عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Dec-2025

الدراية الإعلامية بوابة غير مرئية للتنمية*عطاف الروضان

 الراي 

على مدار ما يزيد على العقدين اعتدت ان انغمس في فكرة بقدر ما هي مهنية بقدر ما هي انعكاس لشغف شخصي يتطابق تماما مع أشعر به تجاه كل مشروع يعنى بالتمكين ابدأ بتنفيذه، وأتعامل معها على أنها فرصة بل نعمة تصادف أنني كنت في موقع معين وعليه يجب ان استغلها ايجابا بما يتناسب مع مهامي العملية، وتقاطعاتها مع ما أؤمن به وهو ان الجميع لهم الحق بالتمكين وسماع أصواتهم ومعرفة أحلامهم و آمالهم وتوقعاتهم من دوائر صنع القرار المختلفة.
 
وربما كان ذلك أهم الأسباب التي ساهمت بفكرة توزيع الفرص بين المحافظات وعدم حصر المشاريع الإعلامية التي تعني بالتمكين المجتمعي في العاصمة عمان أو فئة مجتمعية دون غيرها.
 
لذا لم يكن وقع مصطلح " الدراية الإعلامية" غريبا بشكل أو بآخر فهذا ما اعتدنا القيام به لسنوات، واليوم لم تعد الدراية الإعلامية ترفًا معرفيًا أو مهارة تقنية، بل أصبحت شرطًا أساسيًا للتمكين الفردي والجماعي، وأداة مهمة لتحقيق التنمية المستدامة وصناعة الأثر الاجتماعي.
 
وبخاصة عبر الإعلام المجتمعي، وتمكين النساء والشباب، والعمل مع الفئات المهمشة واللاجئين، يتضح أن الاستثمار في الدراية الإعلامية هو استثمار مباشر في الإنسان وقدرته على التأثير في محيطه ورفع الوعي المجتمعي وسماع كل الأصوات بشكل متساو .
 
و في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها المشهد الإعلامي والرقمي عالميًا، وما يرافقها من تدفق غير مسبوق للمعلومات المضللة والزائفة وخطابات الإقصاء والكراهية، برزت الدراية الإعلامية والمعلوماتية بوصفها مدخلًا استراتيجيًا لا غنى عنه لتعزيز الوعي الجمعي، وتحصين الفضاء العام، وتمكين الأفراد من التفاعل الواعي والمسؤول مع المعلومات ووسائل الإعلام.
 
من واقع الممارسة، أثبتت التجربة أن الدراية الإعلامية ليست مفهومًا نظريًا، بل ممارسة يومية تُبنى عبر التدريب، وإنتاج المحتوى، وإدارة المشاريع الإعلامية التنموية، وخلق مساحات آمنة للتعبير والمساءلة.
 
أظهرت التجارب الميدانية، سواء في تدريب العاملين في الإعلام أو تمكين المجتمعات المحلية من إنتاج قصتها الخاصة؛ أن امتلاك مهارات التفكيرالنقدي، والتحقق من المعلومات، وفهم بيئة الإعلام-وهو ما تتيحه الدراية الإعلامية- يشكّل حجر الأساس للتمكين الحقيقي، ويساهم مباشرة في سد الفجوات المعرفية والرقمية، وتعزيز المشاركة المجتمعية، ودعم مسارات التنمية.
 
لذا لا تنحصر الدراية الإعلامية في القدرة على استهلاك أو متابعة المحتوى الإعلامي، بل تنعكس في:فهم كيفية إنتاج الرسالة الإعلامية ومن يقف خلفها، تحليل الخطاب الإعلامي وربطه بالسياق السياسي والاجتماعي، التمييز بين المعلومة والرأي والتضليل، واستخدام الإعلام مساحة للتعبير والمساءلة والدفاع عن القضايا المجتمعية العادلة.
 
وهذا ما يقودنا إلى أن امتلاك هذه المهارات يحدث تحولًا نوعيًا في موقع الفرد: من متلقٍ إلى فاعل.
 
