عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Mar-2023

صفحات مطوية من أوراق تيسير ظبيان

 

 
الدستور
اهتمامات الصحف الأردنية وموضوعاتها ومنها صحيفة الجزيرة
إنَّ القدر الأكبر من ثروتنا الأدبية إنّما نشأ في هذه الصحافة الأدبية، وعرف وجوده في صفحاتها، إنها هي التي أعانت على ظهور الأدب، وشجعت على نموه ووهبته القدرة على التأثير... بل لعلها هي التي كونته وأعطته بعض صوره وملامحه.
ولا مراء في أنَّ الصحيفة بيئة فكرية، وفي هذه البيئة يجد الفكر كل الذي يصححه وكل الذي يغنيه، وكل الذي يحدده، وفي هذه الصحيفة يستوي الفكر بنار النقد، إذ لولاها لما اطلعنا على آراء طه حسين في الأدب، واتجاهات الأمير شكيب أرسلان في الإصلاح والسياسة، ووجهات العقاد في النقد، وأثر المازني في تطوير الأسلوب.. وهي بالتالي تتيح لهذا الفكر فرصة الظهور، وتمكن له من فرص النمو، فالفكرة تظهر ثم تصطفى بعد ذلك.
كانت صحيفة «الجزيرة» بيئة فكرية متميزة، حيث تصارعت الاتجاهات والأفكار على صفحاتها، ونشرت لبعض الأقلام الواعية المتطرفة التي كانت تخالفها في الفكر والاتجاه، وأراد صاحبها أن يثبت النفوس اتجاهاً واضحاً من بينها، وهو الاتجاه القومي الإسلامي، وفي حديثه عن القومية كان ينطلق من عروبة الإسلام، ولا يستطيع باحث في مصادر الاتجاهات الأدبية للعصر الحديث أن ينسى أثر صحيفة الجزيرة في الحياة الفكرية والأدبية ودورها في توعية النشء وشباب الأمة. وهذا منشئ «الجزيرة» يوضح لنا مدى التزام صحيفته في مقال له بعنوان تبديل الشعار يدلُّ في غالب الأحوال على تبدل النفوس. وها هو يجري حديثا مع صديق له حول هجمات «الجزيرة» وحدتها في سبيل إصلاح الحياة السياسية والفكرية، حيث هاجمت هذه الصحيفة حملة المباخر وماسحي الأجواخ وعبدة الأشخاص... يقول صاحب الجزيرة: «أما لوني السياسي فهو ذلك اللون العربي الثابت الأثيل الذي لا يلوحه الزمان ولا تصوحه طوارئ الحدثان، ولا يغيره تقلب الحكومات والرؤساء، إنه اللون الذي تفصح عنه «الجزيرة» بأحلى بيان وأفصح لسان.. وليست لي صبغة حزبية - والحمد الله - سوى الصبغة الشعبية، فما أنا إلا فرد من أفراد هذا الشعب الواعي الذي لم يعد يعبأ بالجعجعة التي لا تسفر عن طحن، ولم تعد تغريه الأقوال المعسولة والوعود المبذولة والمناهج الفضفاضة التي لا تتمخض عن أعمال محسوسة ونتائج ملموسة تطمئن لها النفوس والخواطر.
وقفت «الجزيرة» موقفا جريئا من الأدباء المتطفلين أو أدعياء الأدب، حيث كتبت مقالة بعنوان: «أدباء» قالت فيه: يحاول بعض المتطفلين على موائد الأدب أن يجعلوا من هذه الصحيفة مطلية لتحقيق أغراضهم، وقد غرب عنهم أن للصحافة مثلا أعلى لا يجوز أن تحيد عنه أو تفرط فيه. وأغرب من هذا كله أن تصل إلى قلم تحرير هذه الجريدة كلمات نثرية وشعرية تفوح الغثاثة من تضاعيف.
ومن مطالعتي لتاريخ الوقائع المصرية، تمكنت من إجراء مقارنة بين هاتين الصحيفتين، فوجدت أن صحيفة الوقائع المصرية كانت تخاطب العامة بلسان الحكومة، وكذلك كانت صحيفة «الجزيرة» من حيث موضوعاتها واهتماماتها ومصداقيتها.
