عمليات الاغتيال الصامتة والمركزة.. أسلوب صهيوني جديد في غزة
الغد
القدس المحتلة- للمرة الثانية، يستخدم الاحتلال الصهيوني العصابات المسلحة والمليشيات الموجودة في المناطق الشرقية من قطاع غزة لتنفيذ عمليات اغتيال تطاول كوادر في الأجهزة الأمنية التابعة لحركة المقاومة الفلسطينية "حماس" أو قيادات ميدانية في المقاومة الفلسطينية، حيث أعلنت وزارة الداخلية في غزة التي تقودها حركة "حماس"، اغتيال الضابط في جهاز الأمن الداخلي أحمد زمزم على يد مسلحين في مخيم المغازي للاجئين وسط القطاع.
ولا تُعدّ حادثة اغتيال الضابط زمزم الأولى منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على غزة، إذ سبق أن تعرضت قيادات ميدانية في الأذرع العسكرية للمقاومة لعمليات اغتيال مشابهة نفذتها "عصابات مسلحة" تعمل لمصلحة الاحتلال. وفي حادثة أخرى وقعت في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تعرض القيادي في حركة المجاهدين محمد أبو مصطفى لعملية اغتيال في منطقة المواصي بمدينة خانيونس جنوبي القطاع، قبل أن تكشف التحقيقات لاحقاً أن عملية الاغتيال تمت بواسطة "عميل محلي" يعمل ضمن إحدى المليشيات المحلية التي تعمل لصالح الاحتلال.
ونقلت منصة "الحارس" الأمنية المحسوبة على المقاومة، اعترافات لأحد المتورطين في عملية اغتيال الضابط زمزم، كشف فيها أن قائد أحد المليشيات المحلية، شوقي أبو نصيرة، قام باستدعائه هو وعميلين آخرين إلى لقاء مع ضابط في مخابرات الاحتلال، الذي أخبرهم بأن مهمتهم كانت قتل المقدم زمزم بحجة أنه يدير ملفًا أمنيًا ستكون نهايته الوصول إليه وإلى آخرين من عملاء المرتزقة، حسب المنصة.
وأضافت المنصة، نقلاً عن اعترافات العميل المعتقل: "قام ضابط مخابرات الاحتلال بتسليمنا ثلاثة مسدسات مزودة بكواتم صوت، وثلاث دراجات كهربائية، وملابس مزودة بكاميرات صغيرة الحجم، وهواتف موصولة بسماعات لاسلكية، بالإضافة إلى إحداثيات مسار تحرك المقدم زمزم". وتشكّل الواقعتان اللتان تورطت في تنفيذهما "مليشيات محلية" بشكل مباشر خشية في الشارع الفلسطيني في غزة من لجوء الاحتلال إلى هذا النوع من العمليات لتقليل الانتقادات الدولية والعمل على إرباك الساحة الأمنية والداخلية الفلسطينية.
اغتيالات هادئة
في الأثناء، قال الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة إن التكتيك الذي برز في حالة زمزم يعكس توجه الاحتلال نحو استخدام عمليات برية أو عبر عملاء محليين لتنفيذ تصفيات خارج إطار الحملات الجوية التقليدية، فيما يمكن وصفه بـ"الاغتيالات الهادئة"، وهي إجراءات لا ترفع مستوى التصعيد بشكل مباشر أمام المجتمع الدولي. وأوضح عفيفة أن هذا الأسلوب يقلل من الضوضاء الإعلامية والاهتمام الدولي الفوري مقارنة بضربات الطائرات، لكنه في الوقت نفسه يحقق أهدافًا مماثلة تتمثل في إضعاف بنية القوة المؤسسية داخل قطاع غزة.
وأضاف أن الهدف الأهم لهذه السياسة هو زعزعة الاستقرار المنظم حتى في ظل اتفاقيات وقف إطلاق النار، وخلق مناخ من الخوف وعدم اليقين داخل المؤسسات الأمنية وفي الشارع الغزّي عمومًا، إلى جانب إحداث حالة من الانقسام بين الساحتين الأمنية والمجتمعية في القطاع. وأشار عفيفة إلى أن ما يجري يندرج ضمن سياسة أشمل تهدف إلى استنزاف القدرات القيادية الفلسطينية في غزة، سواء على مستوى الأذرع العسكرية أو الأطر الأمنية المدنية، بما ينعكس سلبًا على تماسك البنية الداخلية للمجتمع.
