عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Mar-2019

الإعلام المصري.. بين التطبيل ومتلازمة ستوكهولم! - حمزة مثلوثي
 
الجزيرة 
في أمسية يوم بارد من سنة 1973، مضت سيارة صدئة في إحدى الطرق الرئيسية لمدينة ستوكهولم السويدية، وقد عقد ركابها العزم على اقتحام بنك "كريديبانكن" ونهب خيرات خزنته الموصدة، لكنهم لم يكونوا على دراية بما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف، وبأن من لم يهب السلطات في سبيل تحقيق ربح سريع سيَرقُنُ إحدى أبرز السرقات البارزة في صفحات تاريخنا الحديث.
 
دخل اللصوص المدججون بالسلاح إلى البنك السويدي واتخذوا من رهائنهم ورقة مساومة مع الشرطة الرابضة قبالة البوابة الموصدة، لتستمر المفاوضات لمدة ستة أيام متتالية قبل أن تُسهم محاولات قوات الأمن البليدة في إلقاء القبض على اللصوص. وخلافًا للعرف السائد، أظهر الرهائن انسجاما وتعاطفا منقطعَي النظير مع اللصوص، ناهيك عن الدفاع عنهم أثناء الإدلاء بشهاداتهم المثيرة للجدل، وهو ما أثار فضول المستشار النفسي للشرطة السويدية حينئذ "نيلز بيجيرو"، ليعمل على فحص حالة تعاطف الضحية مع جلادها، ويُطلقَ عليها اسم "متلازمة ستوكهولم".
 
ما قد يبدو مستهجنًا وغير قابل للتصديق يستند في الواقع إلى جملة من التحليلات النفسية والوقائع التي يمكن تبين حضور بعضها في عالمنا العربي اليوم. وانطلاقًا من عبارة "إن لم تقاوم الاغتصاب استمتع به"، يبدو أن بعض الوجوه الإعلامية المصرية عاقدة العزم على تلويث سمعتها وسمعة الشعب "الغلبان الذي لا حول له ولا قوة" بالدفاع عن جلادها عبد الفتاح السيسي. وإن المشاهد العربي لمتعجب من التفاهة المفرطة والرأي السقيم الذي يكتسي كل ما تتلفظ به "نخب" الإعلام المصري المتحامل بشكل غريب ضد كل من تسوّل له نفسه التعبير عما يخالجه إزاء الوضع المقيت والمستقبل القاتم الذي ينتظرهم في مصر.
 
توظف الشاشة المصرية كامل طاقاتها في سبيل نسج قصص تمجّد من استأثر بحكم بلادهم عن طريق انقلاب عسكري، فالإعلام المصري ينسج قصصا عن السيسي حتى إن خالفت بديهيات الواقع وقواعد الفيزياء والفضاء
إذا كنتَ غير ملم بالأسس الثلاث للإعلام المصري، ينبغي أن تعلم أن "بلحة" لفظ محرم، وبأن السيسي بريء من كل خورٍ وعطل ومصيبة سواء ثبتت إدانته أو لم تثبت، وبأن نعاج القنوات المصرية مصابة بمتلازمة ستوكهولم وتستلذ بصولات وجولات راعيها عبد الفتاح. لا يسعني تفسير سادية السيسي إلا بمازوشية الوجوه الإعلامية البارزة الموالية له، وفي حين يمكن تلخيص السادية بالتلذذ بتعذيب الغير والإساءة له، تكون المازوشية الاستمتاع بهذا التعذيب والخضوع له. وفور اكتمال أركان الرواية المصرية الرومنسية، يمكننا تسميتها "Fifty Shades of Bala7a".
 
وصل الحال ببعض الإعلاميين المصريين بتأليه السيسي رئيسًا وشخصًا وقائدا عسكريًا، كما أن المازوشية تغلغلت بين ربوع المؤسسات الدينية عن طيب خاطر رموزها، ليعمد رئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر سعد الدين الهلالي إلى تشبيه السيسي بنبي الله هارون، وبأنه بُعث إلى الأرض ابتغاء لمرضاة الله و"رأفة" بالعباد. ولعل أبرز مظاهر هذه "الرأفة" إعدام الشباب المصري وفق أهواء حاكمهم المبجل وموت آخرين بسبب انشغال أمين مالهم بجلب مليار جنيه من البنك بعد أن كان قد أودع فيه مبلغ 10 مليار جنيه الذي كان ليحول دون كارثة محطة قطار مصر.
 
