عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Dec-2025

العربية كأداة مقاومة..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

مرّ «اليوم العالمي للغة العربية» يوم الخميس الماضي من دون أن يُلحظ تقريبا. وإذا حدث وأن لوحظ في أطر محدودة، فللاحتفاء بالعربية إنشائيًا وتوصيفيًا كتراث ثقافي أو أداة تواصل. لكنّ هذا التناول اختزالي وتبسيطي لا يقدّر اللغة كعنصر أساسي –وربما العنصر الأساسي- في صراع على الوجود والمعنى، خاصة في المناخات الجيوسياسية الراهنة التي تُدار فيها الصراعات أولًا على مستوى الخطاب، والسردية، والمشاركة في –أو الاستبعاد من- تعريف الواقع والمفاهيم. ولا تمتلك اللغة في هذه المناخات ترف العمل كمُعطى ووسيط محايد بينما هي المكان الذي تتقاطع فيه السلطة، والمعرفة، والهوية. في السياق الراهن، من المشروع التعامل مع العربية كلغة مقاومة، وأداة مركزية ينبغي الاستثمار فيها كجزء من مشروعنا التحرري واستقلالنا الرمزي والمعرفي.
 
 
باعتبارها لغة حضارية جامعة، تؤدي العربية وظيفة توحيدية فريدة في فضاء عربي متعدّد الأعراق والأقاليم والتجارب السياسية. وحتى لو لم تكن هذه وحدة دولة أو سلطة، فإنها وحدة معنى ووجدان، تحددها اللغة كحامل للذاكرة الجماعية، ووسيط موثوق لتداول الأفكار والقيم، وأداة لتحويل التجربة الفردية إلى وعي مشترك. وندرك نحن، بغريزتنا، هذه العلاقة الحيوية بين اللغة وتماسك الجماعة التاريخية، حيث اللغة وليس الحدود السياسية هي التي تعرِّف وجودنا كأمّة تفكر وتحلم وتحكي ذاتها بالعربية. ويدرك الآخر أن تهميش العربية يمس بالأساس الذي تقوم عليه وحدة الهوية العربية وبقية المشتركات التي تجعل من العرب جماعة قابلة للتماسُك، والتحول من الهمود إلى الفعل.
عندما تُستهدف أمة بالهيمنة، فإن اللغة تكون دائمًا في صميم مشروع الهيمنة. إذا أردتَ أن تسيطر على جماعة فابدأ بإعادة تشكيل الوعي. قم بتجريد اللغة الأصلية من وظائفها الحيوية –من التعليم، والإدارة، وإنتاج المعرفة، والارتقاء الاجتماعي- وسوف ننتج تابعين يرون العالم بعينيك. سوّق لغتك –أو افرضها- بوصفها لغة الحداثة والعقلانية والتقدم، وازرع في العقل الجمعي للمستهدفين أن لغتهم المحلية عائق وبقايا ماضٍ، وستكون لديك تنتج أمة مشوشة والشخصية، معدّة للاستقبال دون الإرسال. 
هذا الآلية تعرض نفسها مكثفة في التجربة الفلسطينية. هناك، يستكمل المشروع الاستعماري الاستيطاني السيطرة المادية باستهداف الذاكرة والسردية، فيسعى إلى محو الأسماء، وإعادة كتابة الجغرافيا، وتجريد المكان من معناه بسلبه إمكانية التعريف عن نفسه بمفرداته. وهو ما يجعل اللغة بالنسبة للفلسطينيين خط الدفاع الأول في مواجهة هذا المحو. ويتحول الإصرار على الاسم العربي، والرواية العربية للتاريخ، والحكاية العربية كفعل وجود، إلى أداة مقاومة يومية وشكل مهم آخر من أشكال الصمود. 
وفي المشهد الأوسع، حيثُ العرب كلهم مستهدفون بالإخضاع –من بوابة ترسيخ المستعمرة في فلسطين- ينبغي الانتباه إلى اللغة. ثمة في العربية من المرونة الاشتقاقي والغنى الدلالي ما يمكنانها من تفكيك خطاب المهيمن وتعرية العنف الذي يخفيه تحت تعريفاته للمفاهيم من نوع «السلام» و»الأمن» و»التحديث». ويجب أن يدرك العرب أن اللغة ليست مجرد أداة توصيف، وإنما أداة تسمية، حيث الذي يملك سلطة التسمية يملك سلطة تعريف الواقع -وصناعته. وحيث يُفرَض على أُمة أن تصف ذاتها بلغة الآخر، فإنها ستتبنى مفاهيمه ومعاييره وأحكامه القَبْلية. وعندما نطالب باستعادة العربية كلغة تحليل ونقد، فلأن ذلك شرط لإعادة امتلاك القدرة على الفعل التاريخي.
