عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Dec-2025

جولات وقف إطلاق النار في إبادة غزة: منظور تاريخي

 الغد

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مقدمة:
على مدى عقود، تحوّل مفهوم "وقف إطلاق النار" في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي من كونه أداة يُفترض أن توقف العنف وتفتح أفقًا سياسيًا، إلى صيغة لغوية مضلِّلة تُستخدم لإدارة القتل بدلًا من إنهائه، ولتنظيم العنف بدلًا من ردعه. وفي حالة غزة، لا يبدو وقف إطلاق النار لحظة استراحة إنسانية أو خطوة نحو سلام عادل بقدر ما هو حلقة ضمن دورة متكررة من الإبادة البطيئة التي يُعاد إنتاجها بصيغ مختلفة، وبوتيرة متسارعة، وتحت مسمّيات عسكرية وإعلامية متجددة. ولذلك لا يمكن فهم أي جولة من جولات وقف إطلاق النار العديدة في غزة -خاصة تلك التي أعقبت الإبادة الجارية، بمعزل عن تاريخ طويل من العنف البنيوي الذي يجعل من هذه الوقفات استثناءً شكليًا داخل مسار ثابت من الهيمنة والقمع.
تنطوي المقاربة التاريخية التي تعتمدها إيف سبانغلر في النص التالي على أهمية بالغة لأنها تفكك الوهم السائد بأن ما يحدث في غزة الآن هو "انفجار مفاجئ"، أو "انحراف عابر" في سلوك دولةٍ تسعى في الأساس إلى الأمن أو الردع. وتُظهر هذه القراءة التاريخية أن عنف الكيان الاستعماري ليس حدثًا طارئًا، وإنما ممارسة ممنهجة ذات جذور أيديولوجية واضحة، تتجدد كل الوقت بأدوات مختلفة، ويتم تغليفها سياسيًا باتفاقات وقف إطلاق نار لا تهدف فعليًا إلى إنهاء الصراع، وإنما تديره بطريقة تخدم الطرف الأقوى. وبذلك لا يتعلق السؤال بأسباب فشل وقفات إطلاق النار، وإنما بالسبب في إقرارها بالأساس، وبالوظيفة التي تؤديها داخل منظومة استعمارية استيطانية لم تتخلَّ يومًا عن منطق الإقصاء.
تكشف التجربة الفلسطينية، وخاصة في غزة، أن وقفات إطلاق النار غالبًا ما تعمل كآلية لخفض حدّة الانتقاد الدولي، وإعادة ترميم صورة القوة المعتدية، ومنحها وقتًا لإعادة التموضع العسكري والسياسي، في حين يستمر العنف بأشكال أقل ظهورًا، أو ينتقل إلى ساحات أخرى مثل الضفة الغربية، والسجون، والإقليم المحيط. وبذلك يصبح وقف إطلاق النار أحد الأشكال المُقنَّعة للإبادة الجماعية حين لا يسمح بقدرٍ من الحياة يكفي سوى للتهيئة لدورة القتل القادمة.
ترى سبينغلر أن تحليل الحاضر لا يكتمل من دون العودة إلى الجذور الفكرية والسياسية للصهيونية، بوصفها مشروعًا استعماريًا استيطانيًا وليس مجرد حركة قومية عادية. وبتعقب أطوار هذا المشروع، منذ وعود الإمبراطوريات الأوروبية وتناقضاتها، وصولًا إلى الدولة الصهيونية المعسكرة، تبيّن سبانغلر أن نمط الحروب المتكررة، والمجازر المتتابعة، ووقفات إطلاق النار العقيمة، لم يكن فشلًا عرَضيًا في السياسات، وأنه كان نتيجة منطقية لمسار تاريخي اختار القوة والعنف كحل دائم لمسألة الوجود الفلسطيني.
تتعدى قراءة جولات وقف إطلاق النار في غزة من منظور تاريخي تسجيل الوقائع وتذهب إلى مساءلة اللغة السياسية التي تُقدَّم بها هذه الوقفات، وكشف التواطؤ الدولي الذي يسمح باستمرارها على الرغم من عقمها الأخلاقي والإنساني. كما تسعى إلى نقل النقاش من مستوى "إدارة الأزمة" إلى مستوى مساءلة البنية التي تنتجها. وبفهمها ضمن هذا السياقات، لا تكون جولات وقف إطلاق النار علامة أمل. إنها مواقف تطرح الأسئلة عن معنى العدالة، وحدود الشرعية، والمسؤولية الأخلاقية لعالمٍ يراقب الإبادة ويكتفي بالمطالبة بإيقافها مؤقتًا، ممهدًا بذلك لتكرارها.