وقد كانت هذه الصحيفة جامعة لأدباء الأردن وشعرائه في عصر عزت فيه الجامعات واضمحلت معاهد العلم والدرس، وتمكنت من منافسة عشرات الصحف والمجلات التي صدرت في تلك الحقبة، وتطايرت من صفحاتها المعارف البسيطة، والآراء الجديدة، والأفكار المتحررة والتوجهات الثقافية الواعية والآثار الفنية والأدبية على أوسع نطاق. وانطلاقا من إيمان منشئ الجزيرة بدور اللغة العربية في نهضة الأمة، قدم مشروعاً لتيسير الكتابة العربية بمناسبة احتفال المجمع اللغوي المصري في الذكرى الخمسين لتأسيسه، وكان مؤمنا بأن فكر الأمة يقرأ من لغتها، ونلمح هذا من كتاباته المنشورة على صفحات الجزيرة، ومؤلفاته التي نشرتها دار الجزيرة، بل نلمحه من توجهات الجزيرة العامة وتشذيب المقالات التي تردها، حيث كان صاحبها حريصا أشد الحرص على أن يكون أسلوب الكتابة أسلوباً عربياً فصيحاً مُعبّراً يفيد اللغة وتسمو به معانيها، كما كانت هذه الصحيفة هي الوحيدة من الصحف الأردنية التي شاركت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني الذي عقدته جامعة الدول العربية في الإسكندرية في الفترة الواقعة بين 22 أب إلى 3 أيلول عام 1950م، وشاركت فيه سبع دول عربية هي الأردن، وسورية، ولبنان، والعراق، ومصر، والسعودية، واليمن.
 أدب الناشئة والأدب النسائي في صحيفة الجزيرة:
لقد كانت صحيفة الجزيرة سياسية أدبية حرة، أولت الأدب عناية خاصة، وكان أحد اهتماماتها البارزة، كما كان من اهتماماتها كذلك - نشر موضوعات طلاب المدارس الثانوية والكليات، وهو ما أطلق عليه «أدب الناشئة»، ومعظم هذه الأقلام أصبحت فيما بعد أقلاما أدبية لامعة، تمثل أدب الرواد في الأدب الأردني الحديث، وأصبح أصحابها من ذوي النفوذ وتلمح هذا الاهتمام من أول أعداد الجزيرة، حيث أعلنت مسابقة رسم أحسن خارطة جغرافية تسجل فيها رحلة إلى الممالك والأقطار العربية التي ورد ذكرها في بحث الجزيرة «جولة سريعة في جميع أجزاء الوطن العربي»، ووجهت هذه المسابقة لكل طالب وطالبة في المدارس الأردنية، ودعت أنصار الجزيرة من الكتاب والأدباء الشباب الذين أقبلوا عليها وأتحفوها بنفثات أقلامهم، وفيض قرائحهم كما تقول الجزيرة - إلى مراعاة حجم الصحيفة، وتوخي الإيجاز جهد المستطاع، وأن يراجعوا ما يكتبون، ويهذبوه قبل إرساله إلى قلم التحرير. كما أعلنت عن مباراة الندوة الأدبية بعمان، وهي مباراة تضمنت تقديم أحسن قصة قصيرة برأي اللجنة المحكمة من طلاب مدرسة السلط الصف الثالث والرابع الثانوي، وكان من شروط هذه المباراة أن تستهدف القصة الحث على الفضيلة ويقدم الطلاب قصصهم إلى مدير المدرسة الأستاذ حسني فريز، وهو بالاشتراك مع مدرس الأدب العربي الأستاذ مدحت جمعة يبعثون بها غفلا من الأسماء إلى سكرتير الندوة الأدبية، وتألفت اللجنة المحكمة من سليمان النابلسي وعبد القادر التنير ومحمود سيف الدين الإيراني.
يقول محرر صفحة الطلاب الأدبية: رغبة منا في تشجيع الطلاب وتمرينهم على الكتابة والإنشاء، خصصنا هذا الباب لنشر مقالاتهم وأبحاثهم، على أن يراعوا شروطا معينة منها الإيجاز ومراجعة المادة التي يكتبونها. وكانت صحيفة الجزيرة الأولى في الصحف الأردنية تنويها بمؤتمر الشباب العربي، وقد تلقت وزارة المعارف الأردنية بيان هذا المؤتمر وجدول أعماله التي كان من ضمنها تنظيم مؤتمرات سنوية في أحد البلدان العربية، وإقامة مباريات رياضية سنوية في كل بلد من هذه البلدان.. وكان من موضوعات المؤتمر الأول: تنظيم الخدمات الاجتماعية التي يقوم بها الشباب العربي في سبيل مكافحة الجهل والمرض، والعمل على تقوية القومية العربية، ودعم اللغة العربية وتبادل المطبوعات بين البلاد العربية، وتشجيع المؤلفات التي تتناول الشخصيات العربية البارزة في الشرق من نواحيها المختلفة، والسعي في تكوين اعتماد مالي لمن يقومون بدراسات تتعلق بالأغراض التي يسعى لتحقيقها، وعمل مؤتمر للمشتغلين بالتدريس في البلاد المختلفة لبحث المسائل المتصلة بالتعليم.
