عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Mar-2021

الجسد والروح: كتابة الأزرق

 القدس العربي-رجاء الطالبي

1 – قصيدتان.. ضفتان
 
بين نَفَسين، بين جسدين، بين مغامرتين تكتبان الأزرق، قصيدتان تجاوران الأزرق، وحميمية الصوت الذي يتلبسه الأزرق، حميمية النفس، الأزرق في خفته، متحررا من الثقل، ذرات متصدعة في الضوء هي الشفافية. قصيدتان تحاولان أن تتهجيا ما يسائلهما، يناديهما، يهجس في أعماقهما، القصيدة في مواجهة أزرقها، الذي يستبطن الزخم الوجودي والمعرفي الذي يحركها، أو يناديها. بين أزرقين، بين قصيدتين، بين ديوانين، بين ضفتين، وعالمين شعريين يأتلفان ويختلفان. إنه أزرق الممكنات، أزرق الأنفاس، أزرق المخيلة، الأسود الذي يقع على الأبيض، اللامحدود، شكلٌ للكلمات، إنه الكتابة، إنه حياة الشاعر، بل كينونته ذاتها.
 
2- أزرق بين زمنين، بين رغبتين
 
بين أزرق «هذا الأزرق» لمحمد بنيس، «وقصة الأزرق» لجون ميشيل مولبوا، هناك هذه المفارقة الزمنية التي يطرحها عنوانا الديوانين، ففي «هذا الأزرق» هناك اسم الإشارة «هذا» الذي يشير إلى الأزرق، قريبا وحاضرا، ملتصقا باللحظة، حتى وهو يستدعيها من الذاكرة يستحضرها خفاقة جياشة ممتلئة بالحضور، تمنح المسرّة وتضيء الكتابة.
يكتب محمد بنيس أزرقه ليحتفي ولينشد لحظات الامتلاء والتحقق، ترقص اللغة بين جنبيه، في اليد التي تكتب تعاقر أزرقها، تراوده تارة، تستله أخرى من بين الصلب والترائب، تلك اليد التي تكتب تسابق ما يرنحها ويسكرها، في هذا الأزرق المشعشع، وهو يتوزع هناك وهنالك في النفس وما حولها، يمتزج فيه ما يهجج الجسد، وما يأخذ الروح لتتغنى بما يخطفها، ويجذبها، أزرق الافتتان والخطف، يستدعيها ويعليها لتلتقط وهج اللحظات والوجود والامتلاء، حتى وهي تعاقر العدم والغياب، في صمت ضاج بحيواته لا تملك إلا أن تشتعل بما يناديها، سكرى مترنحة، راقصة مجنونة، مخطوفة، منخطفة، تحتفي، تبارك، تنشد هذا الذي يبقى ويؤسسه الشعراء.
أما في ديوان «قصة الأزرق» لجون ميشيل مُولبْوَا، فما يتبادر لأذهاننا لأول لحظة هو استرجاع لقصة انتهت وتأتي الكتابة، أو القصيدة لتكتب ذكراها، لتكتب أشياء الذكرى، ولتعبر عن هذا الفراغ الذي تتركه الأشياء التي ترحل، فهي كتابة أو قصيدة للذكرى، مرتبطة بماضيها وبإشكالية محدودية الذات أمام اللانهائي، نقصانها، وفراغها، أحيانا تمتد غيوم الذات الكالحة لتغطي بهذا الاسترجاع المعتم نصاعة الأزرق، فنجدنا أمام ذات ممرورة معتمة تهرب إلى البحر لتتخفف مما يثقلها، يقول مولْبوا:
