عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-Jul-2025

أميركا الفاشية..! (3-3)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

من السيئ بما يكفي أن يكون أكبر مسرح دموي تُعرض فيه الفاشية الأميركية هو منطقتنا العربية كاملة، حيث تعمل ممثلة -فيزيائيًا وسلوكيًا- بالكيان الصهيوني كامتداد حيوي. وسوف يملأ أي مواطن في المنطقة مجلدات عن الطريقة القاتلة التي يقبض بها هذا التحالف الهجين المتطفل والوحشي على عنق الإقليم، ويقيد حريات شعوبه ويمنع تحقق إمكاناته. وهنا، بالتحديد في قلب الشرق الأوسط، تقف أميركا والكيان وحدهما في وجه بقية العالم في شأن لا يقل عن ممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي علنًا وعلى الشاشات في غزة.
 
 
كما هو معروف، يتدبر الكيان الاستعماري الصهيوني أمر بقائه في الشرق الأوسط –والعالم- بارتباطه العضوي بأجهزة الدعم الحيوي الأميركية. وهو ليس مجرد «حليف» أو «صديق»، كما تصف أميركا أتباعها في المنطقة والعالم، وإنما شريك، في الروح والمنهج والفلسفة. بعد كل شيء، مثل أميركا صنع الكيان وجوده الشرير في العالم بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وهو يشترك معها في سياسات الفصل العنصري، والسجون المفتوحة، ونظام المراقبة، والقصف العشوائي للآخرين، والاغتيالات المستهدفة، والتدخل الفظ في مصائر الدول والشعوب، وازدراء الأعراف والقوانين الإنسانية والدولية.
 
