عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Nov-2025

"فلسطين 36".. ملحمة تاريخية تعيد بناء الذاكرة بلغة بصرية عالمية

 كيف شكل الاستثمار الأردني الفلسطيني نموذجا جديدا لصناعة الأفلام بالمنطقة؟

الغد-إسراء الردايدة
يشقّ فيلم "فلسطين 36" طريقه في المشهد السينمائي العالمي كأحد أبرز الإنتاجات العربية في السنوات الأخيرة، ليس فقط بفضل قيمته الفنية وقراءته البصرية لحقبة تاريخية مفصلية، بل لأنه يكشف أيضا عن مسار جديد يتقدّم داخل المنطقة، وتحديدا في الأردن بدخول القطاع الخاص إلى صناعة الأفلام بطريقة أكثر تنظيما وتأثيرا.
الفيلم الذي يُعرض عربيا للمرة الأولى ضمن الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة ضمن قسم "روائع عربية" في البحر الأحمر، هو دراما تاريخية تعيد فتح لحظة مفصلية في تاريخ فلسطين تحت الانتداب البريطاني العام 1936، وتتابع شخصية يوسف الذي يتنقل بين قريته والقدس في زمن يتجه فيه المشهد بأكمله نحو صدام سياسي وعسكري حتمي.
وبفضل تنوع مواقع الإنتاج بين فلسطين والأردن، وبنية الشراكات الدولية التي تضم فلسطين، بريطانيا، فرنسا، الدنمارك، قطر، السعودية والأردن، يتحرك الفيلم في مساحة إنتاجية تعكس انفتاح السينما الفلسطينية على العالم من دون أن تفقد جذورها.
فبعد جولة عالمية بدأت في تورونتو ولندن وطوكيو وساو باولو، لا يُقرأ بوصفه عملا فنيا فحسب، وإنما بوصفه نموذجا لتلاقي مسارين كانا منفصلين طويلا: خط التجربة السينمائية الفلسطينية الممتدة منذ عقود، وخط الاستثمار الخاص الذي بدأ يدخل القطاع بوعي جديد ورؤية اقتصادية مدروسة.
بين المنتج الفلسطيني أسامة بواردي والمستثمر الأردني عزّام فخر الدين، تتشكّل قصة هذا الفيلم كما تتشكّل قصة صناعة كاملة تبحث عن مكانها في المشهد الدولي.
السرد البصري المؤثر لـ"فلسطين 36"
يقدّم فيلم "فلسطين 36" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر إحدى أهم عوداتها الفنية إلى الذاكرة التاريخية، إذ تختار هذه المرة لحظة شبه غائبة من السرد البصري الفلسطيني: ثورة 1936 ضد الانتداب البريطاني في محاولة لربط الماضي بالحاضر، عبر تصوير حقبة تعيد ترتيب الوعي بما جرى قبل النكبة.
 ويتنقّل الفيلم بين القدس والقرى الريفية عبر شخصية يوسف، الذي يختبر صعود الحركة الشعبية الفلسطينية بالتزامن مع ازدياد الهجرات القادمة من أوروبا.
 
ويرى المنتج الفلسطيني أسامة بواردي أن العودة إلى تلك الحقبة لم تكن "بحثا في الماضي" بقدر ما كانت سعيا لقراءة جذور ما يحدث اليوم.
ويقول إن "الانتداب البريطاني وما نتج عنه من تحولات سياسية واجتماعية يظل مفتاحا لفهم اللحظة الحالية"، ولذلك حرص الفريق على أن يحمل الفيلم روح الملحمة التاريخية دون أن يتخلى عن الحميمية الإنسانية، لأن الشخصيات الصغيرة هي التي تمنح التاريخ وزنه الحقيقي.
 وعلى امتداد مسيرتها، عالجت آن ماري جاسر لحظات مختلفة من التاريخ الفلسطيني، من "ملح هذا البحر" إلى "لما شفتك" و"واجب".
 لكنها تعود في "فلسطين 36" إلى فترة أبعد زمنيا، مع رغبة واضحة في سد فجوة بصرية هائلة تركتها السنوات السابقة. اعتماد جاسر على فريق إبداعي محلي وعالمي في آن، بين هيام عباس، وكامل الباشا، وصالح بكري، وياسمين المصري، وظافر العابدين وجيريمي آيرونز، جعل التجربة تمتدّ على طبقات متعددة من الأداء، تجمع بين الذاكرة الفلسطينية والخبرة الإنتاجية العالمية. وتضيف جاسر أن "اختيار الممثلين كان ضرورة درامية فرضتها طبيعة السرد".
