عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-May-2025

هيفاء النجار... أربعون عاماً في شرقيّ العطاء

 الدستور-فايزة عبد الكريم الفالح

..ويبقى القلمُ مثل مجدافٍ قويّ يمخر بحر الحِبر العميق، حيث تسير السطور سفينة شراعيّة، تحمل حُمولتَها من الأفكار والمشاعر. السفينة تتحرك بثقة، تحمل معها قصّة تنتظر أن تُكتب، تتأرجح بحركة القلم، حتّى تصلَ إلى شاطئ الورقة؛ فتُصبح الكلمات والأفكار واقعاً ملموساً.
الرحلة لا تنتهي هنا، بل تنتقل إلى عيون القارئ، فتُصبح جزءًا من تجرِبته، يتنقّل القلم بها فاتحاً لها دروباً تؤدّي إلى عوالم جديدة ومجهولة؛ لتصبحَ السطورُ قصصاً تُروى وتُحكى، مُنتشية بأناسٍ كانوا وما زالوا استثناء من كلّ قاعدة، لا يشبهون إلّا أنفسهم، هالتهم تسعى بين أيديهم، ولِدَت نجاحاتهم وإنجازاتهم من خاصرةِ «أكون أو لا أكون»؛ يَرسُم الإمضاء أسماءهم على مرايا خُطاهم، ومضوا نحوَ الأفق، فكان الاسم بها كبيراً، والكيان فيها حيًّا. إنّها «هيفاء النجّار»، المرأة العربيّة من الزمن العتيق العريق الجميل.
نستولوجيا، الفردوس:
جرح الحنين إليها شبق، القلم يغدق على نهرها زرقة، الدّواة ممتلئة حبراً صافياً يشبه صفاء ماء نهر الزرقاء. وقِبْلة الفرسان واحدة، رماحهم تشقّ دروب القوافل؛ تسابق ظلّها للوصول، والمدينة لم تَك يوماً بعيدة، تصافح صباحاتها، رُسُلها تحمل مكاتيباً من النور لثمانية القصور العتيقة المترامية على جنبات المدينة، «زرقاء» هي، أمّ بتجلّياتها لأبنتها البكر «قلعة الأزرق». خِدرها الفتيّ ما زال متّسعاً لثلاث عشرة «خربة». فردوس هي «الزرقاء»، ينبض قلبها بدويّ مدافع وصوت رصاص معسكراتها للجيش العربي المصطفويّ الأردنيّ، خربة «خَوْ» وإن كانت قاسية إلا أنّها رضعت من ضِرع أُمّها «الزرقاء» عطفاً رانت به على جباه جنودها السمر عزّاً وفخرا، مدينة «العسكر والعمّال»؛ في طيّاتها شوق لذيذ، يُداعب الطفلة في دواخل «هيفاء» ابنة «الزرقاء»، يُوقدُ فيها النستولوجيا للفردوس.
ظفيرتي أزهار أذار:
سَرَّحَ القلم أنظاره في هاتيك الذكريات الزاخرة، متأمّلاً ما كانت عليه ذاكرة طفلة نضجت مع نضوج الأيّام الباكرة؛ فكان _الأول من أذار ميلادَ سطوعِ شعاعِ جديدٍ في بيت زرقاويّ يملأه الدفءّ، وإن لم يكُ خالياً من ضنك الحياة؛ مثله مثل أيّ بيت أردنيّ آخر، مع تفاوت ألوان عناء السنين، ما زال البيت الزرقاويّ يعجّ بصوت النهوض بالمسؤوليّة الأبويّة تجاه أُسرتها: أبٌ يدير معركة الحياة بكلّ صلابة وانضباط، أستمدّهما من حياته العسكريّة الزاخرة بالعطاء في زمن حروب طاحنة، رجلٌ من كوكبة المحاربين القُدامى، عرف كيف يكتب رسائل حبٍّ بدمه وعَرَقِه لبلاده ولأمّ أولاده، أمّ كانت مثال الصمود والعصاميّة، عرفت كيف تزرع حرثها بحرفيّة في تربة طيّبة؛ يد تُرَبِّت على كتف الزوج عطفاً، وكفّ تمسح على قلوب أبنائها حناناً مشبعاً، وذات اليد ممتدّة بالعطاء؛ لمدينتها الأمّ «الزرقاء». وها، من حيث الطاولة التي كانت تجتمع عليها العائلة صباح مساء؛ كانت الدروس عِبَراً تتلقّاها «هيفاء» وأُختها «غادة» ونور قنديل البيت أخاهما «داوود»، ما زالت الذاكرة تبوح للأيام؛ فثمّة ما يجمع أمّها بالقمح وموسم حصاده، «مثل سنبلة أمّي شقراء، مثل السماء عيناها زرقاوان، لا شيء يعكس لون السماء مثل البحر، وجهها ولون القمح حنطاوان، فلا شيء يشبه القمح مثل وجه أمّي، جديلتي أزهار أذار، أمّي والقمح سِيّان».
