عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Nov-2025

من سرق ملامح الدراما الأردنية ومن يحرس الجذور*محمود خطاطبة

 الغد

في كُل مرة أُشاهد فيها عملًا دراميًا أُردنيًا قديمًا، أرى نفسي هُناك في الملامح، وفي اللهجة، وفي الوجوه التي تُشبه آباءنا وأمهاتنا وإخواننا، وأبناء بلدي الشهداء الذين ارتقوا على أسوار القدس.
 
 
أرى القُرى التي كبرنا فيها، والهمّ الذي حملناه، والكبرياء التي لم نُساوم عليها يومًا، ذلك المشهد الذي كان يومًا مرآةً لوجداننا، صار اليوم مصدرًا للبؤس، بعدما تحولت الدراما الأردنية إلى مرتع لكُل ما هو مائع وسريع الزوال، فاقد للهوية، غريب عن روح المكان والزمان، والأهم أنه غريب عن أبنائه.
وفي كُل مرة يقفز إلى ذهني سؤال عن تحول الفن الأردني من مرآة للهوية، إلى انعكاس باهت لوجوه الآخرين، وهذا السؤال يفرض نفسه كلما حاولت قراءة المشهد الثقافي والفني الأوسع في بلدي، ذلك المشهد الذي ظل لعقود مُحاصرًا بين تأثير الخارج وغموض السياسات الرسمية، وبين نماذج محلية رخوة افتقدت الثبات والملامح لا بل للهوية.
وبين هذا وذاك، ضاعت الأصوات الأصيلة، المُنبثقة من التاريخ والموروث الشعبي والواقع اليومي، وسط موجات من الاستنساخ والانصياع لنماذج لا تشبهنا، فغابت الهوية، وتصدّعت الأصالة وماعت اللغة.
الفن أيها السادة، خصوصًا الدراما مرآة المُجتمعات، وصوتها الأصدق في التعبير عن ذاتها، غير أن هذه المرآة في بلدي أصابها التشويش مُبكرًا، فتذبذبت بين تقليد مُستورد، وتجارب مُراهقة، لدرجة أن الصورة النمطية التي فُرضت على الفنان الأردني كانت شكلًا من أشكال الظلم الثقافي، إذ ساهم رأس المال، إلى جانب سياسات غير واضحة الرؤية، في تكريس هذا التشوه، ودفع الدراما الأردنية نحو الانسلاخ التدريجي عن حقيقتها، لتُصبح أبعد عن الجوهر المحلي، وأقرب إلى ما أراد البعض أن تكون عليه نسخة باهتة لا تُشبه روح المكان ولا نبض الناس.
أما السياسات الرسمية، فعلى الرغم من مساعيها التنظيمية، إذ لعبت دورًا مُزدوجًا، وضعت معايير شكلية للإبداع، لكنها في الوقت نفسه حدّت من حُرية الفنان، وخنقت الأصوات الأصيلة، بحجج إدارية وبيروقراطية، ومع مرور الوقت، اتسعت الفجوة بين الفن الحقيقي المُلتزم بالأصالة، والمُحتوى السريع الزوال الذي يطغى على الشاشات، بلا عمق ولا هوية.
ورغم كُل ذلك، يبقى المشهد الأردني حافلًا بأسماء لا تُنسى، منهم من رحل كمدًا بعدما ضاقت به السُبل، ومنهم من يمسك جمر اللظى رافضًا أن يبيع نفسه لمن اشترى، مؤمنًا أن الكلمة الحُرة لا تُشترى ولا تُساوم.
هؤلاء الفنانون من جيل الرواد إلى شباب اليوم يواصلون دفاعهم عن الأصالة بجهود فردية، يصنعون حضورهم رغم غياب الدعم، ويذكّروننا بأن الفن موقف ورسالة، لا مهنة فقط.
ولمن لا يعرف مكانة الفن التاريخية، أقول لقد أسهم الفنانون الأردنيون في بناء المشهد الفني في دمشق وبيروت، وأغنوا المسرح والموسيقا والدراما العربية بعطائهم ووعيهم الثقافي، لكن هذه المُساهمات لم تُقدر كما يجب محليًا، وتعرضت للتهميش والنسيان، فغاب الوعي العام بأثرها الكبير في تشكيل الذائقة العربية.
وفي المُقابل، جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتفرض واقعًا جديدًا، إذ أسهمت، على الرغم من مزاياها، في إنتاج مُحتوى سطحي، يُهيمن عليه مؤثرون بلا قاعدة فنية حقيقية، حوّلوا الفن إلى سلعة سريعة التداول، وأبعدوه عن رسالته الثقافية والأخلاقية.
الخلاصة واضحة: ما جرى للفن الأردني لم يكن صدفة، بل نتيجة تراكمات سياسات مُرتبكة، وتوجهات رخوة، وتهميش لحُرمة الهوية، ومع ذلك، فإن الهوية الحقيقية لا تموت ما دام هُناك من يُصرّ على صونها، لذا أقول دومًا في كُل المُناسبات والجلسات إن الحفاظ على الفن الأردني واجب وطني وأخلاقي، ومسؤولية تتشاركها الدولة والفنان والجمهور، فالفن ليس ظلًا للمُجتمع فحسب، بل مرآته الصادقة، التي تروي حكاياته، وتُثبت أن الهوية لا تُستعار بل تُصان بالإرادة والشجاعة والمُثابرة.