الغد
ما يُسمّى “إمارة الخليل” -والخليل وأهلها منها براءة- ليست مبادرة محلية لعلاج أزمة سياسية، بل إنها فكرة خبيثة تُعيد إحياء أقدم ما في المشروع الاستعماري الصهيوني وهو تفتيت الشعب الفلسطيني وتدمير هويته النضالية، تحت شعارات مسمومة مثل عشائرية المجتمع، أو الوعد بالازدهار الاقتصادي، والأمن الذاتي.
هذه “الإمارة” ليست من وحي الحاجة إلى الحكم الرشيد أو النهضة المحلية، بل هي من وحي خطة خبيثة إسرائيلية اسمها “مشروع مردخاي كيدار”، وكيدار هذا أكاديمي وباحث صهيوني في الشؤون العربية وقد كان اقترح عام 2012 تقسيم الضفة الغربية وغزة إلى “إمارات عشائرية”، تحكمها كل عائلة أو قبيلة كبرى، على غرار إمارات الخليج. والهدف واضح: إلغاء أي مشروع وطني فلسطيني، وحرمان الفلسطينيين من حقهم في دولة موحدة ذات سيادة.
تُعرض هذه “الإمارات” كحل خبيث، لتعطى حكمًا ذاتيًا محدودًا مقابل الولاء لإسرائيل، والاعتراف بيهودية الدولة، وأهم من كل هذا، إدانة كل أشكال المقاومة وترك الأرض، والموارد، والمجال السيادي للمحتل والمستوطنين.
منذ عقود، تعاني منطقتنا هذه من هشاشة في تقبل التنوع الديني والإثني، فالعشيرة أقوى من الوطن، والطائفة أقرب من الدولة.
في المدن الفلسطينية عامة، تُستخدم العشائرية كأداة للانفصال، كما استُخدمت الطائفية في العراق وسورية، والقبلية في ليبيا واليمن.
لماذا؟ لأننا لم نبنِ أوطانًا تتسع للجميع، بل بقينا أسرى شعارات كبرى دون أن نؤسس لعقد اجتماعي حقيقي.
إن القبول المنضبط بتنوع داخل وحدة سياسية مرنة، خيرُ ألف مرة من الإنكار والعناد الذي يولّد الانفجار.
إنكار التعدد الإثني والديني لا يحمي الدولة، بل يفتح باب الخراب باسم الحفاظ على “وهم الاستقرار”.
وهذا ما يحصل في فلسطين، فالاستمرار في الانقسام والتقسيم، وتراجع المشروع الحضاري للتحرير، يساعد المستعمر على انتاج إمارات للتآمر على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
تُراهن إسرائيل منذ دهرٍ على هذا التمزق، فمشروع كيدار ليس وثيقة ميتة في الأرشيف، بل هو رؤية تُنفَّذ خطوة فخطوة، و“إمارة الخليل” نموذجها الأولي، وربما تتليها “إمارة نابلس”، وثم عزلة غزة، وثم انهيار أي أمل لمشروع فلسطيني جامع.
والأسوأ أن هذا يحدث تحت عباءة “السلام”، وبدعم غير معلن من قوى عربية تخشى المشروع الوطني الفلسطيني أكثر من خشيتها من إسرائيل ذاتها.
إمارة الخبيث” ليست مجرد وثيقة أو توقيع شيخ على ورقة.
هي نية مدروسة لخلق كانتونات فلسطينية بلا عمق، بلا سيادة، بلا جيش، بلا طموح، إنها ذريعةُ الخُذلان.
وحين تُصبح الخليل كانتونًا، لا يعود صعبًا على إسرائيل أن تبتلع الغور، وأن تعلن رسمياً أنتهاء اجراءاتها بضم الضفة.
والبقية؟ بانتظار إمارات مماثلة تعتاش على التنسيق الأمني، وتصاريح العمل، و”الازدهار مقابل الطاعة”.
إن أخطر ما يمكن أن نواجهه اليوم هو إعادة تعريف النكبة، لا كاحتلال خارجي فقط، بل كاختراق داخلي.
وما هذه الإمارة إلا رأس سهم صغير يحمل سمًّا قد يتسلل إلى جسد الأمة.
من لا يرى في “إمارة الخليل” مشروع تمزيق، فليراجع تاريخ سقوط بيروت، وانفجارات الموصل، وتمزق طرابلس، ودمار عدن، وضياع البوصلة.
إن لم نستوعب درس التعدد، ونبنِ دولة يسع صدرها الجميع، فإن الخبيث سيعود كل مرة، بوجه مختلف، وشعار جديد لامع...
فمرة إمارة، ومرة دولة وهمية، ومرة “سلام اقتصادي”.
لكن ما في جوهر ما يحدث ليس سلام الشعوب، بل سلام القبور؛ سلامُ دول نفت أبناءها، لا سلامُ دول حية، بل دول منفية عن ذاتها جنابك.