عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Oct-2025

من الشكوى لاستجداء المشاعر.. كيف غيرت السوشال ميديا مفهوم التعاطف؟

 الغد- رشا كناكرية

 يد حنونة، كلمات تواسي، عبارات تحفيزية، هي ما اعتاد عليه الإنسان في حاجته للتعاطف، ولكن اليوم اختلف هذا المعنى، وأصبحنا نرى طرقا جديدة للبحث عنه واستجدائه.
 
 
ولعل المعظم كان شاهدا على هذه الحالات عبر منصات التواصل الاجتماعي، فكثير ما نرى فيديوهات لأشخاص تبكي وتشارك مشاعرها وحزنها وما مرت به بحثا عن التعاطف والمساندة النفسية ولكن بطريقة رقمية.
وفي عالم تغزوه منصات التواصل الاجتماعي ومشاركة تفاصيل الحياة؛ بدأ البعض ينشر أشياء خاصة عن حياته، بحثا عن التعاطف الرقمي وكلمات مواساة. لكن من جهة أخرى فإن مشاركة تفاصيل خاصة على منصة واسعة يعد أمرا خطيرا، حيث تتنوع الآراء والتعليقات وردات الفعل المختلفة التي قد تحمل المواساة من البعض والإساءة من آخرين. وما بين تعاطف حقيقي ورقمي، يبقى السؤال هل هذا التوجه الذي نراه من مؤثري ورواد السوشال ميديا هو طريق صحيح أم بوابة لإلغاء الخصوصية وخطر يهدد الصحة النفسية؟
هل تعوض المنصات الرقمية عن القرب الإنساني؟
بدوره، يبين الاستشاري النفسي والمحاضر الدولي المعتمد يزيد موسى، أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يحتاج إلى الانتماء، الفهم، والاعتراف بمشاعره ومع ضعف الروابط الاجتماعية الواقعية في حياة كثير من الأشخاص، أصبحت المنصات الرقمية تعويضًا عن هذا القرب الإنساني.
ويوضح أن هنالك الكثيرين ممن يشعرون أن السوشال ميديا هي المساحة الوحيدة التي يمكنهم أن يُسمعوا فيها دون مقاطعة وأن يتلقوا دعما فوريا ولو كان من غرباء.
ويذكر موسى أن هناك دوافع نفسية خفية وراء هذا الاتجاه، منها الحاجة للاعتراف بمعنى "أنا موجود أنا أتألم، أريد أن يراني أحد"، وثانيا التفريغ العاطفي السريع فالبعض يجد الكتابة أو البوح أمام الكاميرا وسيلة مريحة لتخفيف الضغط النفسي، وأخيراً الشعور بالانتماء فعندما يتلقى الشخص تعاطفا أو دعما يشعر أنه ليس وحده في معاناته.
ويشير موسى إلى أن التعاطف الرقمي يحقق الدعم النفسي بشكل جزئي فقط، ويمنح راحة مؤقتة، لكنه لا يعادل التعاطف الحقيقي الذي يتضمن تواصلًا بصريا، نبرة صوت وحضورًا فعليًا.
 تعليقات إيجابية لكنها سريعة الزوال
يفسر موسى أن التعليقات قد تكون إيجابية ولطيفة، لكنها سريعة الزوال ولا تعالج الألم الحقيقي أو جذور المشكلة، بل في بعض الأحيان كثرة التفاعل الإيجابي تخدر الألم مؤقتًا وتجعل الشخص يؤجل المواجهة أو العلاج الحقيقي.
ووفقا لذلك، يؤكد موسى أن الاعتياد على "التفريغ العاطفي الرقمي" يضعف الروابط الواقعية وبشكل واضح، فعندما يصبح الجمهور هو "الصديق الأقرب" يفقد الشخص حسّ الخصوصية والانضباط العاطفي.
ويحدث ما يسمى بالاعتماد النفسي على الجمهور (Emotional Dependency on Audience) بحسب موسى، إذ يشعر الفرد أنه لا يستطيع التعامل مع مشاعره إلا إذا شاركها علنا، وبذلك تتراجع جودة العلاقات الواقعية ويحدث نوع من "العزلة الاجتماعية المقنعة" فالشخص محاط بالناس رقميًا لكنه وحيد فعليًا.
ويذكر موسى أن هنالك بعض النصائح التي يمكن بها الحفاظ على التوازن بين التعبير عن الذات والخصوصية، أولا أن يحدد الفرد مساحته الآمنة وقبل أن ينشر أي شيء، يسأل نفسه: "هل سأرتاح لو قرأ شخص لا أعرفه عما أعانيه؟".
