الدستور
التنوير فعل دائم (مضارع بالمطلق)، لضمان «أناقة» الحاضر، وعدم تغربنا عنه، بفاعلية قوتين: الذاكرة والمخيلة. جيلنا الذي اخترق الزمن بسرعة فائقة، وانتقل من العصور الوسطى إلى عصر الكونكورد والهواتف الذكية، يقف الآن أمام القفزة الجديدة نحو عصر «استقلال الآلة» وتشغيلها الذاتي، بمخيلة عاجزة عن تصور ما ستصبح عليه الحياة. تجربتنا القريبة كانت معاينة وتدريب، لنستوعب ما تم انجازه دون أن نساهم به. والآن علينا أن نتخيل ما ستصبح عليه حياتنا. فنسعى لتعويض العجز عن تخيل المستقبل وممكناته، إلى استحضار الماضي، والهروب إليه عله يسعف عجزنا عن بناء المستقبل، واختراع الحاضر الذي نسخناه (ولم ننتجه)، وبالكاد نستوعبه. الماضي الذي غادرناه بفخر، وبقصص عن النجاح باستيعاب «الصعب» من تحدياته للوصول للحاضر، عاد ليصبح هو الملاذ، من عجزنا عن إعادة اخترع حاضرنا للوصول لمستقبلنا الذي «نخشاه ونتوق» إليه.
تعويض العجز عن استيعاب نقلات الحاضر وحركته نحوالمستقبل، باستحضار الماضي، ليست نقيصة بحد ذاتها، إذا ما تم فهمها واستيعابها. فأجمل العقول هو ما أدرك محدوديته ومشكلاته وسيطر عليها. ولكن الاستسلام العاجز للحنين نحو ماضي لن يعود، هو استقالة من الحاضر والمستقبل. إذ أن جوهر التنوير، قائم على ركنين: الأول إدراك وجود فجوة بين الماضي والحاضر والمستقبل. والثاني، توظيف الماضي (وإعادة انتاجه)، لإعادة تركيب الحاضر (واختراعه)، وضمان أناقته، وليس للهروب منه. فالمستقبل طيف واسع من الممكنات، بالتنوير (المضارع)، نضمن أن لا نكون مغربين عنه حينما يأتي.
نجيب محفوظ يصف الحاضر بأنه «شمعة ترتجف بين ظلمتين: ظلمة الماضي وظلمة المستقبل». وهذا يتضمن أنه يتم تصنيعه وتطويره بشكل مستمر بفاعليتين: ذاكرة الماضي، ومخيلة المستقبل. فالحاضر الذي نعاينه بحواسنا، يرتجف تحت وطأة العطش والخوف. عطش الراهن الذي يستدعي بالحنين (ماضي: يتم إعادة تشكيله بالرغبة المقهورة)، والخوف من مستقبل ندرك غريزياً بأنه سيطيح بأوهام ديمومة آمان الحاضر. لن نرتوي من جرار الماضي، ولن نلوذ به، لإدامة حاضر يغاردنا، كما تتسلل خيوط الضوء من بين أصابعنا. لن نشرب قهوة الأمهات، ولن نأكل خبزهن، وإن استسلمنا لحنين «محود درويش»، سنفقد كلاً من الحاضر والمستقبل ونلحقهما بالماضي الذي لن يعود. وسوف نذهب إلى قبورنا محملين بالخيبة والهزيمة التي ستجدد بكاء أمهاتنا في قبورهن.
السعي لتأثيث المستقبل بالماضي والحاضر، لنبقيه لنا، وحتى لا نتغرب عنه، محاولة ناقصة، إن لم تعزز الذاكرة والذائقة بخيال جامح، يحول «الأناقة» لفاعلية تعيد إختراع الحاضر، لترتقي بإنسانيتنا وتحفظها، عبر ربط المتطلبات الموضوعية والعملية، بالحاجات الجمالية للعيش دون اغتراب. وحدها القيم الجمالية التي تعيد بناء صلتنا بالواقع بشكل إنساني، وتنهي غربتنا عنه. فلا يكفي إعادة تركيب الماضي بذاكرة محكومة بعطش الحاضر، بل لا بد من التحرر من الخوف، واستبداله بالنزوع نحو الجمال الذي يعيد تركيب نقصنا وعجزنا. هذا النزوع الذي يستطيع أن يشكل من طين الواقع بنية جميلة تليق بقيمنا وروحنا العطشى. فالعطش لن يروى إلا من مياه النهر التي ما تزال في منابعها ولم تصلنا بعد.
فكما أن الذاكرة المشحونة بالحاجة الجمالية تعيد تركيب الماضي، وتضيئه بفاعلية «حزن الفقد»، لترميمه وتخليصه من نواقصه (وتنظيفه من طينه)، فإن الشجاعة، هي مصدر النور الذي يضيئ ظلمة المستقبل، ويمكننا من صياغة ضروراته بشكل أنيق، يعبر عن قيمنا الجمالية، ويبقيه لنا. فحتى يكون المستقبل على مقاسنا، لا بد من (إعادة اختراع الحاضر)، بالشجاعة على الفعل. فالتجربة الجمالية العظيمة، التي تنهي غربتنا عن حياتنا، ليست بتذوق الجمال، وإنما بانتاجه.