الغد-ديمة محبوبة
تجلس لارا متباهية وبابتسامة عريضة بينما يروي ابنها الصغير قصة قصيرة بالإنجليزية بطلاقة مدهشة، أمام قريباتها. وتقول لهن "أشعر أنني حققت إنجازا كبيرا عندما أسمع ابني يتحدث الإنجليزية وكأنها لغته الأم، فهذا يمنحه فرصا أفضل في المستقبل، سواء في التعليم أو العمل".
لا تخفي لارا أن اللغة العربية تأتي في مرتبة ثانوية في بيتها، وتعتبرها لغة المشاعر والبيت، بينما تعطى الإنجليزية كل ثقلها بوصفها لغة المستقبل.
في حين أن علياء قاسم تقنع ابنتها ذات الاثني عشر عاما بحل واجبات مادة اللغة العربية، فتصرخ الطفلة متذمرة "لماذا يجب أن أتعلم الإعراب؟ ماذا سأستفيد من معرفة أن هذه الكلمة مرفوعة أو منصوبة؟".
تواجه علياء هذا الموقف شبه اليومي بضحكة تعلوها المرارة. فتقول "أحيانا أشعر أنني أخوض معركة خاسرة، ابنتي تعشق الإنجليزية وتجدها أسهل وأكثر فائدة، لكنها لا تطيق دروس العربية، وكأنها لغة بلا مستقبل وصعبة، وحتى لا تستطيع أن تعبر عن فكرها وذاتها إلا بالإنجليزية".
هذا التباين في المواقف يعكس أزمة عميقة تعيشها كثير من الأسر العربية اليوم، بين الفخر بأطفال يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وهو بالتأكيد أمر مهم للغاية في هذا الزمن، لكن يقابله شعور بالخذلان حين يرون العربية، لغة الهوية والجذور، تتراجع إلى الهامش.
مرام، وهي حالة أخرى تعيش ما تعيشه علياء ولارا مع أبنائها، تقر بأنها لا تشعر بأي ضيق من تراجع استخدام العربية في بيتها، مؤكدة أنهم يعيشون في عصر السرعة والتكنولوجيا، وإذا كانت الإنجليزية تفتح أمام أولادها أبواب الجامعات والعمل، فلماذا تضغط عليهم ليحفظوا القواعد الثقيلة؟ فالمهم بالنسبة لها أن ينجحوا في حياتهم، كلماتها هذه تكشف نوعا من المصالحة مع واقع جديد، حيث تتحول العربية إلى لغة وجدانية، بينما تكتسب الإنجليزية مكانة عملية!
لكن الغضب يسيطر على زوجها خليل عندما يجد أحد أبنائه يتلعثم بقراءة القرآن الكريم، أو يكتب موضوعا باللغة العربية، أو حتى عند عدم فهم معنى الكلمة بالعربية وأن عليه أن يترجمها للغة الإنجليزية ليفهم ما هي أو يصف حالتها، "فاللغة الانجليزية لغة فقيرة بالنسبة للعربية ولا يوجد فيها مصطلحات توازي العربية"، وفق خليل.
ويؤكد أن هذه ليست مسألة لغة فقط، إنها مسألة هوية وانتماء، ويخشى أن يأتي يوم لا يعرف فيه أبناؤه من هم ويفقدون هويتهم والاعتزاز بها.
تتجلى الأزمة بوضوح أكبر عند جيل اليوم الذين يتفاخرون بأنهم لا يحتاجون إلى العربية سوى في حصص قليلة أو عند التحدث مع الجدة والجد. فكثيرون منهم يسخرون من دروس الإعراب والبلاغة، معتبرين إياها "مضيعة للوقت".
هذه المواقف المتباينة ليست مجرد اختيارات فردية، بل هي انعكاس مباشر لعلاقة اللغة بالسلطة والثقافة.
ترى الباحثة في تعليم العربية لغير الناطقين بها عبير خليفات، أن هيمنة اللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية واللغات الأخرى ليست مسألة طبيعية أو نتيجة لتفوق ذاتي في هذه اللغة، وإنما هي ثمرة مباشرة للسياسات الاستعمارية التي رسخت مكانة الإنجليزية على مدى قرون.