ويضيف، ثانيا أن يستخدم الفرد التفريغ الخاص ومنها الكتابة، تسجيل الصوت أو التحدث مع مختص نفسي بدلًا من البوح العلني بكل التفاصيل، وثالثا أن يفرق بين التعبير والفضفضة، موضحا انه من الطبيعي أن يعبر الفرد عن حالته، لكن الفضفضة المفرطة قد تعرضه للاستغلال أو النقد.
 بناء شبكة دعم حقيقية
والأهم بحسب موسى أن يبني الفرد شبكة دعم حقيقية، ويستثمر علاقات قريبة وصحية في الواقع، فهي أكثر ثباتًا وأمانًا من أي تفاعل إلكتروني، وأخيرا أن يحمي الفرد طاقته النفسية فلا يتعامل مع السوشال ميديا كمعالج نفسي، مؤكدا بذلك أنها بيئة "غير آمنة" عاطفيًا في كثير من الأحيان.
ومن الجانب التقني، يبين المستشار الإعلامي والمدرب المتخصص في التسويق والعلاقات العامة، بشير مريش، أن خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في زيادة انتشار المحتوى العاطفي والمؤثر، وذلك لأنها صممت لتظهر للمستخدمين ما يثير تفاعلهم وانفعالهم العاطفي.
ووفق مريش؛ فإن المحتوى الذي يتضمن مشاعر قوية مثل الحزن، البكاء، أو القصص الإنسانية غالباً ما يحقق معدلات عالية من المشاهدة والتعليق والمشاركة، مما يدفع الخوارزميات إلى تضخيم انتشاره بشكل أكبر ليصل إلى عدد أوسع من المستخدمين.
لذلك يؤكد مريش أن الخوارزميات أصبحت تشجع بطريقة غير مباشرة على نشر المزيد من هذا النوع من المحتوى، لأن المؤثرين والمستخدمين يدركون أنه يجلب تفاعلاً سريعاً وانتشاراً واسعاً، حتى وإن كان ذلك على حساب الخصوصية أو الصحة النفسية أحياناً. ويشير مريش إلى أنه يمكن النظر إلى مشاركة التجارب الشخصية أمام الجمهور على أنها ظاهرة مزدوجة الأبعاد فهي في بعض الحالات تُشبه نوعًا من "العلاج الرقمي"، وفي حالات أخرى تكون مجرد بحث عن التفاعل والمشاهدات.
حينما يتحول الألم لمحتوى رقمي
البعض يجدون راحة نفسية في التعبير عن مشاعرهم ومشاركة معاناتهم أمام جمهور يتفهمهم أو يساندهم، مما يمنحهم شعورًا بالدعم والانتماء ويخفف عنهم الضغط النفسي وهذا جانب علاجي حقيقي يعتمد على التفريغ العاطفي والتواصل الإنساني. لكن من جهة أخرى، هناك من يستغل هذه الظاهرة كوسيلة لزيادة المتابعين والمشاهدات، حيث يتحول الألم الشخصي إلى محتوى رقمي قابل للتداول، فيفقد معناه الإنساني ويصبح جزءًا من سباق الشهرة والتفاعل.
ويقول مريش "إن الفرق بين العلاج الرقمي والبحث عن التفاعل يكمن في النية والدافع وراء المشاركة، وكذلك في طريقة استقبال الجمهور وتفاعل المنصة معها".
وينوّه أن عرض تفاصيل الحياة الخاصة على المنصات الرقمية يعد خطرًا كبيرًا على الخصوصية والأمان الرقمي، خاصة في ظل البيئة المفتوحة التي تتيح لأي شخص الوصول إلى المعلومات ومشاركتها بسهولة.
ويوضح أنه عندما ينشر الأفراد تفاصيل دقيقة عن حياتهم مثل أماكن تواجدهم، أفراد عائلتهم، أو مشاعرهم وتجاربهم الشخصية فإنهم يكشفون جوانب حساسة يمكن استغلالها بطرق غير متوقعة سواء من قبل أشخاص مجهولين أو حتى من قبل الشركات والمنصات نفسها عبر تتبع السلوك الرقمي وتحليل البيانات.
كل منشور هو بصمة رقمية دائمة
هذا النوع من الإفصاح المفرط قد يؤدي إلى انتهاك الخصوصية، أو سرقة الهوية، أو الابتزاز الإلكتروني، بالإضافة إلى التأثير النفسي الناتج عن التعليقات السلبية أو التنمر الإلكتروني.
