عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Oct-2019

أصهل مثل حصان* رمزي الغزوي
الدستور -
كان الفلاحون يسمون أول المطر بشتوة المساطيح. والمسطاح هي المنطقة المخصصة لنشر العنب والتين لتجفيفه تحت عين الشمس. وحين كانت تجود السماء بباكورة نعمها على حين غرة؛ يهبوا إلى ذلك الزبيب والقطين، ويجمعونه بسرعة كبيرة، خوف أن يتلفه المطر. ولكنهم بهذه الشتوة ما زالوا يتوسمون خيراً بموسم طيب قريب.
فدعونا أيضاً نُسمِّي الأشياء بأحب أسمائها إلينا. فالغيوم الماخرة عباب هذه السماء الدائخة بالغبار والأكياس البلاستيكية، ليست إلا رقصة نشوة، أو لمة عرسٍ آن أوانه. ودعونا نقول عن ذلك المطر الأول الذي دهمنا بغتة، بأنه قبلة بكر بين أرض عطشى وسماء ظلت تتلوع شوقاً منذ حنين. هو المطر الأول أيتها المساءات الموشحة بالبركة، ذلك العناق المحموم الموشى بلهفة الغائبين.
لربما لم يفتكم أن تتنفسوا هواء متواشجاً غباراً وماءً عقب اللقاء الأول السريع؟!، فمن منا لم تدوخه تلك البهجة العارمة، إذ تجللنا رائحة المطر الأول؟!، فكم تمنينا ذات طفولة وخريف، أن تبزغ لنا أجنحة النشوة؛ لنطير ونعصر قطن السماء الملبود ونمص ماءه المكنوز؟!، فكم نتوق للمطر ورائحة اللقاء بعد صيف ساطنا بقيظه ولهيبه.
نتوق لهذا للمطر المباغت كضيف مساء مرغوب. ونتشوق بأكثر من لهفة للمطر الأول الخجول على بوابات تشرين، ونهيم جنوناً برائحة التراب العابقة في الأرجاء والشرفات وحمى الكروم وطلة البساتين. نتوق لفوح (الطيون) الممطور على غفلة من هذا الغيم الرشيق الذي كان يتيه في خاصرة السماء منذ أمنيتين، نحنُّ إلى صحو سريع على ضربات أصابعه المدغدغة شبابيك البيوت. ونتلهف لصعقة برق في أفق قريب: فأهلاً بالمطر العاشق، لتنسج خيوطه بعضاً من مسراتنا الهاربة.
كنت أحتاج إليه، وأنتظره على مفارق الوقت، وبوابات الخريف، كنت أحتاجه ليسري في عروقي المتكلسة بالخمول والمتاعب والروتين المملول، كنت أحتاجه ليطري ما تيبس من أحلامي المركومة تحت غباري التعيس. فليست وحدها أشجار الزيتون تحتاجك أيها المطر السخي، لتغسل عن خضارها النضير غبار الطريق وهباب السيارات، وليست وحدها توتتنا العريقة في باحة بيتنا، تحتاج أصابعك الناعمة لتنفض عنها ما تبقى من أوراقها الصفراء الآيلة للموت، فتتعرى تماماً لشتاء حميم، حالمة بربيع سيأتي محملاً بالثمر الباذخ والأريج.
أحتاجك أيها الصديق؛ أحتاجك لأعود طفلاً شغوفاً بالماء مثل حوت صغير، لا يريد أن يجنح لشواطئ الجفاف، أحتاج خيوطك كي أنسج كنزة لحبيبتي، وأتوق أن أصهل ملء مداي، وأتحمحم مثل حصان رامح إذا ما هزت الرعد سكون الكائنات: أهلاً بمطر الحنين الموشى بطعم القبلة الأولى!.