أنظر في أناي، والمرآة عيناي:
في سمائها نجمة ما تنفكّ أن تتبعها، تسير حيثما تسير هي، وتقف إذما وقفت، وأينما تجلس تكون؛ ثمّة جاذبيّة علويّة تجذبها إليها، وكلّما نَظَرَتْ إليها ترى «هيفاء» الصغيرة فيها، ومن حيث لا تدري أصبَحَتْ رفيقة وشوشات أسرار الصِبا، وبوصلة ذاك الطموح البعيد الكامن فيها، لم تكُ تنظرُ في المرآة، رغم أنّها تتشابه بلألآتها مع لألأة النجمةِ تلك، ربما اكتفت بأن تكون عينا أمّها مِنظرتها. ذات صباح ذَهَبَتُ إلى مدرستها وهي ممتلئة نشاطاً؛ يعود السرّ في ذلك أنّ ذاكرتها ممتلئة حفظاً لدروسها، فكان يوماً مختلفاً حقّاً، حين قَطَفَ جبينها نجمة حمراء من حقل سماء معلمتها مُكافأة لها، وكم كانت تجترّ الوقت؛ تعود للبيت، لتنظرَ في المرآة، لا لترى نفسها فيها؛ بل لترى النجمة الحمراء المُرصّعَة على جبينها، حينها عَرَفَتْ معنى أن ينظرَ المرء لنجاحاته. توالت الأشهر القمريّة تتبعها الفصول، إلى أنْ مرّ يومٌ عادتْ مشحونة بالغضب من المدرسة؛ فَشَكتْ لأمّها مظلمتها، وما أن أنهت كلامها، حتّى نظرت أمّها إلَيها قائلة: «اذهبي إلى مرآتك، ثم أنظري إلى عينيك فيها جيداً، فإن كنتِ على حقّ لا تلتفتي، وإن كنتِ على خلاف ذلك ما عليكِ إّلّا أن تواجهي نفسك».
حينها عَرَفَتْ أيضا أنّ مرآة المرء عيناه، ولا مفرّ من مواجهة إخفاقاته؛ فكان الدرس الأوّل الذي لم تنساه! وما زالت تنظر في أناها! والمرآة عيناها.
 الطريق وإن طالت:
لا غروّ إن كانت الخطوات واثقة! والخطوة تتلوها الخطوة، طريق الغدِ بطيئة، والأحلام تلوح في عين الحقيقة، وحصاد الرؤى من جوف الصعب تكاد تكون قاب قوسين أو أدنى من الطريق، وها بالمرآة تعكس خطى «هيفاء» للناظرين! وللسابلين طريقا واحدا، وإن كان عسيراً ومتعرّجاً. لا بدّ من اِتّخاذه، والمخاض فيه صعب. من هنا بدأت الرحلة، بعد أن أشترتْ من جيب السهر ودمس الليل ضوء خطواتها الأولى؛ التي أخذت بها إلى أوّل صروح العلم، حيث أمّ الجامعات «الجامعة الأردنيّة»، حاصدة منها بكالوريوس تربية في الدّراسات السكّانيّة، وإذ بها تقتبس من طموحها جذوة مُستدفئة على إحائها نجمتها القريبة البعيدة، مُنيرة بها «هيفاء» طريق رحلتها إلى جامعة (باكنغهام)، حائزة منها شهادة الماجستير في الإدارة التحوّليّة، وما زالت الخُطى تتبع طريقها، والمرآة تعكس طول الطريق بعد أن نالت شهادة قيادة المدارس الدوليّة من معهد تدريب المدراء في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1998. عادت «هيفاء» إلى دارها الأمّ مُشْبَّعَة بالعلم، والإصرار حقيبتها، كلّ خطوة وضعتها على هذا الدرب هي خطوة نحو المستقبل. نحو ما قد يكون جميلاً ومبهراً، أو نحو ما يكون صعباً ومؤلماً. عادت والخُطى تسابقها إلى رسائل الرُّسل، معلّمة ومربيّة أجيال، أمّا نجمتها ما زالت لها بوصلة تهتدي بها السبل، ومرآتها تعكس نجاحاتها برهاناً ودليلا؛ لتصبح المديرة العامّة لمدرستيّ «الأهليّة» و»المطران». والطريق وإن طالت. و»الأمّ مدرسة، إذا أعددتها أعددتّ شعباً طيّب الأعراق».