استمرت «الجزيرة» في نشر أخبار الناشئة الأدبية فها هي تنشر عن كتاب «ذكريات» لشكري شعشاعة، وكتاب «الإذاعة للجميع» لعصام حماد.. وعن تأسيس نادي السلط الثقافي الرياضي وهو أول نادٍ من نوعه يؤسس في عاصمة الإمارة الثانية - كما نشرت عن تولي أول شاعر منصب مديرية المعارف الأردنية وهو محمد الشريقي، وأشادت بطلبة شرقي الأردن الجامعيين حيث قالت: إنهم يمتازون عن غيرهم بمرونة أخلاقهم واتصالهم بالشخصيات الكبيرة في الأقطار الشقيقة، وتدخلهم الحماسي في القضايا الوطنية.. ومن الأخبار الأدبية الطريفة التي نشرتها الجزيرة اقتراح بعض الشباب على المحامي محمود المطلق نظم مواد المجلة شعراً على غرار قصيدته «قبلة المحامي» التي نشرها في العدد الأول من مجلة (الرائد) ليسهل على طلاب الحقوق حفظها، وأن يمزج مرافعاته في المحاكم بالشعر الغزلي الرقيق ليسري عن القضاة بعض ما يلاقونه من عناء في هذا الجو القائظ، واستغربت هذه الصحيفة نشر قصيدة جديدة لشاعر بعد أن أقسم أغلظ الأيمان بأنه انقطع عن الشعر والأدب، وانتقدت موقف أحد الأساتذة الذين أنهوا دراستهم في الجامعة المصرية لقوله بأنه لا يوجد في شرقي الأردن سوى شاعر واحد هو مصطفى وهبي التل، كما أشارت إلى تأليف جريس القسوس كتابين قيمين باللغة العربية، يبحث الأول عن شكسبير، ويصور الآخر العصر الجاهلي في أروع صورة يتخيلها الأديب، لكن ظروف الحرب حالت دون طبعهما.
لقد اتبعت هذه الصحيفة عدة طرق حتى تجعل الناشئة يقبلون على الشعر والأدب منها: إجراء مسابقات شعرية لمعرفة هذا الشاعر أو ذاك..، ونشر أخبار الأندية الرياضية والثقافية، حيث تناولت أخبار نادي الملك حسين، والنادي الفيصلي، والنادي الأهلي، ونادي الجزيرة، ونادي التعاون الثقافي، ونادي السلام. ومن الملاحظ أن هذه الأندية لم تقتصر على الأنشطة الرياضية، وإقامة الحفلات الغنائية بل كانت تهتم - كذلك - بالثقافة والأدب والفنون.
ومنذ العدد 1968 حتى توقف هذه الصحيفة، وهي تنشر صفحة أسبوعية خاصة للطلاب والطالبات تبدؤوها بحكمة الأسبوع، وبنشر مجموعة أقوال مختارة، وآخر الأبحاث والدراسات في قطاع التربية والتعليم، فنراها – مثلا - تتابع أبحاث مؤتمر تعليم الراشدين والعمال، وأخبار الطلاب في الجامعات المصرية، وشروط تأجيل خدمة العلم في سورية.
اهتمت «الجزيرة» بالأقلام الشابة وفتحت لهم صدرها، وتجلى هذا في افتتاحها زاوية جديدة تحت عنوان منبر القراء، فهذا ملحم وهبي التل يكتب مقالة بعنوان «افتحوا لنا الطريق» وقد وجهها إلى النائب عبد القادر الصالح، حيث كان معجبا بما ينشره الأستاذ الصالح من مقالات أدبية رفيعة في صحف البلاد ومجلاتها، إضافة إلى روحه الديمقراطية النبيلة التي يتحلى بها، متجلية في سلوكه وكتاباته، ودعا في هذه المقالة إلى إصلاح أوضاع البلاد الفاسدة..