وحذّر الكاتب والمحلل السياسي من أن هذه الاغتيالات تُقوّض مناخ الثقة اللازم لاستمرار التهدئة، وتلقي بظلال من الشك لدى المقاومة بشأن قدرة الوسطاء، ولا سيما الراعي الأميركي، على تنفيذ بنود واستحقاقات المرحلة الثانية المعقدة من الاتفاقات القائمة. وتعمل هذه المليشيات المحلية التي تنتشر في المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة الاحتلال على تنفيذ مهام ذات طابع أمني بحت من خلال عمليات الرصد والتتبع بحق الكوادر وعناصر المقاومة والأجهزة الأمنية.
وسبق أن قامت هذه المليشيات بتنفيذ عمليات اعتقال، كما حصل في واقعة الطبيب مروان الهمص، مدير عام المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة، وابنته المفرج عنها قبل أسبوعين، تسنيم الهمص. لكن الواقعة الأبرز لهذه المليشيات، وتحديداً مليشيا ياسر أبو شباب، هي عملية اغتيال القيادي في ألوية الناصر صلاح الدين، الذراع العسكرية للجان المقاومة الشعبية، أحمد سرحان، حيث جرت هذه العملية في أيار(مايو) الماضي بواسطة قوة خاصة صهيونية، إلا أنها كانت مدعومة ميدانيًا بقوة من مليشيات ياسر أبو شباب الذي قتل لاحقاً.
استراتيجية واسعة
أما الباحث في الشأن الأمني والعسكري رامي أبو زبيدة، فاعتبر أن الاحتلال الصهيوني ينفذ عملياته الأخيرة في القطاع ضمن رؤية استراتيجية أوسع، لا بدوافع أمنية محدودة، موضحًا أن الهدف الأساسي منها هو ضرب وظيفة الأمن الداخلي ومنظومته، وإضعاف قدرة المجتمع على حماية نفسه من الداخل. وقال أبو زبيدة إن الاحتلال يسعى إلى إحداث خلل في منظومة الضبط المجتمعي، انطلاقًا من إدراكه أن أي مجتمع يفتقد إلى أمن داخلي متماسك يتحول إلى بيئة رخوة قابلة للاختراق والاستغلال.
وأشار الباحث في الشأن الأمني والعسكري إلى أن ضرب الاستقرار الداخلي يربك المجتمع، ويُرهق المقاومة، ويخلق حالة من تحميل المسؤولية الذاتية عبر تحويل الأنظار إلى المقاومة والجهة السياسية الحاكمة باعتبار ما يجري "مشكلة داخلية". وأضاف أن تشابه الطابع الأمني لهذه العمليات واعتماد الاحتلال على المليشيات والعصابات المحلية يعكس نمطًا متكررًا وليس حالات معزولة، لافتًا إلى أن الاحتلال يتعمد استخدام الوكلاء لإعادة رسم المشهد الأمني في غزة، وإظهاره صراعا داخليا لا نتيجة مباشرة للاحتلال، بما يخلق مشهدًا ضبابيًا تختلط فيه الجريمة بالسياسة والعميل بالمسلح.
وبيّن أبو زبيدة أن هذا النهج يحقق للاحتلال هدفين رئيسيين: إخفاء بصمته المباشرة وتقليل كلفته السياسية والقانونية، إلى جانب خلق حالة شك داخل المجتمع، تفتح باب التساؤلات والاتهامات المتبادلة بشأن هوية الفاعلين ودوافعهم. وحذّر من أن تداعيات هذه العمليات أخطر من الحدث نفسه، إذ تؤدي على المدى القريب إلى رفع منسوب القلق والخوف، وضرب هيبة الأجهزة الأمنية والتشكيك في قدرتها على حماية المجتمع، فيما تكمن الخطورة على المدى البعيد في محاولة فرض واقع أمني قائم على هشاشة المجتمع والانفلات الجزئي، وتحويل غزة من ساحة مواجهة مع الاحتلال إلى ساحة استنزاف داخلي.-(وكالات)