تُغذّي العقول، لا من أجل أن تطعم البطون»:
بقيت الطريق ممتدًّة أمام «هيفاء» كلوحة فنيّة متشابكة الألوان، تتجلّى فيها معالم الحياة بصعوبة، حتّى تشابكت الأقدار في منتصف الطريق. ما زاغ البصر، لكنّ القلب مال!
زواج مثاليّ من رجل مثاليّ، والرؤى متشابهة في الطموح اللامتناهي. «مُلْهَم النجار» و»هيفاء النجار» وجهان لعملة نادرة واحدة، بيت أُسِّس على الاحترام المتبادل، وأُثِّث بالمودّة والرحمة؛ فكان رياضاً نتاجه أربع زهرات ارتوين قدسيّة العطف والحنان، وقدسيّة معنى أن أكون، وذلك بتحمّل المسؤوليّة، وصنع الذات من الذات. «هيفاء» المعلّمة الفاضلة، الزوج المعطاء، والأمّ الرؤوم، حاضرة كلّها أينما تكون جسداً وذهناً، وقلبها باقٍ يطوف أكناف بيتها وإن غابت عنه، وما أشبه اليوم بالأمس.. بُنيّةٌ تسأل: عن أمّها، طاوية ولم تجد الطعام جاهزاً، احتجّت والشقوة تسابقها بالغضب، وقفت أمام المرآة؛ شاكية لون الغياب فيها: وجه شاحب وبطن راغب! وأذ بالدروس عِبَر حكمة من والدها قائلا لها: دور أمّك إن كانت هنا أو هناك!» تغذيّة العقول لا من أجل إطعام البطون»، نعم تتشابه المرايا بانعكاس الصور فيها، في حين تختلف العيون بقراءة النظرات للذات،
 
أربعون عاماً في شرقيّ العطاء.
 
جالت الخُطى على درب البياض، و»هيفاء» تتبع درب العلوّ المبتهج بالأنوار، فتعاقبت عليها الدروب الفاتحة، ناظرة بعين العارفين على أطلال المجرّة الكونيّة، المبعثرة تارة! والمنتظمة طوراً! إلى أن ملكت رهبة الزمن، ومكّنت المكان قوّة؛ ليكون معنى «المسؤول المناسب في المكان المناسب» تكليفاً وليس تشريفاً. وما القوّة إلا قوّة العطاء الكامن في الفكر، المتّكئ على صلابة القلب. ومن حيث كان سلاحا «هيفاء النجار» عقلها وقلبها معاً؛ برزت « كواحدة من أقوى نساء «الأردن»، وواحدة من بين أقوى 200 امرأة في العالم العربي. ممّا أعطى دورها القوّة في تمكين شقيقتها المرأة على الصعيدين المحليّ والدوليّ، وإثبات حضورها كقوّة فعّالة في المجتمع كون المرأة تعادل العالم بأسره. وها هو العِلم إذما بسط جناحيّه لصاحبته صدق معها؛ فكانت ابنة «الأردن» البارّة محطّ إعجاب الجميع؛ لِما تمتلكه من تقنيات متقدمة، واضعة نُصب عينيها «الأردنّ أولاً»، وخدمة مجتمعها أوّل اهتماماتها؛ من خلال دورها كعضوٍ في مجلس «أمانة عمان» (2007-2010). كما أنّها أولت الشباب اِهتماماً خاصّاً؛ كونهم الخميرة لرغيف الخبز النافع لمجتمعهم، ومستودع الذخيرة لبلادهم «الأردن»، وذلك من خلال دورها عضواً بارزاً في «المجلس الأعلى للشباب» (2006-2008). وما زال درب العطاء فيها سائراَ على محكّ الصّعاب، والإخلاص في العمل شِرعَة المٌحبّ أينما وِجد؛ حيث أقبلت إشراقاتها الفكّريّة، العلميّة والثقافيّة تنير «مجلس التربيّة والتعليم» كعضو متميّزة فيه. وكذلك في «المجلس الاقتصادي والاجتماعي» حتىّ يومنا هذا، وهنا تطفح الثقة من قصعة اليقين، وتماهى المَنزِلُ بالمُنزل، حتّى طاب المُقام بالمُقيم، وأشرق بها المكان المناسب؛ حين اختِيرت «هيفاء النجار» أن تكون «عيناً» للمعالي ثلاث دورات متتاليات في «مجلس الأعيان»؛ قُبيل استلامها حقيبة وزارة الثقافة الأردنيّة 11 تشرين الأوّل 2021. ومضت «هيفاء النجار» تتبع الدرب، والدرب شرقيّ العطاء.