وهذا شاب آخر يكتب مقالة بعنوان «أسباب التقدم والحضارة» يرى فيها أن من أسباب ردة الأمة وتقهقرها عدم اهتمامنا بالزراعة والصناعة والخنوع للمستعمر الأجنبي، ويعرض لأثر الإسلام والرسالة السماوية في خروج العرب من عزلتهم، حيث كان الإسلام من أسباب تقدمهم، وكتب تيسير طوقان مقالة تاريخية بعنوان «دولة المناذرة في الحيرة». ومن الحصن كتب الطالب نايف أبو عبيد أقصوصة بعنوان «من كوة الكوخ»، وهي أقصوصة اجتماعية وعظيه غلبت عليها المباشرة تروي قصة عامل كادح يطلب مساعدة أحد التجار الأثرياء، ولا ينال منه إلا الأعذار الواهية والسباب والشتائم، ويظهر نايف أبو عبيد في هذه الأقصوصة - بأسلوب مباشر - قيمة العامل مبينا أن حضارة البشر وسعادة الإنسانية لم تقم إلا على أكتاف العمال الكادحين، وكيف يغرق الأثرياء في لهوهم وفحشهم - كصورة مقابلة وفي ختام هذه الأقصوصة دعا هذا التاجر الثري إلى محاربة شح الفقر المستولي على جسم العامل الفقير أو اللاجئ المسكين الذي حرمه استعمارك واستعمار الأجنبي لذة الحياة وسعادة العيش ومحاربة مردة المرض، وما تفعله في العمال الأشقياء.. عندها ستجد الحياة لذيذة والعيش سعيداً..
ودأبت الجزيرة على نشر بعض محاولات الطلاب الشعرية، كما دأبت على نشر مختارات من الشعر الوطني والاجتماعي الهادف، فقد نشرت قصيدة وطنية للطالب الحقوقي محمد كامل من جامعة فؤاد الأول بعنوان «لن يفل الحديد غير الحديد»، وقصيدة للطالب سالم سليمان حداد من ثانوية إربد بعنوان «مصر عرين الأسود»، كما نشرت أبياتا شعرية نظمها طالب ناشئ هو شجاع الدين الأسد يُحيي فيها أمير البلاد.
لم تقتصر هذه الصحيفة على أدب الشباب - بل نراها تتوجه نحو المرأة، وتهتم بالأدب النسائي، ولكني أراه اهتماما غير واضح المعالم، ذلك، ومن هنا كتبت المرأة الأردنية - في تلك الفترة بأسماء رمزية، وتأخرت مشاركة المرأة الأدبية إزاء هذا الوضع الاجتماعي المتأخر، حيث تأثر التعليم، وتأخر إرسال المرأة إلى دور العلم، إضافة إلى نظرة الرجل الشرقي المسيطر إليها.
بعد توقف الجزيرة عام 1941، بدأت تركز على الأدب النسائي، وتوليه عناية خاصة.. حيث نقرأ قصيدة للسيدة مسرة الجزائري تهنئ فيها صاحبة الجلالة الملكة المعظمة بالعيد، وقصيدة أخرى في مدحها، ونقرأ قصيدة للسيدة فاطمة رضا في رثاء شقيقها، كما نقرأ جملة من الخواطر النثرية لشهرة المصري، ونمرة طنوس، ونجلاء حداد، ومع نشر صحيفة الجزيرة لهذه الأقلام النسائية الشابة كانت تنشر أخبار النشاطات المختلفة لها، فقد نشرت عن السوق الخيرية الجمعية التضامن النسائي الاجتماعي وجملة من النصائح والإرشادات الموجهة للحامل، وغرائب العادات في طلاق المرأة. كما وجهت فتاة جلعاد رسالة توجيهية إلى جمعية الاتحاد النسائي، ونشرت الجزيرة كلمة الآنسة أملي بشارات أمينة سر الاتحاد النسائي الأردني في حفلة افتتاح الاتحاد أمام والدة سمو الأمير طلال، وقد قابل مُنشئ الجزيرة الأمير عبدالله في السادس من شباط عام 1945 وسأله عن حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام، وأجابه: «إن المرأة المسلمة ليست بممنوعة دينيا عن القيام بأمرها في بيتها أو خارج البيت، ولكن المرأة المسلمة ممنوعة عن الاختلاط بغير المحرم عليها، والاختلاط معناه المقابلة والمؤاكلة والمشاربة، كما يقع بين الزوج والزوجة والأب والبنت والجد والعم والخال والإخوة، فكل أجنبي عدا هؤلاء ليس للمرأة المسلمة أن تتبرج أمامهم أو أن تخالطهم، وللمرأة المسلمة أن تخرج فتقضي حاجاتها وعليها خمارها أو ما يقارب الخمار، ولا يرضى الدين أبدا بالتبرج والخلاعة والنزول إلى الساحل للسباحة مع الرجال.. وابتداء من العدد 1740 الصادر بتاريخ 16 كانون الأول 1951، استحدثت «الجزيرة» زاوية خاصة لحواء وأخبارها ونشاطاتها واهتماماتها.
