عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Sep-2025

رحلة في الذاكرة الكركية: صفحات توثق التراث الشفوي والأهازيج الشعبية

 "والكرك ساس على ساس" كتاب لميساء حدادين يحفظ الهوية الثقافية

الغد-عزيزة علي
 يأتي كتاب، "والكرك ساس على ساس (كرك الهِّية)"، للباحثة والمهتمة بتوثيق الموروث الشعبي الكركي، المهندسة ميساء حدادين، امتدادا لمسيرة التوثيق التي بدأت بها المؤلفة امتثالًا لرغبة والدتها الملهمة، ليعيد إحياء التراث الشفوي والغنائي، ويربط الماضي بالحاضر، ويؤكد على أهمية الحفاظ على الهوية الثقافية في عالم سريع التغير.
 
 
ويُعدّ الكتاب، الصادر عن دار "الآن ناشرون وموزعون"، محاولة جادّة لتوثيق الموروث الشعبي الكركي وتعزيز الهوية الثقافية والوطنية، من خلال وصل الماضي بالحاضر، واستحضار الرموز والمواقف التي صنعت مجد الكرك، فجاء بنكهة كركية أردنية أصيلة.
يمزج الكتاب بين السردية والشعر والأهازيج الشعبية، حيث يستعرض الموروث الغنائي الكركي ودلالاته الاجتماعية والوطنية، ويبرز دور الكرك وأبنائها في مقاومة الظلم عبر التاريخ، ووقوفهم في وجه المحتل العثماني، ليعيد إحياء ذكرى ثورة الكرك المجيدة، ثورة "الهَيّة"، عام 1910.
وتُعدّ ثورة الكرك من أوائل الثورات الوطنية التحررية التي قدّم من خلالها أبناء الكرك دماءهم الزكية طلبا للحرية، وكانت بمثابة الشرارة الأولى للثورة العربية الكبرى التي فجرها الشريف الحسين بن علي لاحقا عام 1916.
في مقدمتها للكتاب، تؤكد حدادين أن الموروث الشعبي أو الفلكلور يُعدّ جزءا أصيلا لا يتجزأ من التراث الثقافي للشعوب. ويتجلّى هذا الموروث في مختلف فنون الثقافة الشعبية، ولا سيما فنون الأدب الشعبي الممتدة جذورها عبر آلاف السنين، من شعرٍ ونثرٍ وأغانٍ وأهازيج وقصص وغيرها، وهي فنون يطغى عليها البعد الشفاهي في أنماطها التعبيرية المختلفة.
وترى أن هذه الفنون تُشكّل الهوية اللغوية والثقافية التي يُقدّم من خلالها كلّ شعبٍ نفسه، مميِّزًا إياها عن هويات غيره من الشعوب. فهي تعبّر عن مختلف جوانب الحياة اليومية، وتجسّد مشاعر الناس وأحاسيسهم، لتبقى أدبا نابضا من الشعب وإليه.
وتوضح المؤلفة أن أهمية هذه الفنون تكمن في دورها الحيوي بالمحافظة على التراث ونقله من جيل إلى جيل، فضلا عن إسهامها في التعبير عن هوية الأمة وثقافتها وتقاليدها، وتعزيز أواصر التواصل بين أفراد المجتمع، إذ تُقال في المناسبات الاجتماعية والوطنية على حدّ سواء.
وتشير حدادين إلى أن الباحثين لا يختلفون في أن الأدب الشعبي كان، عبر العصور، ذاكرةً جمعية تعبّر عن نبض الشعوب؛ إذ حفظت الذاكرة الشعبية قصائد وأغانٍ وأهازيج كثيرة على امتداد الحقب الزمنية، باعتبارها أحد الأشكال التعبيرية الفنية الأقرب إلى القلب، بما تحمله من عذوبة اللحن، وجماليات الشكل، وجزالة الكلمات، فضلًا عن التمازج العميق بين اللحن والكلمة.
ولا شك أن الموروث من الأدب الشعبي يمثل وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية في عالم يتسم بالعولمة والانفتاح الثقافي، وهي من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات والشعوب. فهو الجسر الذي يصل الماضي بالحاضر، ورمز للهوية والانتماء، ومن هنا تتجلى أهمية الدور الذي يضطلع به الأفراد والمجتمعات المحلية، جنبا إلى جنب مع المؤسسات الثقافية والتعليمية، في صون هذا الأدب وإعادة إحيائه.
ينهل الكتاب من التاريخ الشفوي والذاكرة الجمعية بهدف إنقاذهما من المحو والنسيان، ويربط العديد من الأهازيج بالأحداث التاريخية المفصلية التي تركت أثرها في تاريخ الكرك والأردن والمنطقة بشكل عام.