-علاء الدين أبو زينة
 
 
 
 
إيف سبانغلر* - (كاونتربنش) 19/12/2025
منذ 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، وهو التاريخ الذي يشكل البداية الرسمية لوقفٍ مُشوَّه لإطلاق النار في غزة، تراجع اهتمام وسائل الإعلام السائدة بتغطية الكارثة. وفي الوقت نفسه تكاثرت التعليقات حول فاعلية اتفاقات وقف إطلاق النار بوصفها سياقات لإيصال المساعدات الإنسانية وبناء سلام متين ومستدام. وربما كان من أكثر التحليلات إيجازًا وبلاغة لحالة غزة ما قدّمه الشاعر الفلسطيني الدكتور رفعت العرعير. وقد رأى العرعير، الذي أصبح لاحقًا إحدى ضحايا الإبادة، أن المعنى الحقيقي لوقف إطلاق النار حين يخاطِب الإسرائيليون الفلسطينيين، هو: "نحن نطلق النار، وأنتم توقفون".
ولكن، حتى ما قاله العرعير لا يعبر بما يكفي عن كيف يمتدّ العنف الإسرائيلي من غزة إلى الضفة الغربية، وإلى السجون داخل إسرائيل، وإلى الإقليم بأسره من خلال القصف في لبنان وسورية وإيران واليمن.
لفهم أي وقفٍ معين لإطلاق النار -وخاصة هذا الوقف الأخير في غزة الذي وُصف بتفاؤل منذ لحظة ولادته بأنه "هش"- لا بدّ أولًا من فهم طبيعة العنف المخصوص الذي يسعى هذا الوقف إلى إيقافه مؤقتًا.
في حالة العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، الجواب المختصر هو أن اتفاقات وقف إطلاق النار ذات أثرٍ محدود للغاية، لأنها غالبًا ما تكون قصيرة الأمد، ولأن خرقها -عندما يحدث- يحدث على نحو متوقّع من الطرف الأقوى الذي يواصل إيذاء الطرف الأضعف. وحتى قبل الإبادة الجارية في غزة، كان الإسرائيليون هم الذين يعيدون إشعال العنف في 79 في المائة من الحالات. وتطرح وتيرة خروقات وقف إطلاق النار، والسرعة التي تقع بها خلال أيام من إعلانها، والطابع الأحادي لهذه الخروقات، بالضرورة سؤالًا عمّا إذا كانت هذه الاتفاقات قد شكّلت في أي يوم خيارًا حقيقيًا للإسرائيليين أم أنها كانت مجرد شأن شكلي. على سبيل المثال، خلال وقف إطلاق النار الحالي الذي بدأ اسميًا قبل نحو شهرين، قُتل قرابة 400 فلسطيني في غزة وحدها. ويمكن وصف هذا الوضع -في أحسن الأحوال- بأنه "تخفيف لإطلاق النار".
أما الجواب الأطول فيقتضي فهم جذور حرب إسرائيل على الفلسطينيين، والتزامها الشرس وغير المنقطع بالحصرية اليهودية -أو على الأقل بتفوّق اليهود على السكان الفلسطينيين وأراضيهم ومواردهم المائية. وتُسمّى الأيديولوجيا التي تقود الموقف الإسرائيلي اليوم بالصهيونية.
لكن الصهيونية لم تكن عند نشأتها تيارًا واحدًا متجانسًا. كان ثمة تيارات متعددة، منها صهيونية عمالية ركّزت على علاقات الطبقة وأتاحت إمكانية تكوين تضامنٍ عمالي عربي-يهودي؛ وصهيونية ثقافية سعت إلى وطن -بمعنى قبول المهاجرين اليهود داخل مجتمعٍ مضيف متعدد الأعراق بصرف النظر عن بنيته الحاكمة- إلى جانب الصهيونية القومية السائدة اليوم، التي تتجلّى في شكل دولة عالية العسكرة.