لعل معظمنا بات مطلعا على معاناة حاكم مصر العزيز وبأنه "لا ينام سوى ساعتين في اليوم" بسبب انشغاله في التدبير والتفكير في السبل المثلى للنهوض بمصر. ويذهب بعض الإعلاميين المصابين بمتلازمة ستوكهولم إلى القول أن السيسي يقضي ليله بين البكاء والنحيب خوفا على مصر من المتربصين والمتحاملين عليها من الداخل والخارج. من المرجح أن سيسي مصر قد بلل صلعته وعنفقته معا بسبب بكاءه، فهو كثير التقلب في الفراش بسبب تفكيره في عاصمته الإدارية الجديدة وفي المجندين الذين سيصطحبهم لأداء الصلوات والمراسم الدينية في جامع الفتّاح العليم مثلا، وفيما إذا كان الشعب المصري سيتفطن إلى "الترنجات" المتشابهة للمصلين. 
 
ما يثير السخرية حقًّا هو استماتة الوجوه الإعلامية البارزة في الدفاع عن جلادها كلما أتيحت لها الفرصة لذلك أو لم تفعل، فلا تستغرب تسييس قضية محمد صلاح بهدف بيان حلاوة روح السيسي وقدرته العجيبة على تنطيط الكرة. ولا تزال الآلة الإعلامية تبهرنا بقدرتها على دق الطبول وإطلاق مزامير المدح والتمجيد لجلادها، ففي حين ذهب البعض إلى القول بأنه هزم الأسطول السادس الأمريكي، قال الإعلامي جابر القرموطي مقدم برنامج "مانشيت" على شاشة قناة "أون تي في" أن السيسي شارك في ماراثون الدراجات الهوائية بصفته أحد قادة العالم مثل ساركوزي وأوباما وغيرهم الكثير.
 
الطبول ليست حكرا على مقدمي البرامج الحوارية فقط، بل إن الفنانين وأولي صفحات الإنستغرام المليونية باتوا قادرين على دقها ببراعة أيضًا، حيث أشارت الممثلة المصرية غادة عبد الرازق إلى زيارة رئيسها المفضل إلى ضحية التحرش في ميدان التحرير وقالت "يا بختها". يا لسوء حظ هذه المرأة التي تعرضت لتحرش وحشي وصورها الكثيرون عارية في حادثة يندى لها الجبين، لكنها باتت محظوظة فقط لأن رئيس البلاد خصص سويعات من يومه لزيارتها في المستشفى. ويطرح مثل هذا التصريح تساؤلا حول مدى استفحال متلازمة ستوكهولم في جسد الإعلام المصري.
 
علاوة على ذلك، توظف الشاشة المصرية كامل طاقاتها في سبيل نسج قصص تمجّد من استأثر بحكم بلادهم عن طريق انقلاب عسكري، فالإعلام المصري ينسج قصصا عن السيسي حتى إن خالفت بديهيات الواقع وقواعد الفيزياء والفضاء. ولا يمكن لأحد أن يصدق مقولة السيسي "مصر حتبقى قد الدنيا"، فالكون فسيح ومتمدد باستمرار، لكن الأمر ليس بسيّان لدى مؤيدي عجلة الإعلام المصري، فهم يصدقون هذه المقولة ويكررونها في أكثر من مناسبة، ولن أبالغ إن قلت إنهم يؤمنون بها أيضا، ففي الإيمان بقدرات السيسي خلل يتجاوز المنطق والتفكير السوي.
 
ولأن قائد مصر لا يتورع عن الذود عن منصبه والدفاع بشراسة أمام منتقديه، عمد في أكثر من مناسبة إلى الإساءة إلى إعلام بلاده نظير انتقادات ضمنية وجهها له بعض الأشراف. ولأن المصاب بمتلازمة ستوكهولم يتخذ من المعاملة السيئة جسرا يربطه بجلّاده ويمرر له من خلاله مشاعر الود ويلتمس من خلالها رضاه، لا يجد الإعلاميون المصريون بدا من رفع درجة اجتهادهم ورفع صوت الطبول لتصدح أصواتهم في المنابر الإعلامية غير آبهة بانتقادات الصحف والقنوات الغربية أو صافرات استهجان الشعب المصري الخافتة.
 
إن الغد لناظره لقريب، لكن الخوف كل الخوف من تأصل ثقافة دق الطبول في الإعلام المصري وتجذرها في ما ترقنه أقلام نخبها، أو في تأخر الغد حتى سنة 2034. ولعل مصر تُمنى بنيلز بيجيرو الخاص بها ليقر بأن ممارسات وجوهها الإعلامية كانت نتاج "متلازمة القاهرة". وبالنسبة لكل من يتهيب الانتظار 15 سنة أخرى، ربما عليه قياس الوقت بواسطة وحدة "الفيمتو سيسي" لعل انتظاره يمسي يسيرًا.