 أسامة بواردي.. شريك الذاكرة وصانع البنية الإنتاجية
تتعمّق بنية الفيلم الفنية والإنتاجية عبر حضور المنتج الفلسطيني أسامة بواردي، أحد الأسماء التي ارتبطت بتحولات السينما الفلسطينية في العقدين الأخيرين. ويشير تاريخ بواردي إلى مسارٍ طويل من التعاون الوثيق مع آن ماري جاسر، بدأ في "ملح هذا البحر" (2007)، أول فيلم روائي طويل لمخرجة فلسطينية يُمثّل فلسطين في الأوسكار، ثم تكرر في "لما شفتُك" (2012) و"واجب" (2017)، وصولا إلى "عَلَم" (2022) الذي رسخ حضور السينما الفلسطينية في مهرجانات كبرى حول العالم.
ويرى بواردي أن العمل مع جاسر "ليس شراكة إنتاجية فقط، بل علاقة استمرارية"، إذ تطورت بينهما لغة مشتركة تقوم على الدفاع عن الرؤية الفلسطينية وعدم التنازل عنها رغم اتساع شبكة الشركاء.
 ويؤكد أن "فلسطين 36" كان الامتحان الأكبر في هذه المسيرة، لأنه يتطلب تنقلا بين مواقع حساسة في فلسطين والأردن، وسط ظروف سياسية متقلبة.
 ويكشف أن الشركة التي يديرها في عمّان ورام الله "كانت العمود الفقري" لاستمرار العمل، وأن القدرة على الانتقال بين البلدين بسهولة سمحت للفريق بتجاوز أيام كان فيها التصوير داخل فلسطين "شبه مستحيل"، فالأصالة التي يمنحها المكان لا يمكن إيجادها في أي موقع بديل، لكن البيئة السياسية المتوترة كانت تجعل إنجاز كل مشهد تحديا يوميا.  ويقول بواردي إن "الأردن لم يكن مجرد خيار بديل، بل كان امتدادا طبيعيا لهوية الفيلم".
 فالبنية التحتية المتقدمة، وسرعة التسهيلات، وتوفر الكوادر المحلية، إضافة إلى خبرة البلد الطويلة في استضافة الإنتاجات العالمية، جعلت الأردن جزءا أساسيا من الروح التي اكتسبها العمل.
 ويرى أن العلاقة بين السينما الفلسطينية والأردنية لم تعد علاقة "خدمة إنتاجية" بل علاقة "بناء مشترك".
عزّام فخر الدين.. الإرث العائلي والشغف بدعم الفن والسينما
يحمل الفيلم جانبا آخر من الحكاية يتمثل في دخول رجل الأعمال الأردني عزّام فخر الدين إلى إنتاج الفيلم. ويقول فخر الدين: "جدي كان من ثوار 1936، ووالدي عاش تجربة اللجوء وهو طفل. شعرت أن الفيلم يروي جزءا من هوية عائلتي". ولهذا السبب، لم يأتِ إلى العمل بصفته مستثمرا يسعى للربح، بل مشاركا في مشروع ثقافي وتاريخي.
ومع مرور الوقت، تحوّل دوره من "منتج منفّذ" إلى "منتج مشارك"، بعدما بدأ يقدّم رأيا فنيا، ويجلب مستثمرين، ويشارك في تفاصيل القرارات الإنتاجية.
 ويرى أن تجربة "فلسطين 36" علّمته أن السينما ليست بعيدة عن منطق السوق. "العمل المنظّم القائم على رؤية واضحة يمكنه أن يحقق عائدا"، يقول فخر الدين، مضيفا أن القطاع الخاص يمكن أن يدخل السينما حين تتوفر له المعايير نفسها التي يطلبها في أي مشروع اقتصادي آخر: خطة توزيع، إدارة مالية، ونظام مخاطرة محسوب.
ووفقا لـ عزام فخر الدين فإن "الاستثمار السينمائي" يعود إلى التحول الذي أحدثته رؤية التحديث الاقتصادي الأردنية، التي قدّمت نظام استرداد نقدي يتراوح بين 25 % و45 % من الإنفاق المحلي، مع إمكانية وصول الإنتاجات الكبيرة التي تحمل عناصر ثقافية أردنية إلى الحد الأعلى.
 ويعتبر أن هذا المستوى من التحفيز "يشبه ما تقدّمه دول رائدة" مثل المملكة المتحدة وإسبانيا، وأنه يجعل الاستثمار في السينما "فرصة اقتصادية حقيقية وليس مغامرة شعورية".
ويرى فخر الدين أن الأردن يقف اليوم أمام مرحلة فاصلة، حيث لم يعد مجرد بلد لتصوير الأعمال الأجنبية، بل منصة إنتاج عربي قادرة على الشراكة الفعلية، وتجربة "فلسطين 36" مثال واضح على ذلك.
ملحمة التاريخ والإنسان.. 
