الدين دين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هى اللسان. فمن تكلم بالعربية فهو عربى.» ( الجامع الكبير للسيوطي 1 / 26740).
وبهذا المعنى اندمج في عروبة اللسان أضعافُ عرب الأنساب. ومن المعلوم أن عرب اللسان هم أكثر مَن خدموا العربية وأكثر من دافعوا عنها.وبهذا أيضا تخلصت اللغة العربية من أي صفة عرقية أو عنصرية.فاللغة العربية ليست لغة خاصة بعرب النسب، ولكنها لغة من تكلم بها واندمج فيها. فمن فعل هذا فهو العربي، أيّاً كان نسبه وسلالته.
كما أن (اللغةُ الأم) تشكل وسيلة لا بديل عنها، لأي إبداع ـ أدبي أو علمي ـ مستقل ومتميز. وبدونها لا تكون إلا التبعية والذيلية والهامشية. فليس هناك أمة أبدعت وتميزت، حضاريا أو علميا أو أدبيا، بغير لغتها القومية الراسخة فيها. وها هي التجربة اليابانية ـ على سبيل المثال ـ حية وقريبة، حيث كان الاعتماد الأساسي والكبير للنهضة اليابانية، على اللغة القومية، وليس على اللغة الإنجليزية، كما يظن الكثيرون.ولحد الآن، فإن الشعب الياباني يعتبر متأخرا في سلم المعرفة باللغة الإنجليزية، ضمن شعوب العالم. فقد جاء اليابانيون في المرتبة الثامنة عشرة في امتحاناتٍ خاصة باللغة الإنجليزية، أجريت على الصعيد الآسيوي. ولو كان الامتحان على الصعيد العالمي لتدحرج ترتيبهم إلى الوراء أكثر، ولسبقهم كثير من العرب !
على أن لِلُّغةِ العربية خاصية أخرى لاتخفى أهميتها وخطورتها عند كافة العرب والمسلمين، وهي كونها لغة الإسلام، أي لغة القرآن والسنة، وهي أيضا اللغة الأولى للعلوم الشرعية والثقافة الإسلامية. وهذا ما يجعلها لغة مشَرَّفة ومحبوبة ومطلوبة، عند مئات الملايين من المسلمين من غير العرب.
ولكن هذه الخصائص والوظائف الكبيرة والخطيرة، سواء التي تشترك فيها اللغة العربية مع غيرها من اللغات العالمية، أوالتي تتفرد بها دون سائر اللغات، قد أصبحت كلها مضعضعة أو مهملة أو مهددة
إن قضية اللغة العربية يجب أن ترفع إلى مرتبة القضايا الكبرى للأمة، القضايا السياسية والاستراتيجية. ويجب أن تعتبر قضية حكومات وشعوب، لاقضية مهتمين ومتخصصين.