"المنقذ".. الشخصية المضحية التي تنهكها الرغبة في إسعاد الآخرين
الغد-تغريد السعايدة
هل يمكن أن يكون حب الخير والمسارعة إلى خدمة الناس وحل مشاكلهم بأي ثمن كان، حتى وإن كان على حساب راحتك ووقتك وجهدك، نوعا من السلوكيات التي تنهك الفرد وتجعله يقع في ما يعرف بـ"متلازمة المنقذ"؟
تلك الحالة يتناولها علم النفس بتفاصيل كثيرة، إذ قد تجعل الشخص المنقذ عالقا بين فخ الإيثار والرغبة في المساعدة والنخوة، كما نسميها في مجتمعنا، وبين تجاهله لذاته وحياته واحتياجاته الشخصية، لينساق إلى فخ "منقذ العائلة وجمل المحامل"، كما يصفه البعض.
التعافي يبدأ بإدراك الفرد مسؤولياته
ووفق دراسات نفسية عديدة تناولت هذه الحالات بالبحث والتمحيص، فقد لخصت الكثير منها مفهوم "شخصية المنقذ" بأنها "حالة نفسية تجعل الإنسان يشعر أن قيمته الحقيقية مرتبطة بإنقاذ الآخرين وحل مشكلاتهم، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه".
وهذا الحال قد يدفع بالشخص المنقذ إلى حد الإنهاك العاطفي وإهمال الذات، "لكن التعافي يبدأ حين يدرك المرء أن مسؤوليته الأولى هي إنقاذ نفسه لا العالم بأسره".
وبناء على ذلك، فهناك أسباب عدة للوصول إلى هذه الحالة؛ منها ما هو إيجابي يحث عليه الشرع والأخلاق والأعراف، حين يجد الإنسان ذاته وقيمته الحقيقية في مساعدة الآخرين كلما استطاع، من باب التكافل والتعاضد وحب الخير وكسب الأجر.
خلفية سلوكية غرست الشعور
في المقابل، هناك من يرهق نفسه في إثبات أنه "شخصية المنقذ" ليظهر بصورة مختلفة أمام مجتمعه، فيسعى لإبراز ذاته ويضحي بالكثير من طموحاته وتطلعاته ووقته ومشاعره، في سبيل إنقاذ الآخرين وإيجاد حلول لمشكلاتهم، وقد يكون ذلك ناتجا عن خلفية تربوية أو نفسية سلوكية غرست فيه هذا النوع من الشعور.
من جهتها، ترى الاستشارية الأسرية والنفسية الدكتورة خولة السعايدة أنه عند الحديث عن الأشخاص الذين يميلون إلى مساعدة الآخرين والتضحية من أجلهم، فنحن نتحدث عن فئة من الناس تجد متعتها وراحتها في العطاء، وتستمد رضاها الداخلي من تقديم الدعم للآخرين.
ووفق السعايدة، فإن الدافع وراء هذا السلوك يختلف من شخص لآخر؛ فبعضهم يساعد بدافع الواجب أو المصلحة، بينما يساعد آخرون لأنهم يحبون المساعدة حقا ويشعرون بالسعادة عندما يقدمون العون.
ومثال على ذلك، يقول مصطفى تحسين في تعليقه على شخصية المنقذ، إنه للأسف نتاج وجود شخص اعتمادي في حياته، ومن هنا يسخر نفسه بشكل كامل لخدمة هذا الشخص الذي أصبح يعتمد عليه اعتمادا كليا، وغالبا ما يكون قريبا منه من الدرجة الأولى.
وهو ما تؤكده منال المر في حديثها عن تجربتها، إذ تقول إنها كانت تعاني من تلك الحالة، وكانت "الشخص المنقذ" الذي نسي نفسه وحياته وتفاصيله مقابل مساعدة الآخرين في أمور حياتهم. وتضيف "كنت أعاني منها بشكل مبالغ فيه ومخيف، لكنني الآن بدأت أتعافى من تلك الحالة التي سببت لي تراكمات كثيرة".
هل هذه الشخصية محبوبة؟
في المقابل، ترى مروة الفخري أن هذه الشخصية محبوبة ومفضلة لدى المجتمع والعائلة، شريطة مراعاة قدرة الشخص وطاقته على العطاء، وتقول "لو كان كل شخص لديه تلك الرغبة في مساعدة الآخرين، لكان المجتمع بخير، ولا يمكن وصفها بأنها حالة سلبية".
وتوضح ذلك باستشهادها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب الي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهرا".
يوضح استشاري الطب النفسي الدكتور وليد سرحان أن هذه الشخصية يمكن اعتبار أنها تملك سلوكا إنسانيا جيدا ومشكورا في كثير من الأحيان، خاصة عندما يكون لدى الإنسان دافع التعاطف والنية الصادقة والحب والقدرة على مساعدة الآخرين في حل مشكلاتهم ودعمهم، شرط أن يكون ذلك بشكل متوازن من دون إفراط.