حيث أن التجربة العملية أثبتت أن الدراية الإعلامية:تمكّن النساء من استعادة أصواتهن داخل المؤسسات الإعلامية وخارجها، تمنح الشباب أدوات نقد الخطاب السائد وصناعة خطاب بديل، تتيح للفئات المهمشة تمثيل قضاياها ذاتيًا بدل التحدث باسمها، وتعزز الثقة بالنفس والقدرة على المشاركة العامة.
 
في مشاريع التمكين الإعلامي، التدريب على التفكير النقدي والإنتاج الإعلامي الأخلاقي – أحد أهم سمات الدراية الإعلامية- يعد مدخلًا لبناء قيادات إعلامية شابة، وليس مجرد تدريب مهني تقني.
 
وبذات الوقت هو نقطة لتلافي الدراية الإعلامية مع أهداف التنمية المستدامة في مجالات : التعليم الجيد عبر بناء مهارات التفكير والتحليل، المساواة بين الجنسين من خلال إعلام عادل وحساس للنوع الاجتماعي، الحد من عدم المساواة عبر إتاحة المنصات للأصوات المهمشة، وتعزيز السلام والعدالة بمواجهة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة.
 
ومن خلال العمل في الإعلام المجتمعي، تبيّن أن التنمية لا تتحقق دون إعلام واعٍ، قادر على مساءلة السياسات، وطرح البدائل، وربط الناس بقضاياهم اليومية، وهو ما انتهجناه بما يعرف ب"صحافة الحلول" أي أن لا تكتفي الصحافة بالإضاءة على المشاكل والتحديات وإنما تطرح تصورات للحلول متوافقة مع السياق المجتمعي، وبالمقابل فهم مجتمعي لأهمية الإعلام وأطره القانونية والأخلاقية الصارمة.
 
وهذا ما يجعل أثر "الدراية الإعلامية " واضحا في : ربط الرسائل الإعلامية بحاجات المجتمع، استخدام القصص الإنسانية المدعومة بالبيانات، تصميم حملات إعلامية تراكمية لا موسمية، قياس التغيير في الوعي والسلوك والسياسات.
 
من خلال التجربة التي امتد عبر سنوات تبين أن الإعلام القائم على الدراية يمكنه:تغيير الصور النمطية، التأثير في السياسات العامة، خلق مساحات حوار بديلة، دعم الحركات الاجتماعية السلمية كالعمل الحزبي والنقابي والمشاركة السياسية الإيجابية على العموم .
 
ورغم التفاؤل الكبير بهذا النهج إلا أنه لا يمكن تناسي تحديات عديدة قائمة أمام تعميق مفهوم الدراية الإعلامية بشكل عملي وسلس وأهمها: تسارع أدوات التضليل الرقمي والحاجة للتدريب والكفاءة المالية للحاق به، ضعف إدماج الدراية الإعلامية في التعليم الرسمي إذ أنه تم إدماج المفهوم بالمناهج ولكن لا يتم تدريسه بالطريقة المحترفة إذ يجب تدريب المعلمين على ذلك، الفجوة بين التدريب والممارسة داخل المؤسسات إذ نحتاج لتدريب عملي للكوادر من ناطقين موظفي علاقات عامة قسم الإعلام وغيرهم.
 
وبكل الحالات لا يجب تجاهل تحد الضغوط السياسية والاقتصادية على الإعلام المستقل، التي يبرزهنا دور الإعلام المجتمعي والتدريب المستدام كمساحات تشاور ومصارحة والتأشير على الفجوات والأخطاء واقتراح بدائل وحلول.
 
من واقع التجربة، يمكن القول إن الدراية الإعلامية هي بنية تحتية غير مرئية للتنمية، فهي لا تخلق فقط صحفيين أفضل، بل مواطنين أكثر وعيًا، ومجتمعات أقدر على الدفاع عن حقوقها وصناعة أثرها، وعلية لا يجب إغفال أن الاستثمار في الدراية الإعلامية هو استثمار طويل الأمد في العدالة، والمشاركة، والاستدامة وبالتأكيد بناء جسور الثقة بين أفراد المجتمع أنفسهم من جهة وبينهم وبين صناع القرار من جهة أخرى وذلك هو الأهم برأيي!.