مهما تكن الادعاءات التوراتية التي يقدّمونها لأغراض دعائية، [1] فإن القادة الإسرائيليين -وهم في غالبيتهم الساحقة من أصول بيضاء أوروبية- يدركون بشكل عام السياق الأوروبي لمشروعهم السياسي. ويسكن هاجس موقعهم غير الآمن داخل المجتمعات المسيحية بعمق في الشيفرة الجينية لوعيهم السياسي، ويمكن إرجاعه إلى ما لا يقلّ عن طرد اليهود من إنجلترا في العام 1290 في عهد الملك إدوارد الأول. وقد يكون هذا الملك وهذا التاريخ من أوائل اللحظات التي طُرحت فيها فكرة أن حل "المسألة اليهودية" في أوروبا ("المسألة" هنا هي وجود اليهود في العالم المسيحي) يكمن في إزالة اليهود. ومن السهل، إذن، فهم السبب في أن بعض اليهود في بعض الأماكن يتداولون سؤالًا من قبيل: "إذا لم يكن بإمكاننا البقاء هنا، فأين ينبغي أن نذهب؟". وسرعان ما أصبح هذا السعي إلى مكانٍ أكثر أمانًا وديمومة بمثابة النجم القطبي الهادي لتفكيرهم السياسي.
ثم جاءت مصالح الإمبراطوريات. في حين كانت إنجلترا، في مرحلة من القرن التاسع عشر، تميل إلى الحفاظ على سلامة الإمبراطورية العثمانية -إلى حدٍّ كبير للوقوف في مواجهة المصالح الروسية التوسعية، فإن تلك المرحلة انقضت حين شرعت الصهيونية في الترسُّخ. عندئذٍ، رتبت بريطانيا على نفسها سلسلة من الالتزامات التي لا يمكن وصف محصّلتها التراكمية إلا بأنها مخاتلة. في العامين 1915-1916، شهدت مراسلات مكماهون-الحسين تعهّد إنجلترا بدعم الحكم الذاتي الوطني للبلدان العربية مقابل هجمات عربية تفتح جبهة ثانية ضد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مع ترك حدود تلك البلدان غامضة عمدًا. وفي العام 1916، وعدت اتفاقية سايكس-بيكو الأنغلو-فرنسية بمنح فلسطين لإنجلترا ضمن جهدٍ حربيٍّ متحالف ناجح يهدف إلى تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقاسم أطرافها بين القوى الأوروبية. ثم في العام 1917، وعد تصريح بلفور البريطاني بمنح جزء من الأرض نفسها للحركة الصهيونية لتكون وطنًا يهوديًا في فلسطين. ويصف حتى وزير خارجية بريطاني معاصر، جاك سترو، تلك الاتفاقات المزدوجة بأنها "تاريخٌ مثير للاهتمام بالنسبة لنا، لكنه ليس تاريخًا مشرّفًا تمامًا".[2]
تلاقت المناورات البريطانية سريعًا مع المطالب بإقامة دولة يهودية كما صاغها تيودور هرتسل، زعيم الحركة الصهيونية المبكرة. ولأن الصهاينة الأوروبيين كان يُنظر إليهم بوصفهم امتدادًا حديثًا جوهريًا لأوروبا،[3] فقد رضخت بريطانيا لفكرة إقامة وطنٍ يهودي في فلسطين، وليس في أوغندا أو الأرجنتين اللتين كانت الحركة الصهيونية المبكرة منفتحة أيضًا على قبولهما.
كان ما اتفق عليه الطرفان هو أن فلسطين كانت -منذ اتفاقية سايكس-بيكو- أرضًا متاحة للبريطانيين ليتصرفوا بها، وللصهاينة ليتطلعوا إليها. وكما كتب الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي عن تصريح بلفور، فإنه "لم يكن هناك شيء يشبهه قط: إمبراطورية تعِدُ بأرضٍ لم تكن قد احتلّتها بعدُ لشعبٍ لا يعيش فيها، من دون استشارة السكان". وقد خلقت هذه "الخطيئة الأصلية" خطابًا عن "أرض بلا مالك شرعي" terra nullius في فلسطين -"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"- وهو خطاب محا الفلسطينيين الذين تم تجريدهم من حقّ الإذن بالوجود بوصفهم سكان المكان الذي يعيشون فيه فعلًا. وجرى تجاهل حقوقهم كأفراد، وكجماعات دينية وإثنية، وكمواطنين محتملين في دولة آخذة في التشكّل. ولم توفر لغة تصريح بلفور، التي تعترف اعترافًا عابرًا بحقوق "الآخرين" (غير اليهود) المقيمين في فلسطين، أي آلية للمساءلة نيابةً عنهم.