بينما تعلق إسراء محمد على الموضوع، بقولها إن متلازمة المنقذ قد تبدأ من خلل في التربية، من خلال الحب المشروط، إذ يتعلم الطفل العطاء المستنزِف لنفسه، ولا يستطيع أن يقول "لا" أو يرفض طلب أحد، خوفا من خسارة الشخص المقابل، وهذا ما قد يجعله ضحية للاستغلال. لذلك، من المهم أن نربي أبناءنا على اتخاذ القرار السليم بما يتناسب مع قدرتهم على مساعدة الآخرين.
عوامل نفسية واجتماعية
وترى السعايدة أن الشخصية المضحية أو المنقذة قد تتشكل ملامحها من خلال عملية التنشئة الاجتماعية منذ الطفولة، فالطفل الصغير يتأثر بما يراه في بيئته؛ في البيت من والديه، في المدرسة من معلميه وزملائه، وفي المجتمع من خلال تفاعلاته مع الناس، سواء في الطريق أو في المسجد أو في النادي. وجميع هذه البيئات تسهم في بناء شخصيته وتشكيل سلوكه مع مرور الوقت.
ولهذا السبب، قد نجد في الأسرة الواحدة أبناء يختلفون في شخصياتهم رغم نشأتهم في الظروف نفسها وتحت رعاية الوالدين نفسيهما. والسبب أن تفاعل العوامل النفسية والاجتماعية والشخصية ينتج عنه مزيج مختلف في كل فرد، تماما كما أن خلط المواد الكيميائية ذاتها قد يعطي نتائج مختلفة تبعا لطبيعة التفاعل.
ويعتقد سرحان أن شخصية "المنقذ" قد تتحول إلى أمر سلبي وغير مفضل في المجتمع، إذا كان الهدف منها فقط حب الظهور أمام الآخرين بهذه الشخصية التي تساعد الجميع، وتسعى للبحث عن الإعجاب لا أكثر.
متعة العطاء والتضحية
وتؤكد السعايدة أن الشخص الذي يحب مساعدة الآخرين ويضحي من أجلهم يبني شخصيته على هذا النمط منذ الصغر، فيجد متعته في العطاء، ولا يشعر أن المساعدة عبء عليه، بل يستمتع عندما يمد يد العون ويعتبر ذلك جزءا من ذاته. في المقابل، هناك من لا يملكون هذا الميل، فهم لا يفضلون التضحية أو العطاء.
وتنوه السعايدة إلى ما يراه علماء النفس من أن أنماط العلاقات بين الناس تقوم على أساليب مختلفة للحياة، منها أسلوب "الأخذ"، أي الشخص الذي يحب أن يتلقى دائما من دون أن يعطي. فإذا اجتمع الشخص "المضحي" مع الشخص الاتكالي، فقد تستمر العلاقة بينهما فترة طويلة، لأن أحدهما يعطي والآخر يأخذ، مما يخلق نوعا من المنفعة المتبادلة، لكن مع مرور الوقت تظهر النتائج الإيجابية والسلبية لهذه الديناميكية.
وقد تكون العلاقات الزوجية والأسرية من أكثر البيئات التي تظهر فيها شخصية المنقذ، سواء كانت الأم أو الأب أو الأخ الأكبر، وحتى في علاقات الأقارب أو الأصدقاء، إذ غالبا ما يوجد في كل مجموعة من يقوم بدور "المنقذ" الذي يتحمل الكثير من المهام في سبيل استمرار تلك العلاقات الاجتماعية.
لكن السعايدة ترى أن من إيجابيات هذا النمط أن الشخص المضحي يشعر بالرضا والإنجاز، كما أن من حوله يستفيدون من عطائه ويقدرون جهوده. أما من الناحية السلبية، فقد يتعرض مع الوقت للاستنزاف النفسي، أو يشعر بالظلم وعدم التقدير، وربما تتكون حوله بيئة اعتمادية يصبح فيها الآخرون متكلين عليه بشكل مفرط.
مبدأ التبادلية بالعلاقات
وفي مثل هذه الحالات، يكون أثر التضحية السلبي متبادلا، إذ يفقد الشخص المساعد توازنه النفسي، ويصبح الآخرون بدورهم أقل قدرة على الاستقلالية. ولذا، يؤكد علماء النفس والاجتماع أن العلاقات الإنسانية السليمة يجب أن تقوم على مبدأ التبادلية، بحيث يكون فيها عطاء وأخذ متوازن، لأن العلاقة أحادية الاتجاه لا يمكن أن تستمر بصحة.
وتختم السعايدة بالقول إن الإنسان الذي يتصف بروح المساعدة والتضحية ليس مريضا نفسيا ولا يعاني من خلل، بل هو شخص تشكلت شخصيته بهذه الطريقة من خلال تجاربه وتربيته. ومع ذلك، من المهم أن يحافظ على توازن صحي بين العطاء والأخذ، حتى لا يتحول عطفه إلى عبء أو استنزاف على المدى الطويل.