الغد-تيسير النعيمات
يؤشر قرار مجلس التعليم العالي الخميس الماضي بالبدء بإجراء دراسة مسحية على التخصصات الموجودة حاليا في الجامعات والكليات الرسمية والخاصة، بهدف رسم سياسة مستقبلية لاستحداث تخصصات جديدة تتوافق مع حاجات سوق العمل وتضمن عدم تكرار هذه التخصصات، إلى وجود خلل في التوسع في فتح كليات وتخصصات جديدة من دون دراسة سوق العمل، والتحقق من وجود أعضاء هيئة تدريسية كفؤين لتدريس هذه التخصصات، فضلا عن التجهيزات والمختبرات اللازمة.
وسبق وأن اتخذ المجلس قبل سنتين قرارات تتعلق بالتخصصات المشبعة والراكدة والمستحدثة، إذ صدر عديد الدعوات من مسؤولين تؤكد أهمية رصد ومتابعة أعداد الطلبة والخريجين في البرامج المستحدثة والجديدة، بما في ذلك “مهن المستقبل”، مثل: الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وعلم البيانات الضخمة، والأمن السيبراني، والتسويق الرقمي والمتاجر الافتراضية، وتكنولوجيا “البلوك شين”، وهندسة الأنظمة الذكية وغيرها، إضافة للتخصصات المرتبطة بالطاقة، مثل هندسة الطاقة المتجددة والطاقة البديلة.
وحسب الإحصائيات الرسمية يوجد على مقاعد الدراسة قبل بدء العام الدراسي الحالي 2290 طالباً وطالبة في تخصص الأمن السيبراني، و2792 في الذكاء الاصطناعي والروبوتات وعلم البيانات، ناهيك عن أعداد من يدرسون خارج المملكة.
وما يجري أن المجلس كان يتوسع بالموافقة لجامعات رسمية وخاصة بفتح تخصصات مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وغيرهما من دون دراسة لمدى حاجة سوق العمل أو قدرة الجامعات على تخريج طلبة في هذه التخصصات يملكون المهارات والمعارف التي يتطلبها سوق العمل.
كما أن رئيس ديوان الخدمة المدنية سامح الناصر أعلن قبل شهور أن عدد طلبات التوظيف التراكمي بلغ 455604 طلبات من حملة المؤهل الجامعي ودبلوم كلية المجتمع الشامل، بينما نسبة التعيينات في المتوسط تبلغ 2.3 % في العقد الاخير من اجمالي عدد الطلبات الكلية في الديوان، ناهيك عن ان قدرة الجهاز الحكومي على استيعاب الخريجين سنوياً محدودة.
ويتخرج حوالي 70 ألفا بين حامل دبلوم كلية مجتمع وجامعي سنويا، ولا يستطيع الجهاز الحكومي استيعاب اكثر من 7 الى 8 آلاف خريج منهم، بواقع 12 % فقط، وجلهم في وزارتي التربية والتعليم والصحة، وثمة حاجة لـ8 سنوات لاستيعاب خريجي العام الدراسي الواحد، وبالتالي لا بد من التركيز على التخصصات والمهن التي يحتاجها القطاع الخاص والأهلي، الذي يعتبر المشغل الحقيقي والأساس للقوى البشرية في المجتمع، بحسب الناصر.
كما توسع مجلس التعليم العالي في منح تراخيص لانشاء جامعات وتخصصات طبية في عدد من الجامعات، ثم ليقوم المجلس ذاته باتخاذ قرار في أيلول (سبتمبر) الماضي بالتوقف عن قبول أي طلبات لاستحداث كليات جديدة في تخصصي الطب وطب الأسنان، وذلك لمدة خمس سنوات مقبلة.
وكان وزير التربية والتعليم وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور عزمي محافظة، اكد في تصريح لـ”الغد” أن من اولوياته، اعادة النظر في سياسات القبول المتعلقة بأعداد الطلبة المقبولين، خصوصا في التخصصات الطبية التي وصفها بـ”الفلكية”، وفتح كليات وتخصصات جديدة، من دون حاجة سوق العمل إليها، أو من دون توافر أعضاء هيئة تدريسية في هذه التخصصات.
كما كان مجلس التعليم العالي وجه قبل نحو عامين الجامعات التي سمح لها بفتح تخصصات جديدة إلى ابتعاث اعضاء هيئة تدريسية لهذه التخصصات، وتجهيز المختبرات اللازمة، كما وجه بمراجعة الخطط الدراسية وعمل دراسات جودة للتحقق من مخرجات كل مساق ليؤدي الغرض منه، بإكساب الطالب المعارف والمهارات الاساسية لكل مساق، فضلا عن تدريس مساقات متعلقة بأخلاقيات المهنة ومفاهيم الريادة والأعمال والبحث العلمي والابتكار والتفكير الناقد والتحليل.
وللمشهد صورة أخرى، إذ إن الثقافة السائدة لدى الطلبة لم تتغير، حيث اظهرت تحليلات خيارات الطلبة ضمن قائمة القبول الموحد ان “ثقافة الأردنيين لم تتغير، إذ بقي الطلبة وذووهم يفضلون التخصصات الطبية وهي مشبعة وراكدة على التخصصات التقنية المستحدثة والمطلوبة في سوق العمل”.
وبينت التحليلات أن 24 ألف طالب وضعوا خيارات تخصص الطب في طلب القبول الموحد، بينما وضع خيار تخصص تكنولوجيا الزراعة العضوية الذكية 810 طلاب، وتخصص تكنولوجيا الانظمة الهيدروليكية في الآليات الثقيلة 426 طالبا، في حين وضع 773 طالبا تخصص تكنولوجيا خدمة المركبات الكهربائية والهجينة، و314 طالبا تخصص تكنولوجيا التكييف والتبريد، وجميعها تخصصات مستحدثة في جامعة البلقاء التطبيقية.
وجرت العادة خلال السنوات الماضية، ان يعقد القائمون على ديوان الخدمة المدنية مؤتمرا صحفيا قبيل اعلان نتائج امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، وقبل الشروع في فتح باب تقديم الطلبات لقائمة القبول الموحد، ويطلقون خلاله دراسة حول العرض والطلب على التخصصات العلمية لحملة المؤهل الجامعي والدبلوم الشامل لكليات المجتمع في الخدمة المدنية سنويا.
هذه الدراسة، على أهميتها، الا ان الجهات القائمة عليها، وهي الى جانب ديوان الخدمة المدنية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وهيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها، وجميعها مؤسسات رسمية، لا تقدم أجوبة عن العديد من الأسئلة، ما يجعل الدراسة وحدها غير كافية حتى للمساهمة في الحد من البطالة بين الخريجين.
وقال رئيس ديوان الخدمة المدنية سامح الناصر، في المؤتمر الصحفي، إن عدد العاملين في الخدمة المدنية يشكل 13 % من إجمالي قوة العمل (مشتغلون + متعطلون)، و(16 %) تقريبا من إجمالي المشتغلين في المملكة، اذ يعكس ذلك حجم القطاع العام مقارنة ببقية القطاعات، وتبلغ نسبة الموظفين في الخدمة المدنية من إجمالي عدد السكان البالغة 2 %، وهي قريبة من النسب في الدول الأوروبية، ومن أفضل النسب في المنطقة العربية.
فإذا كان ذلك كذلك، كما يقول الناصر، وبما ان الحكومة تؤكد دوما وعلى لسان كبار مسؤوليها ان مهمتها التشغيل لا التوظيف، اي ان مهمة التوظيف اصبحت تقع على كاهل القطاع الخاص، فهل أوجدت الحكومة ظروفا ملائمة حتى يتمكن هذا القطاع من التوسع والنمو وبالتالي خلق مزيد من فرص العمل للأردنيين، وبما يسهم في تخفيف مخزون ديوان الخدمة من طلبات التوظيف، والحد من مشكلتي الفقر والبطالة؟
وأما في ما يتعلق بالخريجين والتخصصات الراكدة والمشبعة، فهل تكمن مشكلتنا في الشهادات ام المهارات، وجودة الخريجين لا شهاداتهم؟
فبعض التخصصات التي تصنف بأنها راكدة ومشبعة لا يجد خريجو بعضها أي مشكلة في الحصول على فرصة عمل، بل يتهافت أصحاب العمل عليهم، لاسيما من خريجي بعض الجامعات التي يثقون بمستواها، حتى إن بعض الخريجين في إحدى الجامعات يتلقون عروضا للعمل حتى قبل حصولهم على مصدقاتهم الجامعية، بل إن نسبة الحصول على فرصة عمل خلال ستة شهور من تاريخ التخرج وصلت الى نحو 90 % من هذه الجامعة.
وفي المقابل، لماذا لا يجد بعض خريجي تخصصات مثل ادارة الاعمال والمحاسبة وتكنولوجيا المعلومات فرصة عمل واحدة سنوات طويلة، في الوقت الذي يجد فيه خريجون آخرون من نفس التخصصات فرصا جيدة وبسرعة؟
فعلى سبيل المثال، فإن خريج المحاسبة الحاصل على شهادات (سي بي ايه) و(سي ام ايه) و(وسي اي ايه) يجد بسهولة فرص عمل برواتب مجزية.
لا شك أن جامعاتنا بحاجة الى اعادة النظر وتطوير برامجها وخططها الدراسية بشكل مستمر، وأن تركز على التدريب وحاجات سوق العمل من المهارات بدلا من الاكتفاء بتخريح من يحملون الدرجات والشهادات من دون مهارات.
كما نشهد تناقضا في سلوك مسؤولين مع أقوالهم حين يدعون الطلبة إلى عدم التوجه لدراسة الطب لعشر سنوات مقبلة، نظرا لوجود نحو 39 الف طالب طب وطب اسنان على مقاعد الدراسة حاليا، في حين يتم منح تراخيص لإنشاء جامعات وكليات طبية وتقديم مزيد من التسهيلات والتنازلات في شروط الترخيص، حين يتم تخفيض المسافة التي تفصل بين المستشفى التعليمي والحرم الجامعي، وتخفيض نسبة ملكية الجامعة للمستشفى التعليمي.
وضمن سياسته في استحداث تخصصات حديثة ومطلوبة لسوق العمل، وافق مجلس التعليم العالي لعدد من الجامعات على فتح هذه التخصصات، لكن هل تأكدت هيئة الاعتماد، وهل تثبت المجلس من قدرة هذه الجامعات على توفير اعضاء هيئة تدريس قادرين على تدريس هذه التخصصات؟ وهل تتوفر المختبرات والتدريب اللازم ليمتلك خريجو هذه التخصصات المهارات اللازمة؟ وهل تتوفر لدينا دراسات عن حاجة سوقي العمل المحلي والإقليمي لمثل هذه التخصصات ونوعية الخريجين؟
إن اكثر دول العالم تطورا مثل ألمانيا لا تربط الشهادات بفرص العمل، فنصف خريجي جامعاتها لا يعملون في مجال الشهادات التي حصلوا عليها.
من جهتنا، نحتاج الى نظرة مختلفة ومعالجة متطورة لقضايا التخصصات المشبعة والراكدة؛ لأننا وخلال سنوات قليلة فقط، سنقف امام حقيقة قوامها أن كل او معظم التخصصات باتت مشبعة وراكدة.