 الترجمة
كانت البعثات تعود إلى الوطن العربي مزودة بما أفادت من ثقافة أوروبية جديدة وبما اطلعت عليه من ألوان الفنون والآداب، فتفرغت لترجمة منتخبات من تلك الثقافة الجديدة والآثار العلمية والفنية وأتاحت للجيل العربي الناشئ أن يفتح عليها عينيه، ويملأ منها عقله ووعيه.. وأثر المعاهد الأجنبية والمدارس التبشيرية واضح جلي في الترجمة وتطويع اللغة العربية للتعبير عن المعاني والأغراض التي تحتويها الكتب المراد ترجمتها.
من أوائل الذين مارسوا الترجمة من أدباء فلسطين والأردن خليل بيدس، إذ كان يتقن اللغة الروسية، فترجم منها كثيرا من الروايات والقصص. أما الترجمة من اللغة الفرنسية فأشهر الذين زاولوها وأكثرهم نشاطا ونتاجا هو محمد عادل زعيتر. وترجم عن اللغة الإيطالية أمين أبو الشعر، وترجم عن اللغة الإنجليزية: أحمد سامح الخالدي وزوجته عنبرة، وعجاج نويهض، وعبد الرحمن بشناق.
وقد قامت صحيفة الجزيرة بدور فاعل في مجال الترجمة مقارنة بالصحف الأخرى في تلك الفترة، وكان يعقوب هاشم من أوائل الذين ترجموا لصحيفة «الجزيرة» حيث كان يشتغل بالآداب الغربية ولا سيما الفرنسي، فكتب عن (برنتير) صاحب نظرية الأجناس في الأدب، وعن (لوميتر) صاحب الانطباعية في النقد، وعن (موليير) بطل الانقلاب المسرحي والأدبي وعن (هنري بوانكاري).
كما نهضت في «الجزيرة» حركة نشطة لترجمة القصة القصيرة والطويلة، فقد ترجمت عائدة إبراهيم أسعد قصة «خير من السماء» في سبع حلقات، وترجم محمد سعيد الجنيدي قصة «ذات ليلة» عن الإيطالية في ست حلقات، وترجم عقلة راجي دبية قصة «عازف الكمان» في خمس. وفي مجال القصة القصيرة ترجمت ست عشرة قصة متنوعة، ومن أهم الصعوبات التي تواجه الباحث في هذه الترجمات عدم معرفة أصحابها نتيجة لعدم توقيعهم بأسمائهم الصريحة حينا، وعدم ذكر الاسم مطلقا في أحايين أخرى!..
ولقد تجمع على صفحات الجزيرة رواد الأدب الأردني الحديث، ونثروا نتاجهم والشعري الذي لم يجمع معظمه حتى الآن، وتجد من نفائس هذا الأدب ما لم يحفل به أصحابه أنفسهم ولم ينشروه في كتاب مطبوع وأسهمت هذه الآداب المنثورة في بعث النهضة الأدبية الحديثة، وذلك بفضل هؤلاء الرواد، ومن هنا يمكن أن نتلمس تأثير آثار هذا النتاج الأدبي الرفيع في عصرنا الراهن. وعلى هذا فنحن أمام صحيفة غنية ثرية تنوعت اهتماماتها وكثرت موضوعاتها، ومن العسير على الباحث تتبع هذه الاهتمامات والموضوعات بصورة جامعة ماتعة، ولكن حسبي أني قرعت أبواب هذه الصحيفة، وسلطت الضوء على اتجاهها الفكري وبعض القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية الهامة التي عالجتها.. أزعم هذا وقد تتبعت موضوعاتها صفحة صفحة، وربما سطراً سطراً، ناهيك عن محاولاتي الدؤوبة في البحث والاستقصاء بين هذه السطور أحيانا!.