الخروج عن المدار المغلق:
في لحظة انفلات الكلمات من عِقال القلم! تسرّبت المعاني إلى فضاءات التأويل، وتشكّلَت على غير عادة؛ فاردة جناحيها، يحملان معهما رياح الاجتهاد؛ يُظلِّلانِ مِداد نهرٍ يجري أدباً بالفطرة، وما إن أخذ مجراه الصحيح؛ اندفع بقوّة مُغذّياً بحراً واسعاً بالعلم والثقافة والأدب والمعرفة، بحرِ «وزارة الثقافة الأردنية»؛ فكانت «هيفاء النجار» الأديبة بالفطرة وزيرة الثقافة الأردنيّة هي النهر الذي أنعش هذا البحر. حيث استطاعت أن تمدَّه بكلِّ ألوان وأشكال السخاء.
مانحة ملّاحة هذا البحر كلّ الاهتمام: من الشعراء، الأدباء، الكتّاب، المفكّرين، العلماء، الفنّانين، والمبدعين الّذين ساروا على دربهم، وأبحروا في بحرهم، ونهجوا نهجهم من جيل الشباب، جيل المستقبل؛ ذاك ساقٍ يدلو بدلوه، يسقي مُتعطّشا؛ فيرويه أدباً عَذْباً، فيرتوي هو من نشوة أدبه! وأخَرُ بحّارٌ يمخر بسفينته عُرض بحر لغة الضاد؛ مُكتشفاً منارات الأدب! وهذا غطّاس يصطاد من أعماق البحر نفائس الدّرر فكراً وعلماً! بحر اجتمعت عند مراسيه ومرافئه كلّ الملّاحة؛ فانتعشت صروح الثقافة، وعَلَت قبابها، وشُرّعت أبوابها، وتهادت إلى نوافذها أنوار الشمس، ومثلما أَعطَتِ الوزيرة «هيفاء النجار» أخَذَتْ، عَلّمَتْ فَتَعَلّمَتْ، شاركت نجاحات الآخرين من إصدارات فكريّة، تربويّة، مهنيّة، شعريّة وأدبيّة لهم فنَجَحَت هي، وإذ اليقين بالشيء صَنّعَة! حين شَرَّعَ أبوابه للخروج عن المدار المغلق! إلى الفضاءات الأوسع مداراً.
