عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Dec-2025

إعادة تسويق الإبادة الجماعية

 الغد

 ترجمة: علاء الدين أبو زينة
كريس هيدجز* - (شير بوست) 18/12/2025
 
إذا كنت تعيش في الشمال العالمي، فستكتفي في البداية بمشاهدة الرعب من بعيد، لكن هذا الرعب، بينما ينهار المناخ، سيهاجر ببطء إلى ديارك، محوّلًا معظمنا إلى فلسطينيين. وبالنظر إلى تواطؤنا في الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، فإن هذا هو ما نستحقه.
 
 
في البداية، كان الأمر "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ثم أصبح "حربًا"، على الرغم من أن 83 في المائة من الضحايا، وفق قاعدة بيانات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية نفسها، كانوا من المدنيين.
لا يملك الـ2.3 مليون فلسطيني في غزة، الذين يعيشون تحت حصار إسرائيلي جوي وبري وبحري، جيشًا، ولا سلاح جو، ولا وحدات ميكانيكية، ولا دبابات، ولا بحرية، ولا صواريخ، ولا مدفعية ثقيلة، ولا أسرابًا من الطائرات المسيّرة القاتلة، ولا أنظمة تتبع متطورة لترسم خرائط جميع التحركات، ولا حليفًا مثل الولايات المتحدة التي قدّمت لإسرائيل ما لا يقل عن 21.7 مليار دولار من المساعدات العسكرية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
والآن، أصبح الأمر "وقفًا لإطلاق النار". سوى أن إسرائيل، كما هي العادة، التزمت فقط بالشرط الأول من أصل عشرين شرطًا. فقد أفرجت عن نحو 2000 أسير فلسطيني محتجزين في السجون الإسرائيلية -كان 1700 منهم قد اعتُقلوا بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)- بالإضافة إلى نحو 300 جثمان لفلسطينيين، مقابل إعادة الأسرى الإسرائيليين العشرين المتبقين.
وقد انتهكت إسرائيل كل الشروط الأخرى. وألقت بالاتفاق -الذي جرى التوصل إليه بوساطة إدارة ترامب ومن دون أي مشاركة فلسطينية- في محرقة واحدة مع كل الاتفاقيات ومعاهدات السلام المتعلقة بالفلسطينيين.
ينذر الانتهاك الواسع والصارخ الذي تمارسه إسرائيل للاتفاقيات الدولية وللقانون الدولي -حيث ترفض إسرائيل وحلفاؤها الالتزام بثلاث مجموعات من الأوامر الملزمة قانونًا الصادرة عن "محكمة العدل الدولية"، وبفتويين استشاريتين للمحكمة نفسها، فضلًا عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية والقانون الدولي الإنساني- ينذر بعالم يصبح فيه القانون هو ما تقرر الدول الأكثر تفوقًا عسكريًا أنه كذلك.
تم في تشرين الثاني (نوفمبر) اعتماد خطة السلام الزائفة -"خطة الرئيس دونالد ج. ترامب الشاملة لإنهاء نزاع غزة"- في فعل خيانة صاعقة للشعب الفلسطيني، حيث أيّدها معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي، مع امتناع الصين وروسيا عن التصويت. وغسلَت الدول الأعضاء أيديها من غزة، وأدارت ظهورها للإبادة الجماعية التي حدثت هناك.
وفي تعليق له على اعتماد القرار 2803 (2025)، كتب الباحث في شؤون الشرق الأوسط نورمان فنكلستين: "... كان ذلك في آنٍ معًا كشفًا للإفلاس الأخلاقي، وإعلان حرب على غزة. من خلال إعلان القانون الدولي لاغيًا وباطلًا، أعلن مجلس الأمن نفسه لاغيًا وباطلًا. وإزاء غزة، تحوّل المجلس إلى مؤامرة إجرامية".
من المفترض أن تشهد المرحلة التالية تسليم "حماس" أسلحتها وانسحاب إسرائيل من غزة. لكنّ هاتين الخطوتين لن تتحققا أبدًا.
ترفض "حماس" -إلى جانب فصائل فلسطينية أخرى- قرار مجلس الأمن، وتقول هذه الفصائل إنها لن تتخلى عن سلاحها إلا عند انتهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. وقد توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن نزع السلاح سيتم "بالطريقة الصعبة" إذا لم تمتثل "حماس".
