الأردن بين عهدين.. تشريعيا وإعلاميا*د. أشرف الراعي
الغد
أسس جلالة الملك الحسين الباني - رحمه الله– لأردن قوي قادر على مواجهة كل الأزمات، وباختياره جلالة الملك عبد الله الثاني، حفظه الله، وليا لعهده كان يعلم أن جلالة الملك عبد الله الثاني سيكون قادرا على قيادة الأردن في ظل ظروف إقليمية ضاغطة، ومنطقة صعبة متلاطمة الأمواج، لكن الحكمة الملكية منذ تسلم جلالته سلطاته الدستورية وحتى اليوم حافظت على الأردن، لا بل واستثمرت كل العقبات التي واجهت العالم العربي للنأي بالبلاد عن كل ما يكدر الصفو أو ينزلق بها - لا سمح الله– إلى منعطفات خطرة.
فمنذ تسلم جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية دخل الأردن مرحلة جديدة من البناء السياسي والتشريعي والإعلامي، اتسمت بالتركيز على الإصلاح كمسار ثابت لا خيار مؤقت؛ حيث مثلت السنوات الماضية حقبة تأسيسية لإعادة هيكلة الدولة الأردنية على أسس من العدالة الدستورية، وسيادة القانون، والانفتاح الإعلامي المنضبط، وتوسيع المشاركة الشعبية في الحياة العامة.
وعلى الرغم من أن الدستور الأردني لسنة 1952 يعد من أعرق الدساتير في المنطقة، إلا أن ما شهدته المملكة من تعديلات دستورية موسعة عام 2011 شكل لحظة فارقة العديد من القضايا المهمة التي أسهمت في تعزيز استقلال القضاء وتعزيز مبدأ الفصل بين السلطات وإنشاء المحكمة الدستورية، كهيئة قضائية عليا تفصل في دستورية القوانين والأنظمة، فضلا عن تعزيز العديد من الحقوق الدستورية المنصوص عليها وإنشاء الهيئة المستقلة للانتخاب وغيرها الكثير.
لا بل وانطلاقا من رؤية ملكية حريصة على بناء حياة حزبية ومجتمع سياسي ناضج، تم تحديث عدد كبير من القوانين الناظمة للحياة العامة، ومنها؛ قانون الأحزاب السياسية، الذي أتاح تأسيس الأحزاب على أسس برامجية لا فئوية، وكذلك قانون الانتخاب، الذي شهد تعديلات تدريجية باتجاه تعزيز التمثيل العادل وتقليل التشوهات النيابية، وقانون حق الحصول على المعلومات رقم 47 لسنة 2007، وهو أول قانون من نوعه في العالم العربي، فضلا عن قانون النزاهة ومكافحة الفساد، الذي أنشئت بموجبه هيئة مستقلة لتعزيز الشفافية والمساءلة، وهي هيئة مكافحة الفساد.
فضلا عما شهده الإعلام الأردني من تطور من حيث البنية المؤسسية والتشريعية والمهنية، مدفوعا بتوجيهات ملكية تنادي بحرية الصحافة وتدعو في الوقت ذاته إلى التزام المعايير الأخلاقية والمهنية؛ ليتم إلغاء وزارة الإعلام عام 2003، كخطوة رمزية باتجاه استقلالية المشهد الإعلامي، وتطوير قانون المطبوعات والنشر وتقييد التوقيف الإداري بحق الصحفيين، مع إطلاق ميثاق الشرف الصحفي بالتعاون مع نقابة الصحفيين.
واليوم، ونحن نعيش في عهدٍ تتسارع فيه التحولات الإقليمية والدولية، فإن الأردن بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، ماض بثقة نحو تكريس النموذج الديمقراطي التعددي، عبر نهج إصلاحي شمولي لا يتوقف عند محطة بعينها، بل يتجدد مع كل مرحلة بما يتناسب مع طموحات الأردنيين وتطلعاتهم.
وقد جاءت مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية، التي شكلها جلالة الملك عام 2021، لتؤكد التوجه الجاد نحو ترسيخ الحياة الحزبية والبرلمانية، بإطار دستوري وتشريعي جديد أكثر تطورا، يعكس انتقال الأردن من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين الديمقراطي، حيث تم تعديل أكثر من 40 مادة دستورية لتتناسب مع التوجه نحو حكومات حزبية برامجية، وتعزيز مشاركة الشباب والمرأة في الحياة السياسية، وتوسيع قاعدة التمثيل الشعبي.
وفي السياق الإعلامي، يشهد الأردن نقلة نوعية في استيعاب التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في الحقول الإعلامية، بما يفرضه من تحديات مهنية وتشريعية، وهو ما دفع المؤسسات الإعلامية، وبإسناد من الدولة، إلى تطوير أدواتها وتشريعاتها لتواكب المرحلة المقبلة، وتتصدى لأخطار الأخبار المضللة وخطاب الكراهية، وتعيد الاعتبار لدور الإعلام بوصفه سلطة رقابية وشريكا في بناء الوعي العام، وليس مجرد ناقل للحدث.
إن الأردن اليوم، يقف على عتبة عهد جديد يوازن بين ثوابت الدولة ومصالح الشعب، ويرتكز إلى شرعية الإنجاز، لا شرعية الخطاب فقط، بما يكرس دولة القانون، ويعزز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، ويرفع منسوب الأمل في المستقبل.
إنها رحلة إصلاح وطني متواصلة، يشهد فيها الأردنيون انتقال بلدهم من عهد البناء والتأسيس إلى عهد التمكين والتحديث، تحت قيادة هاشمية راشدة، تنظر إلى المستقبل بعين البصيرة، وتضع الإنسان الأردني محورا لكل مشروع وطني.
ولتعزيز مسار التمكين والتحديث، لا بد من مواصلة الاستثمار في التربية الإعلامية، وتطوير التشريعات المواكبة للتحول الرقمي، ودعم الإعلام المهني المستقل، إلى جانب تمكين الشباب والمرأة سياسيا، وتعزيز استقلالية المؤسسات الرقابية والإعلامية، وربط التعليم العالي بحاجات الحياة السياسية والإعلامية، وبما يشكل رافعة حقيقية لترسيخ دولة القانون، وتكريس نموذج ديمقراطي ناضج، يعكس رؤية القيادة الهاشمية وطموحات الأردنيين في بناء مستقبل أكثر إشراقا واستقرارا.