تحت وطأة الاجتهاد:
فالمعرفةُ ليست في ثقلِ الأوراقِ، بل في سموِّ الفهمِ وعمقِ الإدراك، وما أثمنه من قول: «لا يمكن أن أسمح لنفسي أن أبدأ من الصفر». ليكون نهجها قائماً على التراكم المعرفيّ والابتكار، ولا للاحتكار! انطلقت من روح الجماعة الواحدة؛ فكان التشابك الإيجابي مع كلّ مؤسّسات الدولة الرسميّة والخاصّة، لينبت عنه مصلحة الوطن والمواطن. وكان السعي جادّاً، والعطاء سخيّاً، والرؤى بعيدة المدى! من خلال رفع سقف حرّيّة الإعلام، وزرع الفكر الثاقب الحقّ في عقول أبنائه، كما أصبح للتراث ومفرداته أهميّة حضورٍ في حضرة الموقف عند وزيرة الثقافة «هيفاء النجار»، والقيام على إحيائه من جديد بالعودة إلى قِيَمِه الأصيلة والعمل بها؛ من خلال مشاريع التراث غير الماديّ، إضافةً إلى مشروع مكتبة الأسرة، ومدن الثقافة الأردنيّة، وغيرها، وسار السعي بِلا حدٍّ؛ بالتعامل مع المنظمات الثقافيّة العالميّة؛ من أجل التطوير المستمر للسياسات الثقافيّة التي يجب أن تظلّ مواكبةً وفاعلةً على الصعيدين الدوليّ والعالميّ؛ لِما يحظى به الأردنّ من مراكز القوى الأساسيُة: العلم والفكر وصناعتهما، الحرّيّة الفكريّة، الإبداع الخلّاق للفرد، والسمعة الثقافيّة العاليّة، نعم! أُعطِيت فأعطَتْ! مُنِحَتْ فزادت، ولكلِّ مجتهد نصيب، وها، بها إذ تُسَلِّم حقيبتها الوزاريّة حافلة بالعطاء مُحمّلَة بالسخاء، وذلك في بدايات شتاء عام 2024. مكمّلة مسيرتها الوطنيّة من تحت قبّة «مجلس الأمّة» الأردنيّ، لتكون عيناً من أعيانه، وعينا على الوطن. في دورته الثلاثين عام 2025. هكذا كان مسار الدكتورة «هيفاء النجار» الخروج من المدار المغلق، إلى الفضاءات الأوسع مداراً.
رسائل من صومعة الفقد:
لا عجب! حين تتهدّل الجفون على العيون، نعم، غواية الزمن السطوة بالرسم على الوجوه، تتسلل عقاربه إليها بخفّة ريشة الفنان المتمرّس، تارة ترسم ندوباً عليها، إذما استحلست عندها! وطوراً تحوّلت إلى أداة حادّة تتجدّد غواية الزمن فيها؛ حافرة خطوطا ذهاباً وإياباً عليها، وحين، حين! اجتمع الزمن بالحزن؛ معلنين سفورهما بِلا هوادة منهما على ملامح «هيفاء»، الأوّل مُولعاً بسطوته! والآخر مُستعِراً بقسوته! والفراق وحده كان سيد الموقف، وها، الأديبة «هيفاء» تبوح عتباً من فرط الشوق. عزِيزَيَّ: أبي وأمي.» كلّ مكان،! وفي اللامكان! أُحبّكَما! ولكنّي عاتبة عليكما، ومنكما! الأيام تسير كالعادة! والفراغ يملأ قلبي المكسور! الأيام تسير وأنا المكسورة! ولكنّي، أصلّي، وأُصلّي، وأُصلّي»! ما زال قلب «هيفاء» يرشح حزناً مُعتّقاً، لم يفتأ أن ينفكّ عنه! الجرح العتيق لم يبرأ، وضمّادة التناسي تندف ألماً تَجدّد عهده فيها؛ وما أصعبه من فراق! والغروب يحمل نعش الغِياب، شفقه يقطر لوعة الفقد على أخيها «داوود» قنديل ذاك البيت العتيق انطفأ! مُخْلِفاً موعده مع المساء على غير عادة! والليل ينصت لرسائل «هيفاء» من وراء حجاب؛ شقيقة الروح تبوح له: عزيزي «داوود»،» كنتَ الأخ الذي يُشَدُّ به العضد، للزوج المُحبّ داعماً، وأباً رؤوفاً معطاءً، وصديقاً صدوقاً صادقاً! استعجلت الرحيل! شقيقي، شقيق الروح! وها، بنجمتها رفيقة وشوشاتها، تنقل عن «هيفاء» رسالة أخرى؛ تهمس: عزيزي «داوود»، «زارني النور هذه الليلة، وأمسكَ وجنتي وغاب! رحلَ إلى الآخر البعيد! وجنَّتي معه، وأنا، كما أنا بِلا وجود! صوتي ليس لي! ومعه لا غناء! ولا عود يعود! عزيزي «داوود»، حين نظرتُ من حولي، وفي القلب غصّة أدركتُ « أنّ قلبكَ الأخضر، لم يتحمّل ما يجري في عالمنا؛ من قتل وتدمير! فآثر التوقف عن الخفقان؛ ليرحلَ إلى عالم رَحِب من المحبّة والنور! لا تسيطر عليه قوَى الشرّ والظلام..!
