عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Dec-2025

من كابول إلى سايجون مرورا بواشنطن*جمال الكشكي

 الغد

الدائرة نفسها، والفارق نصف قرن، والحافر يقع على حافره الآخر، في مشهد يعيد ذاكرة التاريخ إلى نقطة البدء، لكن بأسماء جديدة وأضواء مختلفة.
الساعة الثانية والربع تقريبا بعد الظهر في العاصمة الأميركية واشنطن، اهتزت المدينة تحت وميض رصاص مباغت، أطلقه رجل واحد على عنصرين من الحرس الوطني الأميركي قرب البيت الأبيض، في واحد من أكثر المواقع حساسية في البلاد.
 
 
كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد نشر قوات الحرس منذ أشهر في العاصمة، وعدد من المدن الكبرى، بدعوى مكافحة الجريمة، وتفاخر مرارا بأن معدلات العنف انخفضت خلال الأشهر الستة الأخيرة.
 لكن يوم الأربعاء السادس والعشرين من نوفمبر 2025 تم كسر هذا الزهو، وجعل ترامب يصل إلى ذروة الغضب، فالحادث وقع على بعد مبنيين فقط من البيت الأبيض، واستهدف القوات التي أمر هو بنشرها دفاعا عن المدينة.
المهاجم، كما أعلنت الشرطة الفيدرالية الأميركية، شاب أفغاني يدعى رحمن الله لاكانوال، يبلغ من العمر 29 عاما، دخل الولايات المتحدة عام 2021 ضمن برنامج إعادة التوطين، المعروف باسم "عملية الترحيب بالحلفاء"، وهو البرنامج الذي وفر ملاذا لآلاف من الأفغان الذين تعاونوا مع الولايات المتحدة قبل الانسحاب من أفغانستان.
 كان رحمن، حسب ما ذكرت مصادر في واشنطن، قد عمل بالفعل مع وكالات أمنية أميركية في قندهار كمترجم ميداني، قبل أن يحصل على موافقة للدخول إلى البلاد.
الهجوم أسفر عن إصابة الجندية سارة بيكستروم بجروح قاتلة، توفيت بعدها بساعات، بينما يرقد الجندي أندرو وولف في حالة حرجة، وقد وصفت وزارة الأمن الداخلي الأميركي الهجوم بأنه كمين متعمد، نفذ بمسدس، وأثار حالة من الذعر الرسمي والإعلامي في العاصمة.
رد ترامب جاء متوترا وصادما، فقد وصف المهاجم بالحيوان، واعتبر الحادث عملا إرهابيا، وتعهد بمراجعة كل طلبات الهجرة التي تخص الأفغان، خصوصا أولئك الذين دخلوا عبر عملية الترحيب بالحلفاء، ثم أعلن أنه سيفرض قيودا مشددة على الهجرة من دول العالم الثالث، مشيرا إلى أن حماية الحضارة الغربية، كما قال، تتطلب إجراءات حاسمة، وهو تصريح أثار انتقادات واسعة بسبب نبرة التمييز والتلميحات الفوقية المباشرة.
في الواقع، كانت إدارة ترامب قد فرضت في يونيو الماضي قيودا على دخول رعايا 19 دولة، بينها أربع دول عربية: "السودان، اليمن، الصومال، ليبيا"، لكن ما حدث قرب البيت الأبيض جعله يوسع الخطوة، ويدفع باتجاه وقف شبه كامل للهجرة من دول توصف بأنها مصدر تهديد محتمل، مما أشاع خوفا هائلا بين ملايين المقيمين بصفة شرعية في الولايات المتحدة، من الذين يخشون أن تتحول المراجعات الأمنية إلى قرارات ترحيل، قد تشمل حتى من خدموا الولايات المتحدة في حروبها المتتالية.
غير أن جوهر اللغز لا يكمن في قرارات الرئيس وحدها، إنما في طبيعة الشخص المهاجم، فهو لم يدخل خلسة، ولم يكن مجهول الهوية، فقد جاء عبر برنامج رسمي، روجت له واشنطن منذ 2021 على أنه التزام أخلاقي تجاه من وقفوا معها في أفغانستان، وهو وضع يعيد إلى الذاكرة فورا مشهد مدينة سايجون الفيتنامية في أبريل 1975، حين انهارت جنوب فيتنام، وهجمت قوات الشمال على العاصمة، بينما كانت واشنطن تغرق في دوامة فضيحة ووترجيت، وتتراجع تحت ضغط اتفاق باريس 1973 الذي قضى بوقف الحرب والانسحاب الأميركي من الجنوب.
في تلك الأيام، شهد العالم عملية الرياح المتكررة في فيتنام الجنوبية، وهي واحدة من أكبر عمليات الإجلاء الجوي في تاريخ الولايات المتحدة، ومع ذلك، فقد تركت القوات الأميركية وراءها آلاف المتعاونين الفيتناميين الذين واجهوا مصائر قاسية، وأصبح المشهد رمزا لانهيار الحلفاء تحت وطأة انسحاب أميركي متعجل، وهو المشهد نفسه الذي تكرر، مع اختلاف الملامح، في كابول عام 2021، حين اضطر الأميركيون إلى مغادرة أفغانستان بسرعة كبيرة، تاركين آلافا من غير القادرين على اللحاق بالطائرات.
رحمن الله لاكانوال واحد ممن تمكنوا من الوصول إلى الأراضي الأميركية تحت وعد الحماية، لكنه وجد نفسه بعد أربع سنوات، في العاصمة واشنطن، يمسك سلاحا ويطلق النار، في حادث ما تزال دوافعه مجهولة تماما، فمكتب التحقيقات الفيدرالي يواصل العمل لمعرفة ما إذا كان الدافع نفسيا أو شخصيا أو أيديولوجيا، لكن لا شيء مؤكدا بعد.
ومع ذلك، فإن الحادث وفر فرصة نادرة لليمين المتطرف الذي يحلم بنظرية الصدام بين الحضارة الغربية والعالم الثالث، وهو ما يجعل الخوف مضاعفا لدى شرائح واسعة من المهاجرين الشرعيين، فقد يصبحون فجأة تحت مقصلة الشك والمراجعة، وربما الترحيل القسري، رغم قانونية أوضاعهم.
ما بين قندهار الأفغانية وسايجون الفيتنامية يمتد جسر تمشي عليه الولايات المتحدة، في لحظة تبدو فيها منفردة أكثر من أي وقت مضى، تتخلص من الألوان، وتبحث عن أبيض وأسود في عالم متعدد الرماد، ومن يقرأ التعليقات الغاضبة في الصحافة الأميركية ووسائل التواصل يدرك أن هناك عاصفة تقترب، وأن السياسة قد تتجه إلى إعادة رسم قواعد اللعبة على رقعة الشطرنج الدولية، حيث تتحرك البيادق الآن في اتجاه غير مألوف.
ما يضاعف القلق هو البعد الغائب في قصة المهاجم الأفغاني، فترامب كان قد طالب طالبان منذ أشهر بالسماح للقوات الأميركية بالعودة إلى قاعدة بجرام، القريبة من الحدود الصينية بخمسين كيلومترا، وهو طلب رفضته الحركة تماما، ومع تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، قد يصبح كل حادث أمني شرارة لإعادة ترتيب ملفات كبرى من آسيا إلى الشرق الأوسط، وربما يصبح الشاب الأفغاني المتعاون مجرد إشارة صغيرة إلى زلزال أكبر، قد تكون ملامحه في طور التشكيل.