«يقف أحدنا أحيانا قرب البحر.
يبقى هناك لفترة طويلة، يحدق في الأزرق، جامدا، متيبسا كما لو في كنيسة، لا يعلم شيئا عما يثقل كاهله ويمسك به، ضعيفا، مذهولا من شساعة البحر، يتذكر ربما ما لم يحدث أبدا، يسبح في حياته الخاصة، يترك البحر يتكشف في داخله: ينمو البحر وفق رغبته، يقرع مثل عصا الأعمى، ويقوده ببطء حيث الكلمة الأخيرة للسماء وحدِها، حيث لا يمكن لأي شخص قول أي شيء، حيث لا توجد أي خصلة من العشب، ولا تنمو أي فكرة، حيث يصدر الرأس صوتا أجوف بعد أن يبصق روحه».
فأزرقُ قصيدة مولْبوا هو أزرقُ ذاتٍ تشكو ما ينقصها، تكتب الأزرقَ لتملأ فراغا يصرخ في الرأس، أزرقَ الألم، يقول الشاعر:
«لا تعتقد أن هذا الأزرق خالٍ منَ الألم
ليس البحر دافئا وهادئا كحلم الطفل المعلق في الغرفة، فوق السرير بين الدمى والمجوهرات.
عندما يتوقف قلبنا عن الخفقان، نتطلع إلى البحر في برك الشارع، من أجل أن نلعق بؤسنا، ومن أجل أن نهدي رغبتنا شبيها للسماء. أحيانا ننظر في أعين من يشبهوننا آملين أن نعثر على البحر ونغرق فيه للحظات.
نفرك بشرتنا في الغرفة ببشرة الآخرين بحثا عن كهرباءٍ زرقاءَ وعن صعقتها الجميلة.
نتبادل من وقت لآخرَ مع أشباهنا إشاراتٍ دخانيةً سخيفةً، أذرعنا متدلية، نقف بمفردنا على الحلبة ماضغين غبارها المبلل بدموع خفية: بضع كلمات، بضع جمل، هي قليلة جدا تحت النجوم.
أزرقُ في الرأس، حبرٌ في الفم، حتى آخرِ الساعة. صوتٌ أبيضُ، صوت ملطخ، يَدْرَأُ الموتَ، ويتزوج الممات، منصتا بلا خوف إلى تكسير عظام السماء والبحر».
إن هدف كتاب «قصة الأزرقِ» هو تحديدا استكشاف هذه النظرة، هذه المواجهة الفريدة للإنسان مع مظاهر اللانهائي، هذا الحوار المتردد الذي يستمر في الحب وفي مواجهة الموت، وكذلك تحت أقبية الكنائس أو على شواطئ البحر. بقدر ما هو تأمل، سنقرأ في هذه الصفحات قصيدة هذه المحدودية الحديثة التي تتلمس بحثا عن المقدس في عالم فقد أي فكرة عنه، لكنه لا يزال محتفظا بالرغبة فيه. على غرار آلهة الإغريق التسعة الذين يترأسون الفنون، توجد هنا تسعة فصول قصيرة، تجمع كل منها تسعةُ نصوص، والتي تدعو عن طريق التوازن الذي تمنحه الكتابة إلى إيجاد وإعادة اكتشاف هذا الامتلاء الذي طالما تم البحث عنه.
 