منذ تلك البداية المنحطّة، أصبحت حملات الطرد والمصادرة والمقاومة شبه حتمية، حيث كان الإخضاع -أو الأفضل: الطرد- هما النتيجتان الوحيدتان اللتان يقبل بهما الصهاينة بشأن الفلسطينيين. وجرى تجاهل تطلّعات الصهيونية العمالية والصهيونية الثقافية، كما أُهملت تحذيرات مفكّرين يهود بارزين مثل اللاهوتي مارتن بوبر، والفيلسوفة السياسية حنّة آرندت، والعالِم البارز ألبرت أينشتاين. وقد جادل بوبر، كما هو معروف بأن انتصار الصيغ الأكثر عدوانية من الصهيونية سيقود حتمًا إلى قومية مفرطة تفضي فقط إلى قيام "دولة يهودية صغيرة، مُعسكرة بالكامل وغير قابلة للاستدامة".[4] وحذّرت آرندت من أنه لا ينبغي أبدًا التضحية بوطن يهودي لصالح "سيادة زائفة لدولة يهودية تُبنى على قمع العرب".[5] ومع ذلك، أصبحت الصهيونية العمالية والصهيونية الثقافية طريقين لا يسلكهما أحد.
كان أينشتاين متشككًا بشكل أعم في كل القوميات. وبينما تجاهل الصهاينة شكوكه، بدا جزءٌ آخر معروف من تفكيره وكأنه يستبق سلوكهم: تعريفه للجنون بوصفه تكرار الفعل نفسه مرارًا، على أمل الحصول على نتائج أفضل.
وللأسف، انتصر أكثر أشكال الصهيونية عدوانية -الصيغة القومية التي مزجت "احتكار العنف المشروع" (وهو جوهر جهاز الدولة) برؤيةٍ خيالية إلى حدٍّ كبير لمفهوم الشعب اليهودي.[6] وسرعان ما أصبح نمط الحروب المتكررة، يتبعها تكرار المذابح، هو الواقع الدائم.
انتهت كل مرحلة من تاريخ إسرائيل بحربٍ بين الدولة الصهيونية وسكانها الفلسطينيين. أولًا، قادت مرحلة ما قبل الدولة إلى قيام دولة إسرائيل في العام 1948، وأنتجت النكبة التي طُرد خلالها نحو 750 ألف فلسطيني (أي قرابة ثلاثة أرباع السكان)، وتعرّض معظم الباقين للتهجير الداخلي داخل الدولة الجديدة. ثانيًا، انتهت مرحلة الدولة المبكرة (1948-1967) بحربٍ إقليمية وضعت فلسطين التاريخية بأكملها تحت الاحتلال الإسرائيلي، في ظل أوضاعٍ سياسية متباينة تراوحت بين حقوقٍ منقوصة (مقارنةً بالإسرائيليين اليهود) وحكمٍ عسكري بلا حقوق فعلية تقريبًا. ثالثًا، انتهت السنوات التي تلت الاحتلال الكامل لمجتمعات فلسطينية متعددة -لكنها مقسمة- وما قابله من ردٍّ نضالي فلسطيني (انتفاضتا 1987 و2000)، مرةً أخرى بسفك دماء مستدام. رابعًا، وأخيرًا، اتسمت المرحلة منذ ذلك الحين بالمجازر والانتفاضات والقمع المتكرر، وبعملية سلام فاشلة ومخادعة حتى يومنا هذا.
الجديد في الوضع الراهن، والمثير للقلق بشكل خاص، هو أن أكثر نسخ الصهيونية إقصائية في السابق لم تعتمد الإبادة الجماعية كأداة لها**: فقد حاولت أجيال من الصهاينة شراء الأراضي من الفلسطينيين، أو طردهم بوسائل بيروقراطية، أو استخدام استراتيجيات عنيفة من الأبارتهايد والتطهير العرقي، أو الانخراط في ما يسميه عالم السياسة الفلسطيني صالح عبد الجواد "الإبادة الاجتماعية" -جعل حياة الفلسطينية صعبة قانونيًا وماليًا ونفسيًا وجسديًا إلى حدٍّ يدفعهم إلى اختيار الرحيل. وقد جادلتُ في كتاباتٍ سابقة بأن الصهيونية قبل العام 2023، حتى مع أنها أوقعت عددًا كبيرًا من القتلى الفلسطينيين، لم تكن تتطلّب موتهم بطبيعتها؛ كان رحيلهم كافيًا.