لقد كان لصحيفة الجزيرة اهتمامات إسلامية وتوجهات فكرية ملتزمة، وغصت هذه الصحيفة بالمقالات والأبحاث الإسلامية والفكرية، وأرى أنها بحاجة لدراسة الاتجاه الإسلامي من خلالها دراسة منفصلة مفصلة؛ فقد عرضت شؤون العالم الإسلامي ومشاكله، ولم تغفل في معظم أعدادها عن زاوية «أخبار العالم الإسلامي»، فقد تحدثت عن اللغة العربية في جامعة طوكيو، والتمثيل السياسي بين مصر والأفغان وعن إنشاء كلية إسلامية في نيجيريا، وإنشاء محطة للإذاعة العربية في المكلا، وذكرت أخبارا متفرقة حول ميثاق أسعد آباد وتطبيق الحصار الأجنبي البحري على الشواطئ اللبنانية، وقد نبه منشئ الجزيرة إلى الخطر المحدق من أزمة لبنان حيث قال: «إنّ العالم الإسلامي والعربي سيجابه إن عاجلا أو أجلا معضلة مستعصية قد تكون أبعد مدى وأشد خطراً من مأساة فلسطين»، وذلك في مقالة له بعنوان «فتنة لبنان.. لعنة الله على من أيقظها»، كما تحدث عن تجهيزات الجيش المصري.. وكيف انتشر الإسلام بإندونيسيا، وعن المسلمين في الداغستان وماذا تعرف عن تركستان الشرقية المسلمة، وكيف فر (4000) مسلم من «سينيكيانج» إلى مكة المكرمة، وألبانيا المسلمة في نير الاستعمار الروسي، وكشمير البلد المسلم، وكانت الجزيرة تعنى عناية خاصة بالمناسبات الدينية، حيث نراها تعلن عن الحج في موسمه وكيف رافق مندوبها حجاج بيت الله الحرام، وعن افتتاح طريق جديدة بين المدينة المنورة وعرفات، وسلسلة أحاديث رمضانية..، كما كانت تنشر بين الفينة والأخرى أحدث الفتاوى الإسلامية.. ومضت في الحث على نشر الوعي بين أبناء المسلمين ودور العلماء في تنشئة الجيل، وأهمية الشباب المسلم في نهضة الأمة. وقد احتجت غير مرة على وزارة المعارف ودورها في مواجهة الهيئات التبشيرية والحركات الهدامة..
وبعد هذه الإشارات العجلة عن اتجاه الجزيرة الإسلامي، واهتمامها بأخبار العالم الإسلامي، سأعرض توجه الجزيرة القومي ضمن مفهوم الإسلام، حيث لم تقتصر على نشر المادة الأدبية بل نراها تهتم بأخبار فلسطين وسورية وشتى الأقطار العربية.
 توجه الجزيرة القومي
حفلت الصحافة الأردنية بقضية فلسطين، ورصدت الثورة الفلسطينية في الثلاثينيات والأربعينيات، وكانت صحيفة «الجزيرة» تنقل تلك الأخبار في كل عدد من أعدادها، وخصصت معظم صفحاتها منذ العدد 1150 الصادر في تشرين الأول 1946م، حتى العدد 1475 الصادر بتاريخ آب 1949م لنقل وقائع الأحداث في فلسطين، إضافة إلى المقالات والتعليقات التي كانت تهيب بالعرب للوقوف في وجه الصهاينة... وأنباء المظاهرات في شرقي الأردن احتجاجا على قرار التقسيم. وعندما ساعدت أكثر دول جمعية الأمم المتحدة اليهود، هب شباب العرب من مختلف الأقطار لتمزيق هذا القرار، وكان في مقدمة هؤلاء الشباب الأردني، ونلمح هذا التحرك العملي عند أبناء البادية الأردنية، مما اضطر السلطات البريطانية أن تسترسل في تأييد اليهود، فقررت إقفال جميع الجسور الواقعة على حدود فلسطين وشرقي الأردن باستثناء جسر (اللنبي) لمنع تسرب قوات المجاهدين إلى فلسطين. وقد تبع ذلك كله خروج جموع الشباب في عمان في 25 نيسان 1948م، وهي تلتهب حماسا لنصرة فلسطين ناشدة التطوع لإنقاذها، وقد أضربت العاصمة إضرابا عاما مشاركة لأهالي فلسطين، كما استنفرت أخبار فلسطين شعور العشائر الأردنية واستثارت حميتهم، فتقاطر زعماء القبائل إلى مقر مثقال الفايز، وتداولوا في الحالة الأليمة التي يعانيها إخوانهم في فلسطين، وقرروا تأليف مفرزة للتطوع في صفوف المجاهدين العرب بفلسطين، ووضعت هذه المفرزة تحت تصرف القاوقجي.
