عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Feb-2023

عن مسوّغات الحرب وعن أخلاقياتها* عيسى الشعيبي
سوشيال ميديا -
وضع المنتصرون في الحروب السابقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من حروب لاحقة، القواعد الناظمة لتصرفات الجيوش في ميدان المواجهات، وتواضعت الدول على دليل عمل لقواتها بعد انتهاء المعارك بالسيطرة على مناطق حضرية، وألزمت الحكومات جيوشها أيضاً بمعايير سلوك واضحة، وأحياناً قابلة للتأويل، تحدد مسؤولياتها القانونية، تحظر بموجبها على سلطات الامر الواقع الإتيان بأفعال معينة، مثل مصادرة الممتلكات او نقل السكان وغير ذاك.
ولعل معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، وتعديلاتها لعام 1977، هي أكثر المواثيق الدولية تعبيراً عما يُسمى بآداب الحرب وأخلاقياتها، وهي أعلى ما توصل إليه الضمير الإنساني المروع بويلات الحرب العالمية الثانية، وارفع ما عبرت عنه من وعي جماعي بضرورة تهذيب العملية الحربية وعقلنة نتائجها، والتقليل ما أمكن من تداعياتها على المدنيين في الدول المهزومة، وبالتالي تلافي مضاعفاتها على النظم والحقوق والقوانين السائدة في الأراضي المحتلة. وليس معنى ذلك أنه لم تكن للحروب فيما مضى من عصور سابقة، معايير أخلاقية وقواعد قتال وآداب عسكرية متعارف عليها ضمناً. بل أن كل الحروب التي ملأت بطون كتب التاريخ، بأهوالها، ودماء عبيدها وأحرارها، كانت تجري بذرائع أخلاقية، وتتم تحت مبررات يمكن تسويغها، حتى وإن كانت مثل هذه الذرائع مزوّرة، ومبرراتها كانت موضع شك.
لم يقدم لنا التاريخ حرباً بين أمتين، أو مدينتين، أو دينين، منذ إسبارطة وأثينا وروما، وحتى كوريا وفيتنام والعراق، مجردة من معيار أخلاقي يبرر لصاحب القرار الحربي دفع شعبه إلى أتون المعارك، وتكبد التضحيات الجسام، دون أن يرفع راية أخلاقية مقنعة، حتى ولو كانت من قبيل دفع خطر محتمل، أو الذود عن حياض وطن مهدد، بما في ذلك دفع شر متربص خلف الحدود، وبالتالي لم تقع حرب من غير ذريعة أخلاقية، يمكن تقبل كلفتها الباهظة، وتسويغ هدر الدماء والمقدرات للفوز بها، ويخبرنا التاريخ أنه كثيراً ما هُزم قائد عسكري كبير، وفشل هجوم واسع، عندما كانت الحرب تتكشّف عن فرية، تفقد مسوّغها الأخلاقي، وتفشل في تبرير نفسها، سيما إذا ارتكب قادتها جرائم حرب بشعة بحق المدنيين العزل.
ومع أن معظم الحروب، ان لم تقل كلها، كانت ذات مبررات أخلاقية ملفقة، وجرت في غالبيتها لتحقيق أطماع توسعية، أو نهب ثروات أمة اخرى، او لإملاء عقيدة دينية أو نشر ثقافة أو فتح أسواق، مثل الحروب الصليبية والغزوات الاستعمارية الاوروبية، وكل قوة اخرى ترى أن مصالحها الخاصة تقع في مجال حيوي أوسع من حدودها الجغرافية، إلا أن كل الحروب القديمة والحديثة، بما فيها الحرب الدائرة في أيامنا هذه، منذ نحو سنة، في اوكرانيا، جرت تحت مثل هذه الذريعة الأخلاقية متفاوتة المعايير بين زمن وآخر، من جانب قوة كبرى ضد أمة مجاورة مستضعفة، وكل هذه الحروب انتهت بالفشل عندما سقطت مسوغاتها الأخلاقية.
 وليس ادل على ذلك من الحرب الأميركية على العراق، تلك الحرب التي تم خوضها بذرائع أخلاقية ملفقة، بل وبدوافع اتضح مبكراً أنها لا أخلاقية أبداً، لنقول أن هذه الحرب قد انتهت في واقع الأمر، بعد أن رأينا رؤية العين المجردة، جل الشواهد على السقوط المدوّي لكل تلك الرايات الأخلاقية المرفوعة في سماء القوة الغازية، اي الولايات المتحدة فائقة القوة والموارد، والسطوة الإعلامية, تهوي على الأرض، وتخسر الحرب، امتثالاً لهذا القانون الصارم لكل حرب فقدت مبررها الأخلاقي.
احتاج هنيبعل وهولاكو وفيليب دي أغسطس، ومن بعدهم نابليون وهتلر وموسوليني، وكل القادة التاريخيين الذين حاربوا خلف حدودهم، وقهروا شعوباً ومماليك مجاورة لبلادهم، وولغوا في دماء أعدائهم، احتاجوا جميعاً إلى مبررات أخلاقية، ومسوّغات يمكن التستر بها لفتح البلاد وقهر العباد، ولم يُهزم أي من هؤلاء وغيرهم إلا حين سقطت المبررات الملفقة، وتجردت حروبهم من كل ذريعة أخلاقية.
 ولعل خسارة أميركا لحرب فيتنام، قبل نحو خمسين سنة، لم تكن ناجمة عن هزيمة عسكرية على الأرض، بقدر ما نجمت عن هزيمة أخلاقية دارت في شوارع المدن الأميركية، حين أسقط ملايين المتظاهرين مسوّغات تلك الحرب غير الأخلاقية، وسحبوا من بين أيدي جنرالاتها كل مسوّغ لإدامة حرب لم تعد في نظر الأميركيين حرباً اضطرارية، وهي تلك الخاتمة الحتمية التي سينتهي اليها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين بالأمس، مهما طال به الزمن، والنهاية شبه المؤكدة للغزو الروسي لأوكرانيا، حتى وان كسب فلاديمير بوتين بعض الارض لبعض الوقت.