كيف صُنع توازن الصور؟
رغم ضخامة المشاهد، وبناء مواقع تاريخية كاملة، وتصميم معارك واسعة، حافظ الفيلم على محور إنساني واضح.
 ويقول بواردي إن "التفاصيل الصغيرة هي التي تجعل المشاهد يرى التاريخ بعيون الشخصيات"، ولذلك كان اختيار الممثلين جزءا أساسيا من بناء الملحمة. فالفيلم يجمع بين هيام عباس وصالح بكري وكامل الباشا وياسمين المصري وظافر العابدين، إلى جانب حضور عالمي مثل جيريمي آيرونز وروبرت أرامايو وويليام كانينغهام، ضمن مزيج يتيح للفيلم أن يخاطب السوق الدولية دون أن يتنازل عن لغته أو هويته.
يرى أسامة بواردي أن "فلسطين 36" ليس مجرد حدث فني، بل مساحة صوت فلسطيني في لحظة سياسية قاسية، ويؤكد أن "الجوائز ليست الهدف"، بل القدرة على فتح نقاش جديد حول دور الانتداب البريطاني ومقدمات الصراع، وهي حقبة ظل العالم يتجنب النظر إليها بوضوح. ويشير إلى أن الفيلم "قدّم الماضي من أجل الحاضر"، وأنه تَشكَّل في لحظة إنتاجية صعبة جعلته "أكبر وأعقد فيلم فلسطيني يُنجز حتى الآن"، لكنه أيضا، كما يصفه، "بداية مرحلة جديدة"، لأن الشراكة الفلسطينية–الأردنية، الممتدة دوليا، أرست نموذجا يمكن البناء عليه.
يشرح بواردي أن القرار بالعودة إلى عام 1936 لم يكن بحثا في الماضي بقدر ما كان سعيا لقراءة جذور الحاضر.
 فالانتداب البريطاني وما نتج عنه من تحولات سياسية واجتماعية يظل مفتاحا لفهم ما يحدث اليوم في فلسطين. ولهذا السبب، حرص الفريق على إنتاج فيلم يحمل روح الملحمة التاريخية، لكنه لا يتخلى عن التفاصيل اليومية والحميمية التي تجعل الشخصيات قريبة منّا.
بنى الفريق مواقع تاريخية كاملة، ورمّم قرى، وخطط لمعارك ومشاهد جماعية واسعة، لكن تصميم الإنتاج ظلّ ملتزما بما يسميه بواردي "الوجه الإنساني للتاريخ"، حيث يقف المشهد الملحمي على أكتاف شخصية نعرفها وتفاصيل نلمسها.
شراكات دولية واسعة ورؤية إبداعية 
يقدّم أسامة بواردي تصورا واضحا لطبيعة القوة التي يقف عليها "فلسطين 36"، ويرى أن هذا الفيلم لم يكن ليستقيم دون شبكة الشراكات الإنتاجية الواسعة التي التفّت حوله منذ لحظاته الأولى.
 بالنسبة إليه، لم يكن اتساع هذه الشبكة "زخرفة دولية"، بل شرطا أساسيا لحماية استقلالية المشروع ودفعه إلى مستوى إنتاجي يليق بقصته. فالبنية التي تكوّنت حول الفيلم لم تُبنَ على منح متفرقة، بل على منظومة عربية ودولية رأت أن إعادة فتح عام 1936 على الشاشة فعل ثقافي وسياسي يستحق دعما منظما.
 يتوقف بواردي مطولا عند الدور الأردني، ويعتبره "عنصرا حاسما" في حماية الفيلم واستمراره. فالأردن، بمؤسساته وأفراده، لم يوفّر فقط بنية إنتاجية احترافية، بل وفّر أيضا مظلة أمان عندما أصبح التصوير داخل فلسطين محفوفا بالمخاطر.
 يذكر الهيئة الملكية للأفلام، الصندوق الأردني للأفلام، ومجموعة رؤيا الإعلامية ممثلة بـ ميشيل وفارس الصايغ، إضافة إلى مؤسسات ثقافية مثل مؤسسة خالد شومان، ومؤسسة غياث ونادية سختيان، ومؤسسة منيب وأنجيلا المصري. 
هذا إلى جانب دعم لوجستي وفني امتد من مواقع التصوير البديلة حتى إدارة الفرق، مؤكدا أن هذا الحضور الأردني أعاد تعريف مفهوم الإنتاج المشترك، إذ جعل من الأردن شريكا فعليا في حماية الرؤية الفلسطينية، لا مجرد بلد مناسب للتصوير.
 ويشرح بواردي أن الشبكات الدولية والمحلية لم تكن تمويلا فحسب، بل شكّلت طبقة من "الحماية" في لحظة إنتاجية معقدة.