ولكن، مع فشل تحقق هذا الرحيل المأمول على مدى قرن، انحصرت الجهود الإسرائيلية للتخلّص من الفلسطينيين (أو إخضاعهم كليًا) في سلسلة من المذابح العسكرية الوحشية والمتكررة التي يسمّونها "جزّ العشب". وتبيّن أن هذا البرنامج يزداد فتكًا بمرور الوقت، بينما يتسم في الوقت نفسه بطابع "أينشتايني" في قسوته التكرارية التي لا تُنتج النتائج المنشودة، بل التي لا تخلّف سوى وقف إطلاق نار عقيم، تاركًا في أعقابه دائمًا بقعةً زيتية من العداء المتبادل وبذور المجزرة التالية.
وهكذا، يكون فلسطيني وُلد في غزة في العام 2003 قد اختبر بالفعل ما لا يقل عن 12 من مجازر "جزّ العشب"، وشهد العديد غيرها من عمليات إطلاق النار العابرة للحدود بصورة عشوائية، ويعرف عن فظائع مماثلة في الضفة الغربية، وفي السجون الإسرائيلية، وحتى عن عمليات اغتيال خارج نطاق القضاء رافقتها توغلات عسكرية في بلدان أخرى.
 
انظر في التاريخ التالي لسياسة "جزّ العشب":
عملية "قوس قزح"، أيار (مايو) 2004
الخسائر: إسرائيليون: 13، فلسطينيون: 59.
الهدف المزعوم: تدمير رفح، وهدم المنازل، لقمع المقاومة في غزة.
عملية "يوم الكفّارة"، أيلول (سبتمبر) - تشرين الأول (أكتوبر) 2004
الخسائر: إسرائيليون: 8، فلسطينيون: 107.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون من غزة.
عملية "أمطار الصيف"، حزيران (يونيو) - تشرين الثاني (نوفمبر) 2006
الخسائر: إسرائيليون: 11، فلسطينيون: 402.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة.
عملية "غيوم الخريف"، تشرين الأول (أكتوبر) - تشرين الثاني (نوفمبر) 2006
الخسائر: إسرائيليون: 1، فلسطينيون: 50.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة.
عملية "شتاء ساخن"، 2008
الخسائر: إسرائيليون: 3، فلسطينيون: 107.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة.
عملية "الرصاص المصبوب"، 2009/2008
الخسائر: إسرائيليون: 13 (3 بنيران صديقة)، فلسطينيون: 1,166-1,440.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة.
عملية "صدى عائد"، 2012
الخسائر: إسرائيليون: 0، فلسطينيون: 23.
الهدف المزعوم: تدمير مخازن الأسلحة، ومنشآت تصنيع السلاح، ومواقع إطلاق الصواريخ في غزة.
عملية "عمود الدفاع"، 2012
الخسائر: إسرائيليون: 6، فلسطينيون: 105.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة، وفرض قيود على الصيد الفلسطيني أشدّ من تلك التي تحميها المعايير الدولية، وتقويض شعبية "حماس" في غزة.
عملية "الجرف الصامد"، 2014
الخسائر: إسرائيليون: 73، فلسطينيون: 2,125-2,310.
الهدف المزعوم: استمرار عملية "حارس الأخوة" للثأر لمقتل ثلاثة مراهقين إسرائيليين في الضفة الغربية.
عملية "حارس الأسوار"، 2021
الخسائر: إسرائيليون: 12، فلسطينيون: 253.
الهدف المزعوم: قمع إطلاق الصواريخ من غزة.
عملية "الفجر الصادق"، 2022
الخسائر: إسرائيليون: 0، فلسطينيون: 49.
الهدف المزعوم: اعتقال واغتيال قادة في حركة الجهاد الإسلامي.
عملية "الدرع والسهم"، أيار (مايو) 2023
الخسائر: إسرائيليون: 1، فلسطينيون: 33.
الهدف المزعوم: قمع صواريخ حركة "الجهاد الإسلامي" المنطلقة من غزة.
