الغد
يبدو سؤال العلاقة بين الدين والفلسفة وكأنه عن صراع أبدي، الوحي في جهة، والعقل في جهة، الإيمان في مواجهة السؤال، غير أن هذا التصوير على ما فيه من شيوع، هو في الحقيقة نتاج تاريخ من سوء الفهم، أكثر منه تعبيراً عن طبيعة العلاقة الحقيقة بينهما، فالدين جوهره ليس إلغاء العقل، بل توجيه له، والفلسفة في أصلها ليست تمرداً على الغيب، بل دهشة أمام الوجود، حين يلتقي عقل صادق، بوحي صحيح، لا يقع الصدام، بل يولد الفهم العميق.
الفلسفة في معناها الأصيل هي امتناع عن التسليم قبل الفهم، هي أن يقف الإنسان أمام العالم، ويسأل: لماذا هناك شيء بدل لا شيء؟ لماذا هذا الوجود؟ وما أصل الخير والشر؟ ما معنى أن أكون إنساناً؟ هذه الأسئلة ليست خروجاً من الإيمان، بل هي أول طريقه، لأن الإيمان الذي لم يمر عبر العقل يظل هشاً، والإيمان الذي لا يحتمل السؤال يتحول إلى تقليد أعمى، ولهذا السبب كانت أعظم التجارب الإيمانية في التاريخ مرت عبر الشك المنهجي كما فعل الغزالي حين شك لم يكن يبحث عن الفراغ، بل عن يقين لا تهزه الشبهات.
لكن ليس كل شك فلسفة، فالشك الذي يبحث عن الحقيقة هو وقود العقل، أما الشك الذي يتخذ من نفسه غاية فهو مرض فكري، فالفلسفة الحقة ليست الوقوف عند التساؤل، بل السير به نحو معنى أعمق، حتى الفلاسفة الذين ألحدوا في التاريخ -وهم قليل بالنسبة للغالبية المؤمنة منهم- لم يلحدوا لأجل الفلسفة، بل لأن الإلحاد سابق في نفوسهم، وأرادوا استخدام الفلسفة لإثباته، لذا ليست كل فلسفة جديرة بالاحترام، وإنما تلك التي تقف مع الحقيقة اينما ظهرت، لا تلك التي تعلن منذ البداية أنه لا حقيقة أصلاً.
في هذا السياق تظهر فكرة شديدة العمق عبر عنها الفيلسوف الكبير د.عزمي طه السيد، حين قال لي:» إن العلاقة بين الفلسفة والدين هي علاقة عكسية» يقصد: كلما فهم الدين فهماً صحيحاً، وكان حياً في المجتمع يحل مشكلاته، وموجهاً للأخلاق، قلّت الحاجة إلى الفلسفة، وكلما فهم الدين فهماً مغلقاً سلطوياً احتكارياً للحقيقة، تراجعت روحه، وتقدمت الفلسفة، فليست الفلسفة هنا خصماً للدين، بل تظهر حين يغيب الدين عن وظيفته الوجودية.
والتاريخ يؤكد هذه الفكرة بوضوح، ففي اليونان القديمة، قبل سقراط وأفلاطون، كانت الأساطير الوثنية تحكم الوعي الجمعي، آلهة تسرق زوجات بعضها، تخدع، تتآمر، تحسد، تنتقم، لم يعد الإله مصدراً للقيمة، بل جزء من الفوضى، هنا تدخلت الفلسفة لتعيد الاعتبار لمعنى الإله نفسه، سقراط هنا لم يحارب الدين، بل حارب تشويه مفهوم الإله، ليقول: لا يمكن أن يكون أصل الوجود فاقداً للأخلاق والقيم.
وفي العصور الوسطى حين تحولت الكنيسة إلى سلطة سياسية تبيع صكوك الغفران، وتحتكر الجنة، وتقمع التفكير، ضاع الدين وضاعت معه الحقيقة، فظهرت الفلسفة مرة أخرى، لا بوصفها حرباً على الإيمان، بل بوصفها ثورة على احتكاره، ديكارت حين قال:» أنا أفكر إذن أنا موجود» كان يريد أن يطيح بالوساطة القسرية بين الإنسان والإله، وكانط حين أعاد بناء الأخلاق على أساس العقل ومفهوم» الواجب لذات الواجب» لم يقتل القيم، بل حاول إنقاذها من سلطة الكنسية حينها.
واليوم في عصرنا يتكرر المشهد بصورة أكثر مأساوية، حين تظهر جماعات تقتل وتفجر «باسم الله» وتحول الدين إلى آلة موت، ويختطف الوحي ليبرر الدم، ويصور الإله كعدو للحياة، فإن الفلسفة لا تتدخل ضد الدين، بل ضد من شوهوه، تتدخل لتقول إن الإله الذي خلق الإنسان لا يمكن أن يكون خصماً لكرامته، وإن الوحي الذي أنزل ليهدي لا يمكن أن يكون ذريعة للإبادة، الفلسفة هنا ليست تمرداً، بل محاولة لاستعادة المعنى الذي سرق باسم المقدس.
ولهذا فالسؤال الحقيقي ليس: هل الدين والفلسفة يتصارعان؟ بل : أي دين؟ وأي فلسفة؟ دين العدل والرحمة والحكمة لا يخاف العقل، بل يستدعيه، وفلسفة البحث عن الحقيقة لا تعادي الوحي، بل تفرح به، الصدام يحدث فقط حين يتحول الدين إلى سلطة قسرية بلا فهم ولا روح، أو حين تتحول الفلسفة إلى كبرياء بلا معنى، وتمرداً بلا هدف، نحتاج فقط أن نعيد كلا منهما إلى مكانه الصحيح، حينها يلتقيان لخدمة الحقيقة.