لم يقتصر دور الأردن على الجهات الرسمية، فهاهم طلاب إربد يشاركون إخوانهم الفلسطينيين في نكبتهم، ويضعون أنفسهم تحت تصرف الجيش العربي، وقامت حملة تبرعات مادية وعينية لأبناء فلسطين..، كما وجه أبطال الأردن من المتطوعين الذين يرابطون في منطقة باب الواد ضربة قاصمة للصهاينة، إذ عطلوا طريق اليهود بين تل أبيب والقدس تعطيلا تاماً.. وقد قام مراسل صحيفة الجزيرة بزيارة كتائب المتطوعين الأردنية في جبال دير أيوب، وعلم أنَّ هناك كتائب من المتطوعين تعمل في غزة وهي تسدد الضربات للقوافل اليهودية وتمنع مرورها.
وتفجع النكبة أبناء الأمة العربية والإسلامية وتتكاثر الأسر الفلسطينية التي التجأت إلى شرقي الأردن، حيث تألفت في عمان لجنة لإيواء هذه الأسر، وتأمين معيشتها وإيجاد مساكن لها في مختلف أنحاء البلاد الأردنية، وقد انتدبت هذه اللجنة وفدا خاصا للطواف في المدن والقرى الأردنية، وتوزيع الأسر المشردة.. وعندها تقدم الكثيرون من أهل العاصمة يعرضون البيوت والمنازل والأطعمة وسلمت مفاتيح البيوت الكثيرة مجاناً للسكن فيها حتى أصبحت مدينة عمان وغيرها من مدن وقرى الأردن ملاذاً لهذه الأسر، وأصبح الجميع يشعرون من صميم قلوبهم بالعطف وقوة الترابط بين ضفتي الأردن، بل إن الكثيرين من الفلسطينيين وجدوا مجالا واسعا للعمل وكسب الرزق. وصدر أمر من رئاسة الوزراء يقضي بإعطاء جوازات السفر الأردنية لكل من يثبت أنه فلسطيني عربي، وكانت صحيفة الجزيرة تنشر إعلانات وكالة هيئة الأمم المتحدة وتشغيل اللاجئين، وكيفية توزيع المؤن. وقد زار (المستر لوك) إدارة صحيفة الجزيرة لاستطلاع حالة المخيمات واللاجئين، وتباحث مع صاحب الجزيرة والصحفيين حول قضية فلسطين، ونشرت صحيفة «دافار» لسان حال اليهود المتطرفين مقالة رئيسة عن جهود الملك عبدالله في إنقاذ فلسطين، وقالت إنه الرجل الوحيد الذي يخشاه اليهود ويخشون غضبه، ثم ذكرت هذه الصحيفة أن الضباط الإنجليز في الجيش العربي من أكبر كبيرهم إلى.. أصغر صغيرهم قد انسحبوا من الجيش مؤقتا..
كان صاحب الجزيرة ذا نظر ثاقب بالنسبة لقضية فلسطين، وكانت صحيفته قد نشرت في عددها رقم (1200) الصادر بتاريخ 22 تشرين الأول 1947م قبل إعلان تقسيم فلسطين ببضعة أيام، عشر نتائج لهذا المشروع، وقد تحققت خمس من تلك النتائج أولها اغتباط اليهود في جميع أرجاء الأرض وإقامتهم معالم الابتهاج، وإصرار الإنجليز على الانسحاب في وقت يحددونه، ومسارعة اليهود إلى تأليف حكومتهم قبل جلاء الإنجليز، وارتباط هيئة الأمم وحيرتها في أمرها إذ وجدت نفسها عاجزة عن إرسال قوات تحل محل القوات البريطانية، وتقوم الاضطرابات في فلسطين، وتبادر الجيوش العربية إلى إنقاذ عرب فلسطين من بطش اليهود، وينهال اليهود على فلسطين من كل حدب وصوب فيلقون مقاومة عنيفة.. ودعت الجزيرة إلى تحقيق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: «تقاطعكم اليهود فتسلطون عليهم»، كما دعت إلى توحيد صفوف الأمة العربية والإسلامية..