وتقول خليفات "سبب هيمنة اللغة الإنجليزية أساسه الاستعمار، فهو الذي رسخ لهذه اللغة مكانتها على حساب اللغات الأصلية في الدول التي استعمرها، وعلى خلاف المستعمرين الآخرين، مثل الفرنسيين، الذين سعوا لإبادة اللغات الأصلية وإلغائها تماما، فإن الإنجليزية تبنت سياسة مختلفة، إذ جعلت نفسها لغة النخبة المتعلمة، النخبة الغنية، والنخبة المؤثرة والحاكمة، وبهذا ظلت اللغات الأصلية حية، لكنها فقدت تدريجيا مكانتها وتأثيرها".
وتضيف خليفات "أن هذا يتوافق مع ما يثبته علم اللغويات الاجتماعي الحديث بأنه لا توجد أي لغة أفضل أو أرقى من الأخرى من حيث طبيعتها أو خصائصها الداخلية، فالتفوق اللغوي لا ينبع من اللغة نفسها، وإنما من مصادر القوة التي تملكها، وأن اللغة تكتسب قيمتها من علاقتها بالسلطة، لا من بنيتها أو قواعدها". وأيضا صناعة طبقة اجتماعية جديدة تملك أدوات التأثير وتفكر بعقلية غربية.
وتشير خليفات إلى الاقتباس الشهير الذي تركه توماس بابينغتون ماكولي العام 1835 في "مذكرة عن التعليم الهندي"، والذي يلخص هذه السياسة بوضوح، "علينا أن نبذل جهدنا لتشكيل طبقة من الأشخاص يعملون كمترجمين بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم، هنود في الدم واللون، لكن إنجليز في الذوق والآراء والأخلاق والفكر".
وتعلق خليفات على هذا النص بأن الأمر لم يكن عشوائيا، بل كان مشروعا مقصودا لبناء نخبة تفكر وتتصرف وفق النموذج الإنجليزي، وتترك للغات المحلية دورا ثانويا في الحياة اليومية، من دون أن تكون قادرة على منافسة الإنجليزية في ميادين المعرفة والسلطة.
لكن خلف هذه المعطيات السياسية والتاريخية، تظهر آثار نفسية وتربوية لا تقل أهمية، فتقول التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني "إن التعلق المفرط بالإنجليزية على حساب العربية يترك ندوبا في تكوين الهوية، فاللغة ليست أداة تواصل فقط، إنها وعاء للفكر والثقافة والانتماء".
وتوضح أن الطفل عندما يشعر أن لغة أهله أقل قيمة من لغة أجنبية، يتولد داخله نوع من الازدواجية والاغتراب، ويصبح متفوقا في حياته العملية، لكنه يشعر بالانفصال عن مجتمعه وجذوره.
وتشدد الكيلاني على أن الحل ليس برفض الإنجليزية أو محاربتها، بل بخلق توازن ذكي بين اللغتين، إذ يمكن للطفل أن يتقن الإنجليزية ويفتخر بها، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب احترام العربية وفهمها، فالمطلوب هو تربية لغوية مزدوجة تمنحه القوة في العالم المعاصر من دون أن تقطعه عن جذوره.
بين هذه الرؤى، تتضح صورة معقدة كأسر تجد في الإنجليزية مفخرة وضمانة للمستقبل، وأسر أخرى ترى فيها تهديدا لهوية أبنائها، فيما يقف الأطفال أنفسهم أحيانا حائرين بين حبهم للغة سهلة ونافعة وبين نفورهم من لغتهم الأم التي تبدو في نظرهم مثقلة بالقواعد والواجبات.
وأخيرا، يمكن أن تكون هناك حلول لذلك، حسب خليفات، وهي إعادة تعريف علاقة الفرد بالعربية، فبدلا من تقديمها كعبء مدرسي محصور في القواعد والإعراب، يمكن أن تعرف للأطفال كلغة حياة، لغة أدب وشعر وفكر، ولغة مشاعر وهوية. فحينها يدركون أن العربية ليست فقط مادة دراسية، بل جزء من وجودهم، وحتى ذلك الحين، سيبقى الصراع قائما بين بيت يفرح بابن يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وبيت آخر يتحسر على طفل لا يجيد التعبير عن نفسه بالعربية.