الاستعمار الاستيطاني.. مرة أخرى! (2-1)*علاء الدين أبو زينة
الغد
عندما بدأت الجولة الأخيرة الوحشية من الهجوم العسكري الصهيوني على مخيمات ومدن الضفة الغربية، كان الرئيس الفلسطيني في زيارة رسمية إلى المملكة العربية السعودية. وكما يُتوقع من أي زعيم في مثل هذه الظروف، قطع عباس زيارته وعاد إلى الضفة الغربية. لكن هذه العودة، التي كانت ينبغي أن تكون نقطة تحول في استجابة القيادة الفلسطينية للاعتداءات الجسيمة، لم تكن أكثر من خطوة رمزية خالية من أي تأثير عملي على أرض الواقع.
كان من الممكن أن يستغل الرئيس هذه العودة لإظهار قيادة حقيقية وفعالة في مواجهة الدرجة الخطيرة جدًا من العدوان الصهيوني. كان بإمكانه اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تشمل الإعلان عن قطع العلاقات الأمنية مع الكيان، أو الدعوة إلى مقاومة شعبية شاملة، أو حتى التوجه إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لطلب حماية فورية للفلسطينيين. وكان بإمكانه اتخاذ الخطوة الضرورية، المؤلمة جدًا للكيان، المتمثلة في توحيد الصف الفلسطيني على برنامج نضالي تحرري لا يستبعد أي خيارات.
لم نرَ شيئًا من ذلك. واستمر فقط نفس النهج التقليدي للسلطة الفلسطينية، القائم على المراوغة والتردد في اتخاذ خطوات حاسمة. لم يكن هناك أي تغيير في الوضع على الأرض، واستمرت الهجمات الوحشية في الضفة بلا رادع. وأضافت العودة الطارئة فقط إلى خيبة أمل الشعب الفلسطيني في قيادته. وربما كان مكمن القلق لدى السلطة هو إلحاق المقاومين الفلسطينيين في الضفة أذى إضافيًا بالكيان مساندة لغزة، وهو ما تعتبره "استفزازًا" لا تريده أبدًا لسلطات الاستعمار.
يقدم الرئيس الفلسطيني نفسه دائمًا على أنه رجل سلام، ملتزم بحماية الشعب الفلسطيني. والطريقة لحماية الشعب الفلسطيني، حسب منظوره، هي اللا-مواجهة والهروب من الاشتباك. لكن هذا التصوير الذاتي ينطوي على مفارقة عميقة لدى مشاهدة إرثه السياسي. بدلاً من حماية الشعب الفلسطيني، جعلهم عباس فعليًا الضحايا الدائمين والوحيدين بين طرفي صراع مطوّل ومنهك، جُرِّدوا فيه بشكل منهجي من القدرة على الدفاع عن وجودهم الوطني التاريخي.
تحت قيادة عباس، تراجعت الشخصية الفلسطينية التحررية في الوحدة والقوة. وكان الانقسام بين فتح وحماس، الذي ترك غزة معزولة وفقيرة، هو المظهر الأكثر وضوحًا لهذا الانقسام. وبدلاً من تعزيز المصالحة وبناء جبهة متماسكة ضد الاحتلال، سمح عباس لهذا الانقسام بالتفاقم، في تقويض للقدرة الجماعية للشعب الفلسطيني على المقاومة.
تزامنت ولاية عباس مع توسع كبير في المستعمَرات في الضفة الغربية، وهو تطور قوض بشدة احتمال "حل الدولتين" الذي تقوم "السلطة" على أساسه. وعنى النمو المستمر للمستعمرات، إلى جانب ترسيخ الاحتلال وعربدة المستوطنين، أن استراتيجية عباس الدبلوماسية لم تكن غير فعالة فحسب، بل جاءت بنتائج عكسية. فقد أدى اعتماده على المفاوضات، على الرغم من رفض الكيان المعلن قيام دولة فلسطينية أو وقف التوسع الاستعماري، إلى منح مزيد من الوقت لمواصلة استعمار الأرض الفلسطينية براحة نسبية، وفرض "الحقائق على الأرض".
وبينما كان الضم الصهيوني الزاحف يتمدد بلا رحمة، لعبت إدارة عباس دورًا مُعلنًا (و"مقدسًا" بالنسبة لها) في تقويض المقاومة الفلسطينية. وكان التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية مع مخابرات الكيان، الذي يُنتقد على نطاق واسع باعتباره شكلاً من أشكال التعاون، ضارًا بشكل خاص. ولم يُقتصر ضرر هذه السياسة على إضعاف معنويات الشعب الفلسطيني، وإنما أضرت أيضًا وبشدة بموقف القيادة وأفضت إلى تآكل مصداقيتها، حيث يعتبرها الكثيرون متواطئة في الاحتلال. والنتيجة هي تعميق الشعور باليأس وخيبة الأمل والسخط –والمزيد من القناعة الشعبية بحتمية المقاومة.
من حيث المبدأ، لا أحد يرفض خيار التخلص من الاستعمار بالطرق السلمية، إلا إذا كان مأفونًا ومهووسًا بالقتل والعنف. وثمة أمثلة تاريخية على النضال السلمي ضد الاستعمارات، ربما يكون أبرزها نموذج غاندي في الهند. وكانت وسائل غاندي النضالية تقوم على مقاطعة المنتجات البريطانية والامتناع عن العمل في المؤسسات الحكومية الاستعمارية، مما ألحق أضرارًا اقتصادية وسياسية بالاستعمار البريطاني وأثار التعاطف الدولي مع قضية الهند، ودفع البريطانيين إلى إعادة النظر في سياساتهم والتفاوض على استقلال الهند في نهاية المطاف.
لكنّ نماذج النضالات السلمية مصممة لمناهضة الاستعمارات التقليدية، وليس استعمارًا استيطانيًا -إحلاليًا. وسوف يحتاج كل المدافعين عن الطرق السلمية فقط كوسيلة وحيدة ممكنة للتحرر الفلسطيني إلى مراجعة تعريف وغايات الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لإدراك عبثية هذه الفكرة. وفي تجربة "السلام" الفلسطينية منذ "أوسلو" إجابة عملية على هذا الطرح في شكل التطورات السلبية للغاية على قضية التحرر الفلسطيني خلال هذه الفترة. وكان الأولى بالقيادة الفلسطينية، دون غيرها، التعلُّم بكثافة عن الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، ولو أنها ليست في حاجة إلى القراءة وهي التي تتعامل معه يوميًا. وسوف يستعرض الجزء الثاني من هذا المقال، مرة أخرى، طبيعة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والخيارات المؤلمة، غير الطوعية، التي يدفع الشعب الفلسطيني إليها، والتي تجنب المواجهة ليس واحدًا منها.