 
كانت النتيجة المنطقية لفشل هذه الجهود في تحقيق الرغبات الصهيونية تتمثّل في الانعطاف نحو الإبادة الجماعية: ليس بوصفها انحرافًا بقدر ما هي تتويج لمسارٍ طويل.[7] وإلا فكيف يمكن تفسير استخدام القيادة الإسرائيلية لغةً تُسمي الفلسطينيين "عماليق"، وتدمير عددٍ هائل من الأهداف المدنية مثل المدارس والمستشفيات ومخيّمات خيام اللاجئين، وإلحاق الضرر بنحو 90 في المائة من المخزون السكني في غزة، وفرض نظامٍ من التجويع على أكثر من مليوني إنسان، والإعلان عن تشجيع إعادة الاستعمار على يد مستوطنين إسرائيليين غير شرعيين؟ وبالإضافة إلى ذلك، فإن جيشًا ذا خبرة  -حتى وإن لم تكن لديه بالضرورة قيادة مدنية ملتزمة بـ"الصلابة الأدائية"- يعرف أفضل من أن يضع أهدافًا عسكرية مستحيلة التحقيق، مثل التدمير الكامل لحركة "حماس"، ما لم يكن في الحقيقة يمنح نفسه شيكًا على بياض لارتكاب إبادة جماعية. وقد بذل محامو إسرائيل جهدهم للترويج لعقيدة عسكرية جديدة تُسمّى "الشرّ الأقل"، تتيح لقواتهم انتهاك اتفاقيات جنيف متى شاؤوا، باسم "مصلحة الدولة". ولكن حتى مع هذا التمكين القاتم، يظل هدف التدمير الكامل مُفرِطًا في التمدّد. إذا خرج مراهق واحد مهزول من تحت أنقاض غزة رافعًا راية "حماس"، فإن الجيش الإسرائيلي الذي يجري التفاخُر به يكون قد فشل، وفق مقياسه هو، في إخضاع قطاع غزة بالقوة.
أمام هذا الانحياز الصادم إلى خيار الإبادة الجماعية، وأمام سلسلة عمليات القتل التي سبقته، واتفاقات وقف إطلاق النار متعمَّدة العقم التي تم تصميمها لتشتيت الانتباه عنه، ما الذي ينبغي على أصحاب الإرادة الطيبة أن يطالبوا به؟
أولًا، نحن نحتاج إلى توسيع فهمنا لمن هو الطرف الذي يحتاج إلى الحماية: نعم، الشعب المحاصَر والمستهدَف في غزة، وإنما ليس وحده. إن إمكانات الإبادة الجماعية تتوسّع بسرعة إلى الضفة الغربية (وإن كانت كثافة المستوطنات اليهودية غير الشرعية تجعل القصف الشامل هناك أكثر صعوبة)، وهي تطال مسبقًا آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ويستحق جميع هؤلاء الفلسطينيين حقوقًا إنسانية مساوية لحقوق مُضطهديهم الإسرائيليين. كما يستحقها كذلك آخرون في الإقليم: اللبنانيون والسوريون والإيرانيون واليمنيون الذين يعانون أيضًا من عنف الدولة الإسرائيلية وقصفها.
ثانيًا، ينبغي أن نأخذ في الحسبان احتمال أن إسرائيل لا تريد السلام وأنها لن تُصحّح مسارها ذاتيًا، وأن الضغط الخارجي وحده -الضغوط التي يمكننا وضعها ضمن ما تبقّى من حرياتنا في التعبير، ومن عملياتنا الديمقراطية- هو ما قد يحرّك المؤشّر نحو سلامٍ لائقٍ ومستدام. ومرةً أخرى، يجب أن يتّسع فهمنا للمؤسسات المتواطئة في الإبادة الجماعية والتي ينبغي أن تصبح أهدافًا للضغط هي الأخرى، ليشمل كل شيء من الإعلام الأميركي، القديم والجديد؛ إلى الحزبين السياسيين الأبرز لدينا؛ إلى معظم جامعاتنا وكنائسنا؛ إلى غالبية الدول الأوروبية؛ وصولًا إلى المؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة. ويمكن أن تكون شعارات، مثل: "الإبادة الجماعية ليست الشرّ الأقل"، و"حقوق متساوية لأناس متساوين"[8] شعاراتٍ ممكنة.