تبين حدادين إن هذا الكتاب الثالث يأتي ضمن سلسلة الحفظ والتوثيق للموروث الشعبي الكركي، التي بدأت بها امتثالا لرغبة والدتها، رحمها الله"، "سيدة في ذاكرة الكرك"، (الداية أسمى، جدة العيال)، التي كانت بمثابة ملهمة ومعلمة وعرّابة لابنتها، لما امتازت به من فصاحة القلب وبلاغة القول، ولإجادتها الترديد والارتجال من الموروث الكركي الجميل.
وتبين المؤلفة أنه عندما تُسدل الذكريات ستارها علينا لتُخفي ما يعتمل في صدورنا من وجعٍ صامت وألمٍ، حين نشعر أن نجومنا قد أفلت، وأن عقارب ساعاتنا توشك على التوقف، وأن أرواحنا معلقة بين ماضٍ ولّى ومستقبلٍ غامض، بينما نُنكر الحاضر.
تقول؛ "نقف على مرافئ الانتظار، نؤجّل حاضرنا لبعض حين، نشتم رائحة الماضي المعطر بالحنين، لبرهة من الزمن تدور بنا الأرض، تمطرنا سحب من التساؤلات: إلى أين؟ وماذا بعد؟ ننعتق من أرواحنا ونهيم كالفراشات، ولا نجد لنا ملجأ سوى باب الذكريات؛ ذكريات مهترئة تئن بصرير الصدى. ونلملم أشلاء أرواحٍ تركناها في البعيد، ونُطلق العنان لذاكرتنا بحثا عن وجودٍ جديد، فتعيدنا ذاكرة اللاوعي إلى زمن الماضي البعيد الذي نسيناه أو بالأحرى تناسيناه في خضمِّ انشغالنا بالحياة المهنية.. فإذا باللاوعي يعيدنا إلى زمنٍ تناسيناه في زحمة الحياة المهنية.
وتضيف؛ "عندما ترجلتُ عن درب العمل المهني الذي بدأته قبل ثلاثين عاما، وأحلت إلى التقاعد المبكر. شعرت بالعجز والاكتئاب، فقد كنت أرى نفسي ما زلتُ قادرة على العطاء. وكنت أواسي نفسي دائما بأن القادم أجمل. ومن هنا، أعدتُ استكشاف اهتماماتي القديمة، وعدتُ إلى رماد ذكرياتٍ ما زال عالقًا في ذهني، فاستحضرتُ رغبة أمي – طيّب الله ثراها – معلمتي وعرّابتي، التي كانت تحثّني دائمًا على كتابة وتوثيق موروثنا الغنائي الشعبي الكركي الذي كانت تجيده ارتجالًا".
وتقول المؤلفة إن أمها حمّلتها أمانةً عظيمة: أن أكون حارسةً لتراثنا، وراويةً لذاكرتنا. فهي "سيدة في ذاكرة الكرك"، الداية أسمى حدادين، جدة العيال وحافظة الموروث، التي آمنت أن التوثيق واجب وحقّ تجاه إرثٍ خالد.
وتضيف؛ جاء صوت الماضي مدوّيًا يقرع طبوله، يحثّني على المضي قدمًا، ممتلئةً بنعمة أمٍّ ظلّلتني بحبها، وموهبةٍ ورثتُها عنها. لقد عايشتُ منذ طفولتي أمًّا معلمةً أُوتيت فصاحة القلب وبلاغة القول بالفطرة. لا أذكرها إلا وهي تغنّي وتدندن بأغانينا الكركية أثناء أعمالها اليومية؛ بصوتٍ دافئ، وقلبٍ أكثر دفئًا.
وتنوه المؤلفة أنها قد عايشتُ منذ طفولتها أمًّا ومعلمةً وعرّابةً "أُوتيت بالفطرة فصاحةَ القلب وبلاغةَ القول، ولسانًا فاق ببيانه كل بليغ. ولا أذكرها إلا وهي تغنّي وتدندن، فرِحةً أو حزينةً، بأغانينا التراثية الكركية العذبة، وهي منهمكة في أعمالها المنزلية اليومية".
وتقول حدادين إن ما كتبته، من "سيدة في ذاكرة الكرك" إلى "من جميل الموروث الشعبي الكركي"، الصادر ضمن سلسلة المدن الثقافية لعام 2024، وصولًا إلى "والكرك ساس على ساس"، إضافةً إلى مخطوطَي "الموروث الشعبي الكركي من المهاهاة"، و"بكائيات من الموروث الشعبي الكركي"، وكله هذا ليس سوى ثمرة عصفٍ ذهني مع ماضٍ جميلٍ بعبقه وألقه، شخوصه: ذاتي، وصوت أمي يهمس في أذني، وذكريات باقية، وبعض موهبةٍ ورثتها عن تلك السيدة الجليلة.
وخلصت حدادين إلى أن إحساسها بالولاء والانتماء والواجب تجاه "جميلتيها" الاثنتين، "كما تصفهما"،  أمها والكرك، دفعها إلى تخصيص الإهداء لهما في جميع الكتب الصادرة ضمن السلسلة التوثيقية للموروث الشعبي الكركي.
ومن الجدير بالذكر أن ميساء حدادين تحمل درجة الماجستير في الهندسة الزراعية، وهي عضو في اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين. وقد صدر لها قبل هذا العمل كتابان: "سيدة في ذاكرة الكرك"، "من جميل الموروث الشعبي الكركي".