الغد-عزيزة علي
تواجه اللغة العربية تحديات عديدة، في سياق التحولات الرقمية المعاصرة، ولا سيما في فضاءات التواصل والتراسل الاجتماعي، بوصفها أبرز مظاهر التغير في أنماط الاستعمال اللغوي. هذا ما تناوله الناقد والشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي، في محاضرة جاءت بعنوان: "اللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي".
وناقش الكوفحي في المحاضرة التي أقيمت أول من أمس، في مقر رابطة الكتاب الأردنيين، الخلفيات الفكرية والتاريخية للدعوات إلى إحلال العامية محل الفصحى، والكشف عن أبعادها الثقافية والحضارية، في مقابل إبراز قدرة اللغة العربية الفصحى على التكيف مع مستجدات العصر الرقمي، واستمرار فاعليتها في مجالات المعرفة والتعليم والإعلام.
وتنطلق المحاضرة التي نظمت بدعوة من جمعية الثقافة الفلسفية، وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، من رؤية تؤكد أن التطور التكنولوجي لا يشكل تهديدًا جوهريًا للغة العربية، بل يتيح لها آفاقًا جديدة للانتشار والتجدد، مع الحفاظ على مقوماتها البنيوية ووظيفتها الحضارية.
وجاءت المحاضرة التي أدارها الأستاذ الدكتور أحمد ماضي، بهدف تحليل طبيعة الخطاب اللغوي المتداول في هذه الوسائط، من خلال التمييز بين المستويين الشفهي التداولي والكتابي الفصيح، وبيان الخصائص الوظيفية لكل منهما.
وتحدث الدكتور إبراهيم الكوفحي عن واقع اللغة العربية في مواقع التواصل والتراسل الاجتماعي، قائلا "إن هذا المستوى من الخطاب يشبه إلى حد كبير الخطاب الشفهي العامي الذي يجري بين الناس على اختلاف ثقافاتهم وإمكاناتهم اللغوية، بقصد التفاهم وقضاء الحاجات والمآرب اليومية، وإن كان يتخذ شكلا كتابيا. وهو ما يعني بقاء هذا الخطاب في نطاق اللغة التداولية المحكية، حيث لا يعنى عادة بتجويدها، كما لا يحتفظ بها أو يلتفت إليها بعد أداء أغراضها في مواقف التواصل والتفاهم اليومي".
وأضاف الكوفحي أن هذا النوع من اللغة المكتوبة لا يلحق ضرراً باللغة العربية، خلافا لما يتوهمه الكثير من الغيورين عليها، بل هو أمر بديهي في كل لغة إنسانية؛ إذ تقوم على مستويين: مستوى شفهي يُراعى فيه التيسير والسرعة في التواصل والتفاهم، من دون جهد يبذل في تجويده أو تجميله، ومستوى كتابي فصيح، على النقيض من ذلك، يكتب بعناية ودة، ويعاد النظر فيه بالتنقيح والتصحيح والتهذيب، بغية إخراجه في أبهى صورة وأجملها، ليعبر عن معطيات العقل من علم وفكر، وعن معطيات القلب من عاطفة ومشاعر.
وأشار الكوفحي، إلى الفرق بين هذا النوع من الكتابة العامية في مواقع التواصل والتراسل الاجتماعي، وبين ما كان يدعو إليه المستشرقون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من اعتماد العامية واللهجات المحكية في ميادين كتابة العلوم والآداب وسائر أشكال التعبير والخطاب، بغية تفريق الأمة العربية وإحداث القطيعة بين أفرادها، وقطع صلتها بموروثها الثقافي والحضاري، ولا سيما القطيعة مع أسباب مجدها التليد وإمكانية نهوضها من جديد، من خلال إبعاد الأجيال الحاضرة واللاحقة عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وكانت تلك دعوة خطيرة بلا شك، لولا يقظة أبناء الأمة العربية وغيرتهم على دينهم وهويتهم ومجدهم وتراثهم العظيم في شتى مناحي المعرفة والعلوم، إذ لا تصنف تلك الدعوة إلا في إطار الدعوات الخبيثة الهدّامة، التي لا تنطلي حججها على طفل عربي، فضلا عن عالم أو متخصص.
وأشار الكوفحي، إلى أن الشاعر حافظ إبراهيم، أبطل هذه الدعوة بقصيدة واحدة، فنقض فيها حججهم الواهية، وكشف عن خبيث نوايا المستشرقين الكامنة وراءها، إذ كانت أنشطتهم في الغالب تصب في إطار ما أوفدوا وأعدوا من أجله، بوصفهم طلائعا للجيوش الاستعمارية الغازية.
واختتمت المحاضرة بما بثه الأستاذ الدكتور إبراهيم الكوفحي، من تفاؤل وأمل بشأن واقع اللغة العربية الفصحى اليوم، مؤكداً أنها ما تزال، وفي كل مرحلة، تحتل مساحات جديدة وواسعة؛ فهي لغة التأليف والبحث في العلوم والآداب، ولغة التدريس في الجامعات، ولغة الحوار في الندوات، ولغة الأخبار في المحطات التلفزيونية والفضائية، بل هي أيضاً لغة المثقفين حتى في مجال الخطاب الشفهي.
وخلص المحاضر، إلى أن أي تطور تكنولوجي أو رقمي، وفي أوعية التواصل والتراسل، لا يمكن إلا أن يساهم في الانتشار العالمي الواسع للغة العربية الفصحى وترسيخ حضورها الدائم، كما يدل على ذلك تاريخ تطور هذه الوسائط والقنوات، ضارباً المثل بما ساهمت فيه في حفظ القرآن الكريم كتابةً في السطور، وتلاوةً مسموعة، ليظل القرآن الكريم، ومعه لغته العربية الفصحى، عصيّين على كل محاولات الضياع أو التحريف أو التشويه، إلى يوم القيامة.
أعقب المحاضرة، حوار علمي بين المحاضر والحضور تناول قضايا اللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي.