عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2019

مبدأ أميركا أولاً يضع سورية آخِراً

 الغد-كريستوفر آر. هِل

دنفر– ما من صراع في الشرق الأوسط يتسم بمثل هذا القدر من التعقيد الذي يتفرد به الصراع المحتدم في سورية. وتشمل المعركة التي تدور رحاها هناك حكومة معاكسة تماماً للقيم الغربية، وتمرداً سُنّياً متطرفاً استولى عند مرحلة ما على الأراضي الحدودية الواقعة بين سورية والعراق، وشق طريقه بالقتال حتى بوابات بغداد. وكان الرهان على هذه الحرب مرتفعاً جداً، إلى الحد الذي جعل مجموعة متنوعة من القوى الأجنبية -بما في ذلك روسيا وتركيا وإيران وحزب الله- تنجذب إليها جميعها.
بيد أن الحروب التي تُخاض في سورية عديدة في حقيقة الأمر. وأحد الصراعات الدائرة هناك، الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، معروف جيداً لدى الجمهور الأميركي. لكن الحرب الأكثر صعوبة على الفهم هي تلك التي تستهدف خلافة عائلة الأسد، التي حكمت البلاد كأسرة علمانية لما يقرب من الخمسين عاماً. وثمة صراع ثالث يتضمن أكراد شمال سورية، الذين انضموا إلى الولايات المتحدة في محاربة تنظيم “داعش”، لكن جهودهم أثارت المخاوف بين القادة الأتراك من أن تُفضي تطلعات السكان الأكراد في سورية إلى تشجيع نظرائهم من الأكراد في تركيا.
والآن، يضاف إلى هذا الصراع متعدد الجوانب والأطراف رئيس أميركي لا يشعر بالارتياح مع إدراك الفوارق الدقيقة والتفاصيل. ولا يملك دونالد ترامب عقلية أممية، ولا يفهم الرسالة التي تنقلها القوة الأميركية. ولكن، في حين كان من الممكن أن يُغفَر لترامب زعمه بأن مصلحة أميركا الوحيدة في سورية كانت إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش”، فإن قراره الأخير بسحب كل القوات الأميركية من هناك -الذي برره بإعلان نصر غير حقيقي على هذا التنظيم- لا يمكن تبريره.
من الواضح أن قرار ترامب سيشجع بشار الأسد، الذي كان حكمه لسورية كارثياً. وقد أظهر الأسد على نحو ثابت عجزه عن الإبحار عبر التعقيدات التي تحيط بالأزمة، بما في ذلك التحول السريع إلى حياة الحضر والمدن، وما ترتب على ذلك من اتجاه السُنّة الريفيين النازحين بفِعل تغير المناخ إلى التطرف؛ واحتضان السنة المتطرفين في العراق المجاور في خضم محاولات توطيد السلطة السياسية الشيعية في بغداد؛ ونمو المشاعر القومية الكردية في المنطقة.
كان الأسد يعلم من هو الذي يمكن أن يستدعيه لمساعدته على الاحتفاظ بقبضته على السلطة، وكان ضخ مجموعات روسية وإيرانية وشيعية في الإقليم كافياً لتحويل وجهة المد لصالحه. وقد أعطى هذا نظامه فرصة جديدة للحياة في منطقة ليست معتادة على منح القادة فرصة ثانية. ومع ذلك، يبدو الأسد، مثله في ذلك كمثل البوربون الفرنسيين، وكأنه لم يتعلم أي شيء ولم ينس أي شيء من ثمانية عشر عاماً قضاها في السطلة، ومن غير المرجح أن يذهب إلى تعزيز انتصاره المزعوم بتقديم الهياكل غير الفيدرالية اللازمة لحكم سورية بشكل فعّال.
كانت سياسة الولايات المتحدة في سورية، وهي السياسة التي خاض ترامب حملته الانتخابية ضدها والتي تخلى عنها رسمياً الآن، تستند منذ فترة طويلة على ركيزتين: تحقيق الاستقرار في العراق وهزيمة “داعش”. وقد عملت القوات الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم لفترة وجيزة في عهد ترامب، مع المقاتلين المحليين لتركيع “داعش”. ولكن، على النقيض من ادعاءات ترامب، لم ينهزم تنظيم “داعش” ولم يمت؛ وفي غياب مؤسسات قابلة للحياة وترتيبات سياسية مستقرة في سورية، من المرجح أن يعود التنظيم إلى الظهور في هيئة أو أخرى.
بدلاً من التصرف أحادي الجانب، كما فعل بوضوح، كان من الواجب على ترامب أن يطلب من فريق العمل التابع له المعني بالسياسة الخارجية توضيح عدد من الأسئلة الشائكة. ما هو الفصل الختامي الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى إليه في سورية؟ وبالنظر إلى الدعم الذي يتلقاه الأسد من روسيا وإيران وتركيا (وهي القوى التي لا يمكن أن نعتبر مصالحها في سورية تافهة)، فإلى أي مدى قد يكون رحيله محتملاً؟ وأي الحلول السياسية قد تكون في حكم الممكن؟ وهل الانتخابات ممكنة أو مرغوبة في سياق خال من أي مؤسسات عاملة؟
ولكن، حتى مجرد طرح مثل هذه الأسئلة البسيطة -التي أعترف شخصياً بأنها بلا إجابات سهلة- بدا وكأنه خارج إطار قدرة ترامب ونطاق خبرته. فبدلاً من طرح أي أسئلة، اختار ترامب إعلان النصر والرحيل. ويتناسب هذا القرار، والانسحاب المتوقع من أفغانستان، وربما من أماكن أخرى، مع نمط مألوف: غالباً ما تسترشد التدخلات الأميركية مع العالَم باعتقاد غير ناضج وسابق للأوان بأن الهدف قد تحقق.
لكن الانسحاب من سورية يبدو أكثر وضوحاً -وربما أشد ضرراً- من أغلب مثل هذه القرارات، لأن الذي أمر به هو رئيس أميركي من الواضح أنه لا ينطوي على أي إدراك لأفعاله أو تبعاتها، فضلاً عن عجزه عن قياس أفعاله على دروس التاريخ. فالحقائق ليست معرفة، والمعرفة ليست حكمة، ولكن من منظور ترامب للعالَم، ليس هناك مجال ببساطة لفكرة أن التاريخ من الممكن أن يُعَلِمُنا وربما يكرر نفسه، أو أن هناك روابط بين العديد من التحديات الأمنية الأكثر إلحاحاً التي تواجه العالَم، سواء كانت سورية، أو روسيا، أو إيران.
يُنظَر إلى السياسة الخارجية الأميركية عادة على أنها تفويض -ليس فقط لصرامة الرئيس وحسمه، بل وأيضا لمسؤوليته عن استخدام كل الموارد المتاحة تحت تصرفه للتصدي لأمور تتعلق بالدولة والأمن الوطني، والتي لا قد لا يراها أو يدركها عامة الناس. ولكن في حالة ترامب، لا يوجد أي شيء من هذا. وبدلاً من ذلك، يُصَوَّر كل التهديد والوعيد والتبجح والأخطاء الفادحة المرئية للجميع على أنها نتاج لدراسة متأنية وعبقرية استراتيجية.
 
*مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السابق لشرق آسيا، كان سفيراً للولايات المتحدة في العراق، وكوريا الجنوبية، ومقدونيا، وبولندا، ومبعوثاً أميركياً خاصاً لكوسوفو، ومفاوضاً لاتفاقيات دايتون للسلام، وكبير المفاوضين الأميركيين مع كوريا الشمالية من 2005-2009. وهو المستشار الرئيسي لمستشار الارتباط العالمي وأستاذ الممارسة في الدبلوماسية في جامعة دنفر، ومؤلف كتاب “البؤرة الأمامية”.
 
*خاص بـ “الغد”، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”