ووفقا لذلك يشدد مريش على أنه من المهم أن يدرك المستخدمون أن كل منشور هو "بصمة رقمية دائمة"، وأن الحفاظ على حدود الخصوصية الشخصية لا يعني الانعزال بل هو وعي رقمي يحمي الذات من الاستغلال والمخاطر المستقبلية.
ويذكر مريش أن الأشخاص الذين يشاركون قصصهم الشخصية وتفاصيل حياتهم الخاصة على المنصات الرقمية قد يتعرضون لعدة أنواع من الأضرار والمخاطر الرقمية، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو أمني واجتماعي.
ويتابع، منها التنمر الإلكتروني من تعليقات جارحة أو سخرية أو أحكام قاسية من الغرباء، فهذا النوع من التفاعل السلبي يمكن أن يؤدي إلى اكتئاب، قلق، أو فقدان الثقة بالنفس.
بالإضافة إلى الاستغلال العاطفي أو النفسي فالبعض قد يستغل الضعف العاطفي للشخص لتحقيق أهداف خاصة، مثل طلب المال أو المعلومات أو بناء علاقات غير آمنة.
وقد يتعرض لانتهاك الخصوصية وسرقة البيانات، مفسرا أن نشر تفاصيل مثل المواقع الجغرافية، الأسماء، أو الصور العائلية قد يُستخدم في اختراق الحسابات أو سرقة الهوية أو حتى تتبع الشخص في الواقع.
والأخطر الابتزاز الإلكتروني، ففي بعض الحالات تستخدم المعلومات أو الصور التي شاركها الشخص ضده لاحقًا، مما يسبب ضغطًا نفسيًا وخوفًا من الفضيحة أو التهديد.
تحتاج مشاركة القصص الشخصية عبر الإنترنت إلى وعي رقمي وحدود واضحة بين ما يمكن نشره علنًا وما يجب أن يبقى خاصًا، لأن الفضاء الرقمي لا ينسى وكل ما ينشر يمكن أن يعاد استخدامه بطرق غير متوقعة مستقبلاً.
برامج توعوية للتعامل مع المنصات بذكاء
ويشدد مريش على أن هناك حاجة ملحّة جدًا إلى التثقيف الرقمي ووضع قوانين وتشريعات واضحة تنظم مشاركة القصص والمحتوى الشخصي على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك لعدة أسباب أساسية منها ضعف الوعي الرقمي لدى المستخدمين.
الكثير من الناس يشاركون تفاصيل حياتهم دون إدراك كامل لتأثيرها أو لمن يمكن أن يشاهدها، مما يجعلهم عرضة للاستغلال أو التنمر أو فقدان الخصوصية، لذلك من الضروري تعزيز الثقافة الرقمية في المدارس والجامعات والمؤسسات عبر برامج توعية تُعلّم المستخدمين كيف يحافظون على خصوصيتهم ويتعاملون بذكاء مع المنصات.
وثانيا، غياب القوانين المنظمة للمحتوى الشخصي بحسب مريش، رغم وجود تشريعات لمكافحة الجرائم الإلكترونية في بعض الدول، إلا أن القوانين التي تنظم نشر القصص الشخصية أو تحد من استغلالها ما زالت محدودة، ووجود قوانين واضحة يضمن حماية الأفراد من التشهير، الابتزاز، أو إساءة استخدام بياناتهم الشخصية.
الى جانب تعزيز المسؤولية المجتمعية، إذ يجب أن تتحمل المنصات نفسها جزءًا من المسؤولية عبر سياسات أكثر وضوحًا لحماية المستخدمين من الإساءة أو نشر المحتوى الحساس، بالإضافة إلى أدوات تحذير أو توعية عند نشر تفاصيل شخصية.
وأخيراً بناء بيئة رقمية آمنة ومتوازنة، مبينا أن الهدف ليس تقييد حرية التعبير بل تنظيمها بما يحمي الأفراد والمجتمع، ويجعل مشاركة القصص والتجارب الشخصية وسيلة للتعبير الإيجابي لا بابًا للمخاطر النفسية والاجتماعية.
ويختتم مريش حديثه مؤكدا أن الجمع بين التثقيف الرقمي المستمر والقوانين الرادعة هو الطريق الأمثل لبناء وعي رقمي ناضج يوازن بين حرية التعبير وحق الأفراد في الأمان والخصوصية.