من المقرر، ظاهريًا، أن يتولى "مجلس السلام"، الذي يرأسه ترامب، إدارة غزة، إلى جانب مرتزقة مسلحين من "قوة الاستقرار الدولية" المتحالفة مع إسرائيل، على الرغم من أنها ليست هناك أي دولة تبدو متحمسة لإرسال قواتها.
ويَعِد ترامب بتحويل غزة إلى "ريفييرا" تعمل كـ"منطقة اقتصادية خاصة" -أي إقليم يعمل خارج قانون الدولة، وتحكمه بالكامل استثمارات خاصة، على غرار "مدينة الميثاق" في هندوراس المدعومة من بيتر ثيل.
وسيتم تحقيق ذلك من خلال "الترحيل الطوعي" للفلسطينيين -حيث سيُعرض على من يحالفهم الحظ ويمتلكون أراضي كودات رقمية مقابلها.
يعلن ترامب أن الولايات المتحدة "ستتولى السيطرة على قطاع غزة" و"ستمتلكه". هذه عودة إلى حكم "النواب الملكيين" (1) -وإن لم يكن من بينهم، على ما يبدو، توني بلير البغيض. وسيجري "نزع التطرف" من الفلسطينيين، في واحدة من أكثر نقاط الخطة إثارة للسخرية، على أيدي أسيادهم الاستعماريين الجدد.
لكنّ هذه الأوهام لن ترى النور أبدًا. تعرف إسرائيل ما تريد أن تفعله في غزة، وتعرف أيضًا أن أي دولة لن تتدخل لوقفها. وسيكافح الفلسطينيون للبقاء على قيد الحياة في ظروف بدائية ولا إنسانية. وكما حدث مرارًا في الماضي، سوف يُتركون لمصيرهم ويتعرّضون للخيانة.
ارتكبت إسرائيل 738 انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار بين 10 تشرين الأول (أكتوبر) و12 كانون الأول (ديسمبر)، شملت 358 عملية قصف بري وجوي، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 383 فلسطينيًا وإصابة 1.002 آخرين، وذلك وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة ووزارة الصحة الفلسطينية. ويعني ذلك معدل ستة فلسطينيين يُقتلون يوميًا في غزة -انخفاضًا من معدل 250 قتيلًا يوميًا قبل "وقف إطلاق النار".
وقالت إسرائيل إنها قتلت مؤخرًا قائدًا بارزًا في حركة "حماس"، رائد سعد، في ضربة صاروخية استهدفت سيارة على الطريق الساحلي لغزة. ويبدو أن ثلاثة آخرين قُتلوا أيضًا في الضربة.
لم تنته الإبادة الجماعية في غزة. نعم، وتيرتها تباطأت، لكن النية لم تتغير. وما يحدث الآن هو قتل بطيء الحركة. ليست الأعداد اليومية للقتلى والجرحى -مع تزايد أعداد الذين يمرضون ويموتون بسبب البرد والمطر- بالمئات، لكنها بالعشرات.
شهد شهر كانون الأول (ديسمبر) السماح بدخول 140 شاحنة مساعدات يوميًا إلى غزة في المتوسط -بدلًا من 600 شاحنة وعد بها الاتفاق- من أجل إبقاء الفلسطينيين على حافة المجاعة وضمان انتشار سوء التغذية على نطاق واسع. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، شُخِّص نحو 9.300 طفل دون سن الخامسة في غزة بسوء تغذية حاد وخطير، وفقًا لـ"اليونيسف".
وقد فتحت إسرائيل المعبر الحدودي إلى مصر في رفح، وإنما فقط للفلسطينيين الذين يغادرون غزة. وهو غير مفتوح لأولئك الذين يريدون العودة إلى القطاع، كما ينص الاتفاق.
واستولت إسرائيل على نحو 58 في المائة من مساحة غزة، ويتواصل تحريك خط الترسيم -المعروف باسم "الخط الأصفر"- لتوسيع احتلالها. ويتم إطلاق الرصاص على الفلسطينيين الذين يعبرون هذا الخط التعسفي -الذي يتغير باستمرار وغالبًا ما يكون غير محدد المعالم- أو تفجيرهم، حتى لو كانوا أطفالًا.
ويجري حشر الفلسطينيين في معسكر اعتقال متقلص، كريه، ومكتظ إلى أن يتم ترحيلهم. وقد تضرر أو دُمِّر 92 في المائة من المباني السكنية في غزة، وتضرر نحو 81 في المائة من جميع المنشآت، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. وقد تحوّل القطاع، الذي لا يتجاوز طوله 25 ميلًا وعرضه سبعة أميال ونصف، إلى 61 مليون طن من الأنقاض، بينها 9 ملايين طن من النفايات الخطرة التي تشمل الأسبستوس والنفايات الصناعية والمعادن الثقيلة، بالإضافة إلى الذخائر غير منفجرة ونحو 10.000 جثة متحللة.