فليرحمك الله، ولتهدأ روحكَ بجوار مَن تُحبّ! فسلام عليكَّ، سلام عليّ، وعلى أرض الله السلام. أختك «هيفاء حجّار النّجّار».
بعيداً عن لحن السرد أغرّد:
أمواج الفكر تتلاطم على شاطئ النصّ، تريد مدّاً من بعده بحر من السطور لا حدّ له، هنا، حيث الكلمات تتحرّر من قيودها، والمعاني تتجاوز حدودها؛ يصبح النصّ مرآة للذات، للفكر، وللوجود، ويصبح القلم أداة لاكتشاف عوالمها، وإعادة تشكيل العالم الذي أجهدته الحدود المرسومة في أيّ نصّ مكتوب! هو شعور فطريٌّ يكمن في دواخل الأديب الحقّ، شعوره الذي ينبت من أرض نصّه؛ إذا ما أطلق له العَنان، هكذا هي الأديبة بالفطرة «هيفاء النجار» خروجها عن أيّ نصّ له علاقة بشخصيّتها التربويّة. دوما تتحسّس نقاط الضعف الغافلة عنها نقاط القوّة. قوّة حضورها تكمن في قوّة فكرها، كذلك قوّة الخِطاب لديها كامناً وراء سرّ الإنصات لِما يُطرح من نقاش وحوار، ثمّ الإنصات لصوت شعورها العقلاني والوجداني معاً، ولم تكتفِ يوما بترك نصًّ أو ملفّ مُعلّقًين على مكتبها الوزاريّ؛ بل تهتم بكلّ التفاصيل، حاملة معها حقيبة عملها إلى بيتها، والبريد إن غابت يحضر إليها، مُلتفتة إليه مُولية إيّاه عناية خاصّة، وهنا تتحدّث التجربة، وهي خير دليل، بعيداً عن سِرد النصّ تُغرّد،
تجربة الذات:
من حيث كان خروج الأديبة «هيفاء النجار» عن النصّ، كان حضور الذات، وتجربتها تُغَرّد عنها: في حضرة الموقف حَسَمَتِ الذات قرارها، ومَضَتْ، وجهتها وزارة الثقافة الأردنيّة، لم تجد الذات باباً مغلقاً تطرقه، فالأبواب كانت كلّها مُشرعة، عرَّفت الذات بنفسها، وقدّمَت كتابها الذي جلبته معها إهداء لوزارة الثقافة، كَتَبَتْ على صفحته الأولى: حَضَرتُ إلى الوجهة الأولى، وجهة الأدباء والكُتّاب والشعراء؛ ولم أجد كريمة البيت، معالي وزيرة الثقافة الأردنيّة. الدكتورة «هيفاء النجار»، إليكِ أُهدي كتابي الأوّل «شذرات همسات أنفاسي» مع خالص الودّ والاحترام، لم يمضِ يوم وبعض اليوم؛ حتّى جاء للذات اتّصالاّ هاتفيّاً: مرحباً، نعم، صوت جميل بقوّة إحساس صاحبته يقول: «يا شذرات! منذ زمنٍ وأنا أنتظر هذا الكتاب»، أنا «هيفاء النجار». ابتَسَمَتِ الذات! وقَفَتْ! مَشَتْ! ثمّ جَلَسَتْ مندهشة! شكراً سيّدتي، ها أنا ذا قد فزت، ونلتُ تكريمي باكراً من حيث نال كتابي الفوز الّذي بين يديك الآن، شكراً بحجم السماء، معاليكِ. نعم، وبحجم كلمات كتابكِ، شكراً عزيزتي، انتهى الاتصال. نعم! هكذا هي «هيفاء النجار» ديدنها العطاء والإخلاص لبلدها «الأردنّ» والحبّ لأهلها، باقة معطاءة إلى يومنا هذا، باقة شرقيّة العطاء.
أمّا أنا، ما زالت خلجاتي تسبح في هذا الفضاء المفتوح! أجدُ نفسي في صراع مع النصّ، والذات واللّغة، ولكن في هذا الصراع، تكمن الحياة، والحركة، والإبداع في حضرة الموقف مع «الأعلام والأقلام»، من بين جناحيّ خلجات سابحة.