وأخيرًا، علينا أن نتذكّر أننا عندما نرفع أصواتنا سنواجه استدعاءاتٍ لذاكرة الهولوكوست لإسكات نقد إسرائيل. ومن دون المساس بتعاطفنا مع ضحايا تلك الحلقة المروّعة من تاريخ البشرية، فإن علينا واجبًا أخلاقيًا يُملي علينا الإصرار على أنه لا شعب، ولا دولة، ولا تحالف -مهما كان تاريخ معاناته- يمكن أن يكتسب يومًا حقّ ارتكاب إبادة جماعية. ببساطة، لا يوجد مثل هذا الحق، ولا يمكن أن يوجد حقّ في الإبادة الجماعية.
 
*إيف سبانغلر Eve Spangler: أكاديمية وباحثة أميركية متخصصة في علم الاجتماع السياسي وحقوق الإنسان، وتركّز أبحاثها على فلسطين/إسرائيل، والاستعمار الاستيطاني، والعنصرية، والإبادة الجماعية، والنظام الدولي لحقوق الإنسان. شغلت منصب أستاذة علم الاجتماع في جامعة بوسطن، ونشرت أعمالًا أكاديمية مؤثرة من أبرزها كتاب "فهم إسرائيل/فلسطين: العِرق، والأمّة، وحقوق الإنسان في الصراع" Understanding Israel/Palestine: Race, Nation and Human Rights in the Conflict، الذي يُعد مرجعًا نقديًا في دراسة الصراع من منظور بنيوي وتاريخي. تُعرف سبانغلر أيضًا بكتابتها العامة ونشاطها الفكري المدافع عن حقوق الفلسطينيين، وبمقاربتها التي تربط التحليل السوسيولوجي بالنقد الأخلاقي والسياسي للسياسات الاستعمارية والعنف الممنهج.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Ceasefires in the Gaza Genocide: A Historical Perspective
 
هوامش
[1] يُنسب إلى "المؤرّخ الجديد" الإسرائيلي البارز إيلان بابِه إدراكُ التناقض الكامن في قلب الصهيونية: إذ استخدم يهود أشكناز علمانيون إلى حدٍّ كبير ادّعاءً توراتيًا لتبرير طبيعة مشروعهم السياسي. وقد لخّص هذا التناقض بإيجاز قائلًا: "معظم الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يؤمنون بأنه وعدهم بفلسطين".
[2] Eve Spangler, 2019. Understanding Israel/Palestine: Race, Nation and Human Rights in the Conflict, 2nd edition. (Boston: Brill/Sense) p. 138
[3] Spangler, 2019, op. cit., p.108
[4]Spangler, 2019, op. cit. p.225.
[5] Ibid.
[6] Shlomo Sand, 2020. The Invention of the Jewish People. New York: Verso Books.
[7] Anne Irfan, 2025. A Short History of the Gaza Strip. New York: Norton & Co. I am indebted to Irfan’s succinct and elegant formulation of the current moment.
[8] أنا مدينة للناشط السياسي المتضامن مع فلسطين ستيفن لو باقتراح شعار "حقوق متساوية لأناس متساوين".
 
ملاحظة المترجم:
**تشير الشواهد التاريخية إلى أن الصهيونية لم تكن منذ نشأتها بريئة من منطق الإبادة أو الإزالة الجذرية، وإن اختلفت الأدوات واللغة. لم يكن التطهير العرقي الواسع في العام 1948 (النكبة)، كما وثّقه مؤرخون إسرائيليون جدد مثل إيلان بابِه، مجرد "نتيجة حرب"، بل سياسة هدفت إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين عن طريق المجازر والتهجير المنهجي وتدمير القرى، وهو ما يقترب بنيوياً من منطق الإبادة وإن لم تتم صياغته آنذاك بخطاب صريح عنها. ولا يتعلق الجديد اليوم بتبنّي العنف الجذري بحد ذاته، وإنما يتعلق بعلنيته، واتساعه، وتبريره الخطابي الصريح في تصريحات قادة سياسيين ودينيين، واستخدام أدوات عسكرية وتقنية تجعل التدمير الشامل ممكناً ومستمراً أمام أعين العالم. وبذلك لم تكن القطيعة في الجوهر بقدر ما هي في درجة الانكشاف، وحجم الفعل، وتحوله من ممارسة ضمنية إلى سياسة معلنة تُدار باسم الأمن والبقاء، وهو ما يجعل اللحظة الراهنة أكثر مباشرة خطورة، وليس بالضرورة انحرافاً عن المسار التاريخي.