 فحين توقف التصوير داخل فلسطين بسبب القيود الأمنية، كان الأردن جاهزا بفضل هذه الشراكات لتوفير مواقع بديلة، وفرق فنية، وتسهيلات إدارية أبقت الروح الأصلية للفيلم حيّة.
 ويشير إلى عشرات الأسماء الأردنية التي دعمت المشروع، من بينها شركة سليت، وسهى شومان، وعصام وسامية سلفيتي، وعبدالله التركي، وخليل وخالد مقدادي، ورلى قمحاوي، وزاهي خوري، ووسيم سلفيتي، وخالد حداد وغيرهم، ممن قدموا دعما جعل استمرار التصوير ممكنا في أصعب الظروف.
 وبالنسبة له، فإن هذا النمط من الامتداد بين فلسطين والأردن، والمتصل بشبكات عربية ودولية، يمثل جوهر مستقبل صناعة السينما في المنطقة: منظومة إنتاج قادرة على الصمود، وعلى خلق نموذج تعاون يمكّن الأفلام العربية من التنافس عالميا دون أن تتنازل عن هويتها أو استقلاليتها.
 الأردن.. من موقع تصوير 
إلى صناعة حقيقية
يؤمن فخر الدين بأن فيلم "فلسطين 36" فتح بابا جديدا أمام الأردن ليكون أكثر من مجرد بلد يستضيف الإنتاج الأجنبي. فالبنية التحتية، ووجود الكوادر، ونظام التحفيز، كلها تشكل بيئة تقترب من المعايير العالمية. ويضيف: "هناك فجوة بين قدرة الأردن على التصوير وقدرته على الإنتاج، لكن هذه الفجوة بدأت تُردم بفعل المشاريع العربية المشتركة".
ويشير إلى أن القطاع الخاص سيدخل بقوة عندما تُقدَّم له مشاريع ببيانات واضحة: خطة توزيع، هيكل مالي، ونسب مخاطرة محسوبة. ويرى أن المشكلة ليست في غياب رأس المال، بل في غياب أدوات التواصل مع المستثمرين.
يوازن فخر الدين بين البعدين السياسي والاقتصادي، لكنه يؤكد أن "فلسطين 36" لا يمكن التعامل معه كاستثمار فقط. فالفيلم "يواجه سردية عالمية غير عادلة، ويعيد قراءة تاريخ مُغيب"، وهذا يعطيه قيمة تتجاوز الربح المباشر.
 لكنه يشير أيضا إلى أن الصناعة المحترفة قادرة على تحقيق عوائد، وأن التجربة علّمته أن السينما "ليست بعيدة عن قواعد أي مشروع ناجح".
ويرى أسامة بواردي وعزّام فخر الدين أنّ التجربة التي مرّا بها في "فلسطين 36" لا تكشف فقط حجم التحديات السياسية والإنتاجية، بل تكشف أيضا ثغرة عميقة في وعي المستثمرين المحليين تجاه قطاع السينما.
 فبينما كان بواردي يصف إصراره على إنجاز الفيلم رغم الحرب والقيود قائلا إن العمل كان يحتاج "عنادا" يشبه قول سميح القاسم: عنيد أنا كالصخور إذا حاولوا عصرها، كان فخر الدين يقدّم قراءة مكمّلة تؤكد أن الصناعة لا تحتاج العناد وحده، بل تحتاج أن تدرك السوق المحلية بأن الاستثمار في السينما ليس عملا عاطفيا أو مغامرة فردية، بل قطاعا اقتصاديا كاملا يساهم في خلق وظائف، وتحريك السياحة، وتوسيع الحضور الثقافي للدول.
ويشير فخر الدين إلى أن جزءا كبيرا من التحدي يكمن في نقص الوعي داخل القطاع الخاص، بينما يعتبر بواردي أن غياب الفهم الحقيقي لدور السينما في الاقتصاد يضعف قدرة المشاريع العربية على التطور. هكذا تلتقي رؤيتهما عند نقطة واحدة: الحاجة إلى منظومة توعية أوسع تشجع المستثمرين المحليين، وتقدّم لهم أدوات التقييم المهني، وتفتح الباب لشراكات أكبر، كي تصبح الأفلام العربية مشاريع مستدامة، لا جهودا فردية محكومة بالصمود وحده.
يكشف "فلسطين 36" عن معادلة جديدة في السينما الفلسطينية والأردنية: مشروع يحمل جذورا سياسية عميقة، لكنه يقف أيضا على أرض صلبة من الحسابات الإنتاجية الحديثة.
 تجربة بواردي وفخر الدين تُظهر أن صناعة الأفلام في المنطقة لم تعد مبادرات متفرقة، بل بناء مؤسسي قادر على إنتاج أعمال كبيرة تتنافس عالميا.