عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Oct-2025

الغرب*إسماعيل الشريف

 الدستور

الأمة التي لا يحركها شبابها أمة ميتة، وإن بدت تمشي على قدميها- مالك بن نبي.
 
في الأيام الأولى من طوفان الأقصى، كانت الحناجر تصدح، والجموع تهتف بغضبٍ واندفاعٍ، والحماسة تغمر الأجواء.
 
على بُعد كيلومترات قليلة من سفارة الكيان الصهيوني وقفنا نهتف، نستنكر المجزرة وندعو إلى وقفها. وبين الحشود، رأيت أحد الشبان المندفعين وقد اعتلاه الناس على الأكتاف، يرتدي سترةً بقلنسوةٍ تحمل شعارًا باهتًا لـ جوجل.
 
كان إلى جواري بشار، شابٌّ يعمل في البرمجة، قال إنه يحلم بالذهاب إلى كاليفورنيا ليعمل هناك في وادي السيليكون. تبادلنا أرقام الهواتف ومضينا.
 
كان المشهد أشبه بلوحةٍ سريالية؛ شبابٌ وفتياتٌ يرتدون ملابس الغرب، ويتحدثون بلغتهم، ويحلمون بالرحيل إلى بلادهم، ومع ذلك كانوا يهتفون ضدهم.
 
نشأنا على أفلام الكاوبوي وجيمس بوند، وعلى الجينز والأفلام الوثائقية التي تمجّد عظمة الغرب وحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير. كبرنا نحمل في داخلنا أحلام الدراسة هناك، والحصول على منحةٍ دراسية، ثم الزواج من شقراء فاتنة تمنحنا جنسيتهم.
 
أحببنا مارتن لوثر كينغ وكلينت إيستوود، وبهِرْنا حين رأينا أوباما، صاحب البشرة الملونة، يجلس في البيت الأبيض. بدا الأمر لنا كأنه انتصار للحلم الإنساني. غير أننا تهكمنا: لو أن الأقدار ساقته إلى إحدى دول العالم الثالث، لكان ربما يعمل في وظيفة متواضعة، غارقًا في روتين طلب إذن العمل أو تجديد الإقامة السنوية.
 
كتبتُ آنذاك عشرات المقالات التي تمجّد الغرب وتقارننا به، وكنتُ أحلم   كما كان يحلم الجميع   أن نصبح مثل الغرب!
 
ثم جاء طوفان الأقصى، فغسلنا.
 
سيطرت صور الأطفال الشهداء ومآسي أهل غزة، وحجم الدمار الهائل، على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام العربي.
 
لكن الغرب صمت، واختصر المشهد كله في عبارتين باردتين تكررتا في كل منبر:
 
«لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها»، و»هل تُدين حماس؟»
 
شاهدنا كبار مديري الشركات العالمية إلى جانب شعارات مؤسساتهم ومشاهيرهم، وهم يغردون بما يبرر الجريمة ويمنح القاتل غطاءً أخلاقيًا .
 
بعث إليَّ بشار يومًا رسالة عبر الواتساب قال فيها:
 
«علّموني الخوارزميات، ولم يعلّموني المبادئَ والأخلاقَ والقيم.»
 
تذكّرتُ عام 2003، يوم أُعدم صدام حسين؛ كان عيدًا، وكنا نزور الأقارب، فقال لي والدي:
 
«كلُّ إمبراطوريةٍ تظنّ أنها الإمبراطورية الصالحة.»
 
لم أفهم قوله آنذاك، وظننته يبالغ.
 
لكن اليوم، وأنا أرى ترامب يقف في شرم الشيخ يستقبل رؤساء العالم بعد عامين من الإبادة ويتبجح أنه حقق السلام لأول مرة منذ ثلاثة آلاف عام في المنطقة، أدركت أن كلامه كان صحيحا.
 
أشفق على هذا الجيل الرقمي الذي ظنَّ أن العولمة تعني المساواة، وأن العدالة وسمٍ ، وأن الحرية تعليقٌ .
 
واليوم، بات الشباب يخشون التعبير عن آرائهم خوفًا من أن يفقدوا إقاماتهم أو يُرحَّلوا، وأصبح كثيرون يغلقون حساباتهم على مواقع التواصل قبل التقدّم للحصول على تأشيرة.
 
حتى الصحفيون في الغرب يهمسون خفيةً:
 
«نخشى على وظائفنا»
 
تبدّد حلم بشار في الذهاب إلى وادي السيليكون؛ فهو مناهضٌ شرسٌ للصهيونية.
 
أخبرني أن حساب شقيقته الصغيرة قد تم إلغاؤه لأنها صمّمت بوسترات رقمية تُعبّر عن دعمها لغزة وتفضح الإبادة الجماعية.
 
آلافُ الشباب في الجامعات والمدارس يعيشون اليوم بين الخوارزميات؛ ينشرون ويَحذفون تغريداتهم، يستمعون إلى أحدث أغاني الروك، ويشاهدون آخر الأفلام، ثم يشتمون الغرب!
 
كُنّا نحلم بـ ديمقراطيةٍ تشبه ديمقراطيتهم، وبـ ساسةٍ يذهبون إلى أعمالهم على درّاجاتٍ هوائية،
 
أما اليوم، فنحن نلعنهم   ومعهم ديمقراطيتهم المزيّفة، وألوان جوازات سفرهم التي نحسدهم عليها .
 
إنها فرصةٌ لنا أن نستثمرها للحفاظ على شبابنا في أوطانهم ليخدموها ويبنوا مستقبلها؛ ذلك يتطلّب إرادةً واستراتيجية.