على الرغم من أن الكيان الصهيوني نشأ أولًا كصنيعة أوروبية، فإنه سرعان ما اتصل بالكيان الأميركي الأقرب إلى طبيعته التكوينية والأيديولوجية. ولم تكن العلاقة بين الكيانين مجرد تحالف استراتيجي براغماتي مرحلي بقدر ما كانت تماهيًا تأسس في البنى الثقافية واللاهوتية والتاريخية والتكوينية المتجذرة في الوعي السياسي والديني لكليهما. وجعل هذا التماهي من العلاقة بين الطرفين تتجاوز التفصيلات الدبلوماسية التقليدية إلى الانصهار الرمزي والأخلاقي المطلق.
كما هو معروف، نشأت الولايات المتحدة كمجتمع مهاجرين استعماريين استيطانيين، فروا من الاضطهاد الديني والاجتماعي في أوروبا، وتجمعوا في أميركا من مختلف القوميات واللغات والخلفيات لصناعة «أمة» جديدة في العالم. وقد حمل «البيوريتانيون» الأوروبيون معهم في مغامرتهم الاستعمارية في القرن السابع عشر تصورًا رسوليًا عن «الأرض الموعودة» و»شعب الله المختار»، واستخدموا روايات «العهد القديم» لتبرير استيطانهم الأرض الجديدة. وكان هذا التصور هو الأساس لنمط ديني-سياسي يبرر الإبادة والاستعمار باسم الخلاص الإلهي. وأعيد إنتاج هذا النمط نفسه اليوم في علاقة التيار الإنجيلي البروتستانتي الأميركي بالكيان الصهيوني. وفي هذه العلاقة، تجعل القناعة بأن لليهود وعدًا وحقًا إلهيًا في الأرض، وبأن عودة المسيح مشروطة باكتمال استعادة «أرض إسرائيل»، من دعم الكيان ركنًا لاهوتيًا لا يحتمل الخلاف أو النقاش ضمن هذه الدوائر.
على عكس التصورات السائدة، فإنهم الإنجيليون المسيحيون، وليس يهود أميركا أو «اللوبي الإسرائيلي»، هم الذين يديرون السياسة الأميركية المتماهية مع الكيان، بسبب هذا الرؤى اللاهوتية بالتحديد.  وقد أظهر استطلاع أجرته جامعة نورث كارولاينا في العام 2017 أن 80 في المائة من الإنجيليين الأميركيين يرون في قيام «إسرائيل» في العام 1948 تحقيقًا لنبوءة توراتية، بينما يعتقد نحو 70 في المائة منهم بأن دعمها يُعجّل بعودة المسيح. وبيّنت دراسة أخرى أجرتها «مؤسسة لايفوي للأبحاث» أن 77 في المائة من المسيحيين الإنجيليين يعتقدون أن الله وعد اليهود بالأرض المقدسة. ومن الملفت أن هذا الدعم يبقى راسخًا حتى عندما يرتكب الكيان الصهيوني انتهاكات موثقة ضد الفلسطينيين؛ حيث دعمه بالنسبة لهؤلاء يتجاوز الموقف السياسي ليشكل امتثالًا لمرجعية دينية أعلى من أي قانون أو معيار إنساني.
في المقابل، يُظهر اليهود خاصة في الولايات المتحدة– تنوّعًا واختلافًا في الموقف من الصهيونية. وأظهر استطلاع لمركز «بيو» أجري في العام 2020 أن حوالي 27 في المائة من اليهود الأميركيين لا يشعرون بارتباط عاطفي بـ»إسرائيل»، وأن 10 في المائة من الشباب اليهودي يرفضون اتجاهات «الدولة الإسرائيلية»، ويعتبرونها منخرطة في سياسات فصل عنصري. وهناك جماعات يهودية نشطة مناهضة للصهيونية، مثل «ناطوري كارتا» التي ترى في الصهيونية انحرافًا عن التعاليم الدينية، و»صوت يهودي من أجل السلام»» التي تتبنى مواقف حقوقية مناصرة للفلسطينيين. وتظهر هذه المواقف أن الصهيونية تخضع، في الإطار اليهودي، للنقاش الأخلاقي والسياسي، ولا تُعتبر من ثوابت الإيمان.
إذا كان عدد اليهود في أميركا يدور حول 5 ملايين، بينما يتراوح عدد الإنجيليين المسيحيين بين 76 و78 مليونًا، فإنه يمكن تفسير المفارقة المتمثلة في أن التيار الإنجيلي الأميركي –وليس الوسط اليهودي- هو الذي يُشكّل اليوم أكثر القواعد ثباتًا وتأثيرًا في الدفاع عن الكيان في الولايات المتحدة. ولا يتعلق الأمر بالحجم العددي وحده بقدر ما يتعلق بانطلاق الدعم من عقيدة لاهوتية، وممارسته باعتباره طاعة دينية وليس مجرد تبنٍّ سياسي، وهو ما يجعل تأثير الإنجيليين في صناعة القرار الأميركي غالبًا ما يتجاوز تأثير اللوبيات اليهودية التقليدية، خصوصًا في ما يتعلق بالسياسات تجاه فلسطين.
العلاقة بين اللاهوت الإنجيلي والمشروع الصهيوني إذن تقوم على تماثل سرديات التأسيس لدى الطرفين: نفس الأفكار عن «الشعب المختار»، و»النجاة من الاضطهاد»، و»الاستيطان بوصفه استردادًا للوعد الإلهي». وتُستخدم هذه السرديات لتبرير الهيمنة ومصادرة الأرض، سواء في التجربة الأميركية أو الاستعمارية الصهيونية. ويتجلى هذا التطابق في تفاصيل السياسات والممارسات.
في فلسطين، يقتل المستوطنون الصهاينة الفلسطينيين بحصانة تامة من العقاب، تمامًا كما فعل المستوطنون الأميركيون الأوائل ضد الهنود الحمر. وفي الحالتين، يُمنح المستوطن وضعًا قانونيًا متفوّقًا على السكان الأصليين المصنفين كأقل من بشر، ويُعامَل عنفه على أنه دفاع عن النفس أو «ضرورة حضارية». وتقوم محاكم الكيان، مثل نظيراتها الأميركية، بتبرئة القتلة وحماية المعتدين، وتغض الطرف عن الفظائع، لأن الكيانات التي تعمل فيها هذه المحاكم تقوم على فكرة أن الوجود الأصلي، بناسه ومظاهره، خطر ينبغي استئصاله.
إنه هذا التبرير اللاهوتي، الذي يقدّس العنف والإبادة، هو الذي يجعل المشروعين -الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المشروط وجوديًا بطبيعته كامتداد عضوي للكيان الإمبريالي الأميركي الاستعماري الاستيطاني هو نفسه- تجسيدًا مثاليًا للفاشية. كلاهما مختار إلهيًا، يشرعن إبادة الشعوب الأصلية كـ»خطة إلهية»، والقوة الغاشمة بكل أشكالها كطريقة لتحقيقها.