ثمة في العالم تجسيدات لفظاعة عمل الاستعمار مع اللغة. في أميركا اللاتينية، أدى الاستعمار الاستيطاني العنيف إلى تدمير واسع للسكان الأصليين وإقصاء شبه كامل للغاتهم من الفضاء العام. وحتى بعد انسحاب الجيوش، ظلت الإسبانية والبرتغالية لغتي الدولة والمجتمع والهوية في منطقة تعاني من تشوه الهوية. وفي أجزاء واسعة من أفريقيا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، رسّخ الاستعمار لغته لتكون في موقع السيادة والمعرفة، وألجأ اللغات الأصلية إلى أضيق الهوامش، ومعها البقايا المتلاشية لهويات أصحاب البلاد الأصليين.
لحسن حظنا –ولأكثر من الحظ في الحقيقة- لم تتمكن الاستعمارات في الوطن العربي من إنجاز اقتلاع لغوي. كانت العربية قبل الاستعمار لغة حضارية مكتملة ذات شرعية عقائدية ومعرفية عميقة، مرتبطة بالعقيدة، وبشبكات تعليم واسعة، وبحضور اجتماعي يومي، وكانت مرونتها جزءًا من مقاومة الاستعمار. لم ينجح التتريك في أواخر العهد العثماني، على الرغم من محاولة تهميش العربية في الإدارة والتعليم. قاوم العرب بإحياء الصحافة، والتعليم العقائدي والأدبي، وتأسيس الجمعيات الثقافية –والأهم، ببلورة خطاب قومي جعل اللغة أساسًا للهوية والحق في الاستقلال. كانت العربية أداة تنظيم سياسي ورمزًا للرفض. وفي الرد، من أجل استعادة الشخصية، جرد الأتراك لغتهم من المفردات العربية وغيروا حروفها من العربية إلى اللاتينية.
ليس مفاجئًا أن تُستهدف العربية كجزء من مشروع الهيمنة على العرب. لكن المقلق هو التآكل الداخلي الهادئ الذي يُحدثه أصحاب العربية. ثمة انتشار للغة هجينة بين العربية واللغات الغربية في بعض الأوساط. ثمة استخدام مفرط للغات الأجنبية خارج سياقاتها الوظيفية بدوافع استعراضية، يعكس اختلالًا في ميزان القوة الرمزية بين اللغات. ثمة مؤتمرات عربية، يشارك فيها باحثون عرب لبحث موضوعات عربية، تُدار وتُجرى بالإنجليزية. وثمة محللون ومنتدون على الشاشات يقولون جملة من عشر كلمات، خمس منها أجنبية. ولا ينشأ هذا الاستخدام غالبًا من حاجة تواصلية، وإنما من تصور يوحي بعجز العربية عن التعبير عن المعرفة. وفي ذلك إشارة إلى هوية قلقة وشعور كامن بالدونية. ولا يتعلق الأمر في هذه السياقات بالتعدد اللغوي بقدر ما يعني استخدام اللغة الأجنبية كمعيار للتفوق، والحكم بعدم أهلية العربية للحضور في مجالات التفكير العلمي والنقاش العام.
عندما تدور الصراعات في السياق العالمي الراهن على المعنى كمقدمة لامتلاك الموارد، تصبح اللغة من أسلحة الصراع. عندما يصل العرب إلى توصيف المقاومة كـ»إرهاب»، والمهمين كـ»شريك»، والمستعمر الصريح كـ»صاحب حق في الوجود»، فإن العربية تصبح مجرد وسيط ترجمة آلي لا عمل له في فحص التعريفات وإنتاج الاقتراحات والمفاهيم بوعيه الخاص.
يقصد استهداف العربية، سواء من الخارج أو بتهميشها من الداخل، إلى تفكيك الوعي العربي المشترك وتجريده من أدوات الفهم والتخيّل والمقاومة. ولذلك يشكل الدفاع عن العربية موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا واعيًا لدور اللغة في تحديد موقعنا كصانعين للتاريخ أو كموضوع له. وعلينا أن ندرك أن من يخسر لغته يفقد القدرة على رواية قصته، وعلى تخيّل مستقبله، وعلى الوجود في العالم في موقع غير الدونية.