خصصت هذه الصحيفة زاوية خاصة - شبه يومية - عن الوضع في سورية، وأنباء المقاومة السورية للمستعمرين الفرنسيين، فها هي تنشر عن تطورات الموقف السياسي بشأن سورية، ومباحثات المجلس الاستشاري، ومشروع الرئيس (ترومان)، وتهديد فرنسا إذا رفضت الجلاء عن سورية ولبنان بقطع علاقات الدول العربية معها، ووقف الإذاعات باللغة الفرنسية في مدارس البلاد العربية ونشرت مذكرة سياسية هامة عن سوريا الكبرى بقلم حسن الحكيم رئيس مجلس وزراء سورية الأسبق دعا فيها إلى وحدة بلاد الشام الكبرى. وذكر جملة من الحقائق التاريخية والجغرافية والدينية التي تؤيد صحة ما ذهب إليه. ومنذ العدد (1480) الصادر بتاريخ 14 آب 1949م حتى العدد (1500) الصادر بتاريخ 14 أيلول 1949م، مضت الجزيرة في نشر أخبار سورية السياسية والاجتماعية، وفصلت أنباء الانقلابات المتتالية..
اهتمت هذه الصحيفة - كذلك - بأحداث العراق والجزائر والمغرب، ونلمح هذا من اهتمامات الجزيرة بأخبار هذا الجزء من الوطن العربي، ومشاركة منشئ الجزيرة في كتابة المقالات الوطنية، فها هو يكتب عن وجه فرنسا الحقيقي الذي كشفت عنه مأساة دمشق وحوادث الشام، حيث يقول في إحدى مقالاته: لقد أجمع الناس كلهم على استهجان عمل فرنسا في بلاد الشام واستنكار فظائعها وشجب ما قام به رجالها وقوادها وجنودها من أعمال منكرة وجرائم مجترمة ومظالم أئمة وما خلفوه في تلك الديار من آثار تنطق بخبث ضمائرهم وفساد طواياهم وسوء، مقاصدهم وتنم عن طيش وحماقة ورعونة ما عرف التاريخ لها نظيرا.. إلى أن يقول: ولولا الدماء التي أهرقوها، والأرواح التي أزهقوها، والقصور التي أحرقوها، والأموال التي سلبوها لما قامت لنا قائمة، ولما ألقينا على العالم العربي بأسره دروسا عالية في البطولة والتضحية والاستبسال..
وهذا مواطن أردني من عمان لقب نفسه بـ (المسكين) يخاطب فرنسا في مقالة له بعنوان: «فرنسا المغرورة»: يا فرنسا الغاشمة إنَّ العرب اليوم خلاف الأمس، وقد أصبحوا لا يطيقون الذل والاستعباد يا فرنسا المغرورة: إنَّ العرب تضامنوا وتعاضدوا، بينما كنت أنت تعيشين في الذل والهوان، فلأنت اليوم حيال العرب خلاف الأمس يا فرنسا المجنونة: إن حق العرب أصبح أوضح من شمس النهار، فارجعي على أعقابك مخذولة باسم الحق، وباسم القوة إن طغيت..».
وهذا مواطن أردني من إربد لم يفصح عن اسمه واكتفى بتوقيعه «عربي» يكتب مقالة بعنوان «العروبة في سورية تتن وتتوجع».. يقول: فلسطين وشرقي الأردن ولبنان جميعها بما فيها من مدن وقرى تئن وتتوجع من حالتها المريرة كلها تبكي منتحبة بفقدان «سورية» الحنون الأم الرؤوم.. ثم يقول: ليفهم كل فرد في العالم أن كل فرد في سوريا يحمل مبدأ التكتل السوري كخطوة أولى نحو الحياة ساعيا في سبيله حتى النهاية ومضحيا لأجله الروح والمال، ثم ليفهم كل خائن يسعى ضد هذا المبدأ بأنه عدونا اللدود الذي سنقاومه بالدم والحديد...
وهكذا كانت «الجزيرة قومية في اتجاهها إسلامية في فكرها.. تمكن صاحبها من الوقوف بين العروبيين والإسلاميين، وقد فهم العروبة من خلال الإسلام، ورأى أنه لا تناقض بينهما.