لم يكن الأزرق لونا أو روحا غريبة في كتابات الشاعر محمد بنيس، بل حضر في جل دواوينه الشعرية، بما هو تأمل وإنصات ومجاورة فكرية وشعرية للأسئلة والعوالم التي تحبل بها كتاباته الشعرية.
 
3- أزرقُ.. لون الفكر والشعر
 
لم يكن الأزرق لونا أو روحا غريبة في كتابات الشاعر محمد بنيس، بل حضر في جل دواوينه الشعرية، بما هو تأمل وإنصات ومجاورة فكرية وشعرية للأسئلة والعوالم التي تحبل بها كتاباته الشعرية.
أزرقُ كأنما هو نهرٌ لا يكف عن الجريان، يمد قصيدته بمائها، يجري كي يمنح للأعماق فسحة للتفكير في ما يسكنها، أو يقولها في ما يصعب البوح به، أو يتعذر قوله، في هذا الجيشان للأعماق والجسد وهو يستقبل صباحاته، في خلوته المتأملة والصعبة، وهو يقلب في ما يسكنه ويؤرقه في أزمنة الشدة، والنقصان، وتشابك الطرق غير المؤدية. أزرقُ هناك ليمنح للنظرة وهجها ودهشتها، وهي ترى إلى ما لا يرى، أو تستعير لسانا لهذا الذي يتعذر قوله والقاطن في ذرات الهواء، في ما يبقى، في الغسق حيث يتوارى ما يشكل الوجودَ الحقَّ والعميق، ليكون دور الشاعر أن يقتفي آثار ما يرحل ويسمي هذا الغياب.
إنه هذا الأزرقُ جسدٌ للقصيدة وهي توزع وجودها الذُّرِّيَّ في العالم، كلَّ صباح، أو مساء يدرب الشاعر عينيه وأعماقه على تنفس والتقاط أنفاسها المنتثرة في الهواء، وفي ما يغيب في الذاكرة والطفولة، وجوها وروائح، أمكنةً وطبيعةً، ليمنح وليقول هذا اللانهائيَّ الممتد والمخترق الأزمنةَ والأمكنةَ. يقول في قصيدة «تسمية»:
إلى عيني يأتي أزرقُ
في ركن منها
يجلس مستترا بالصمت كما
لو كان يردد شبهَ
حضورٍ
يبعد عني
من أنت أيها الأزرقُ
سمعت يدي
تسأل
لكنَّ داخلي أهزوجةً
هي ما ملكتُ
وأنا أنصت إلى شك سميته
صديقي
جسد في وسط ليل
في وسط صمت
هذا الأزرقُ نادى علي
نادى
صديقي.
قصائد «هذا الأزرق» قصائد احتفاء وإنشاد يعلي الوجود إلى مصاف السكرة جَذِلًا مفتونا سكران منتشيا، وكم تتردد كلمات هذا الشطح والفرح الذي يتلبس الذات وهي تتغنى بما يخطفها من تجليات الأزرق في ذاته، في الأشياء، في الأمكنة، في المعرفة، في الفن، والتاريخ، انفتاح على نداء الشساعة وعلى ما يتجاوز الجسد، لغة انخطاف ونشوة وانمحاء وتجسد أبعد مما تمنحه اللحظات وتمليه المادة.
«أزرقُ من الأرض جاء إلى عيني، أو أقول الأزرقُ الذي رأيت حيوان أليف. يتنفس، قريبا من الحواس. أزرقُ على قدر ما أرى…».
إذا كان الجسد عند جون ميشيل مولْبوا يشكو محدوديته ونقصانه، إذا كانت قصيدته لا تخلو من قول هذا النقصان أمام شساعة الأزرقِ، فهذا الأخير عند مولْبوا يجسد نداء ما يتجاوزُ الذاتَ، وما يخلص من محدودية الجسد، انفتاحا على اللانهائي المخلص، فهناك حسب مولْبوا «من لم تعد تكفيه الحياة المحدودة لجزر محدودة، يغادرها المهووسون بالسفر للذهاب إلى البحر، روبنسواتٌ مريضون: لابد لهم أن يجوبوا الأزرقَ، فالشواطئ لا تكفي، ولا المحطات الطويلة في الموانئ، حيث يتكئون على الحاجز الحجري، لا تكفيهم الصورُ المرسومة، ولا الصلبانُ المصنوعة من الحديد الذي تم تطويعه، ولا أصنام البلاستيك والخشب الملون، لا الكرنفالاتُ ولا مواكبُها التذكاريَّةُ، إنهم ما زالوا متعطشين إلى الكلمات المفلسة، والأوجه البلاغية، ما زالوا محتاجين إلى جمل، حيث الفكر يطفو في ملابسَ واسعةٍ، إلى الزهور في باقاتٍ أو في الأوانِي، إلى الرموز والطقوسِ والأنظمة، إلى كل أنواع الآلات التي تصنع البروق والدخان، إلى سيناريوهات لولاداتِ ولنهاياتِ العالم، متعطشون لمن يُقرض أرواحهم الحدود، ويضعها في صندوق، ويحبس نفسه معها في قبر، مديرا ظهره لأزرقِ السماءِ».
بين أزرق «هذا الأزرق» و»قصة «هذا الأزرق» يحيا الأزرق من شساعة تجلياته وإحالاته، لونا وحياة للامحدد في معناه، يختلج بتوتراته، وبأضداده، بتغيرات مزاجه، بنشواته وسكراته وامِّحَائه، حسب المكان الذي يحتله في درجات الكائنات، والألوان، والمعتقدات، فهناك «من لا يرى سوى هذه الطوابقِ السفلية بورقها الدُّهني ورسوماتها على الجدران، وهناك من يحلقون في الأزرق الصافي للسماء الذي لا تشوبه شائبة، ويلقون على المدن البشرية تلك النظرة البانورامية الجميلة، التي كانت تشتت انتباه الآلهة». محمل وممتلئ بإيقاعات الجسد وبشطحاته وسكراته ونشواته وأهازيجه ورقصه لون للسكرة التي يتحقق فيها الجمال، فهذا الأزرق يعتمد على كمية الضوء، الذي يتردد صداه في حبرها، يتغير مع الوقت والعمر واللغة، باهتا في البداية حد الامِّحَاءِ، عندما لا يزال مجرد طموح غامض، دخانٍ يصعد، ومع ذلك يضاعف وجوده ملتحما برغبات السماء والبحر، فاتحا في الصفحة فكرة غامضة عن الأفق.
 
شاعرة ومترجمة من المغرب
 
محمد بنيس: ديوان «هذا الأزرق» منشورات دار توبقال، 2015
جون ميشيل مولبوا: ديوان»قصة الأزرق» LE MERCURE DE France, 1992