ولا يكاد يوجد في القطاع ماء نظيف أو كهرباء أو معالجة للصرف الصحي. وتمنع إسرائيل دخول شحنات مواد البناء، بما في ذلك الإسمنت والحديد، ومواد الإيواء، والبنية التحتية للمياه، والوقود، بحيث لا يمكن إعادة بناء أي شيء.
يدعم 82 في المائة من اليهود الإسرائيليين التطهير العرقي لكامل سكان غزة، ويدعم 47 في المائة منهم قتل جميع المدنيين في المدن التي يستولي عليها الجيش الإسرائيلي. كما يؤيد 59 في المائة فعل الشيء نفسه بحق الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل.
ويقول 79 في المائة من اليهود الإسرائيليين إنهم "غير منزعجين كثيرًا" أو "غير منزعجين على الإطلاق" من التقارير عن المجاعة والمعاناة بين سكان غزة، وفقًا لاستطلاع أُجري في تموز (يوليو).
وقد ظهرت عبارة "قوموا بمحو غزة" أكثر من 18.000 مرة في منشورات "فيسبوك" باللغة العبرية خلال العام 2024 وحده، بحسب تقرير جديد عن خطاب الكراهية والتحريض ضد الفلسطينيين. وكان أحدث أشكال الاحتفال الإبادي في إسرائيل -حيث تسخر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية بانتظام من معاناة الفلسطينيين- هو ظهور حبال مشانق ذهبية على صدور أعضاء حزب اليمين المتطرف "عوتسما يهوديت"، النسخة الإسرائيلية من "كو كلوكس كلان"، بما في ذلك واحدة ارتداها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
ويدفع هؤلاء بمشروع قانون في الكنيست يسعى إلى فرض عقوبة الإعدام على الفلسطينيين الذين "يتسببون عمدًا أو بلا مبالاة في وفاة مواطن إسرائيلي"، إذا قيل إن دافعهم هو "العنصرية أو العداء لجمهور"، وبهدف الإضرار بالدولة الإسرائيلية أو بـ"انبعاث الشعب اليهودي في أرضه"، كما تشرح منظمة "عدالة" الحقوقية الإسرائيلية.
منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قُتل أكثر من 100 فلسطيني في السجون الإسرائيلية. وإذا أصبح مشروع القانون الجديد قانونًا -وقد اجتاز قراءته الأولى- فسينضم إلى موجة تضم أكثر من 30 قانونًا معاديًا للفلسطينيين تم سنها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر).
الرسالة التي تبعثها الإبادة الجماعية في غزة إلى بقية العالم، حيث يعيش أكثر من مليار إنسان بأقل من دولار واحد يوميًا، واضحة لا لبس فيها: نحن نملك كل شيء، وإذا حاولتم انتزاعه منا سنقتلكم.
هذا هو النظام العالمي الجديد. وسوف يبدو غزة: معسكرات اعتقال. تجويع. تدمير للبنية التحتية والمجتمع المدني. قتل جماعي. مراقبة شاملة. إعدامات.
تعذيب، بما في ذلك الضرب، والصعق بالكهرباء، والإيهام بالغرق، والاغتصاب، والإذلال العلني، والحرمان من الطعام، ومنع الرعاية الطبية -وهي ممارسات يجري استخدامها على الفلسطينيين بشكل روتيني في السجون الإسرائيلية.
أوبئة. أمراض. مقابر جماعية تُدفن فيها الجثث بالجرافات في حفر غير معلَّمة، حيث تُنبش الأجساد، كما يحدث في غزة، وتُمزقها قطعان من الكلاب البرية الجائعة.
لسنا متجهين إلى "شانغريلا" (2) التي يبيعها ويروّج لها أكاديميون ساذجون مثل ستيفن بينكر لجمهور سهل الانقياد. نحن متجهون إلى الانقراض. وليس الانقراض الفردي -الذي يحاول مجتمعنا الاستهلاكي إخفاءه بجنون عبر تسويق وهم الشباب الأبدي- فحسب، بل الانقراض الشامل مع ارتفاع درجات الحرارة إلى حد يجعل الكوكب غير صالح للحياة. وإذا كنتَ تعتقد أن النوع البشري سيتصرف بعقلانية إزاء الإبادة البيئية، فإنك بعيد تمامًا عن فهم الطبيعة البشرية. عليك أن تدرس غزة. وأن تدرس التاريخ.
إذا كنت تعيش في الشمال العالمي، فستكتفي في البداية بمشاهدة الرعب من بعيد، لكن هذا الرعب، بينما ينهار المناخ، سيهاجر ببطء إلى ديارك، محوّلًا معظمنا إلى فلسطينيين. وبالنظر إلى تواطؤنا في الإبادة الجماعية، فإن هذا هو ما نستحقه.
عندما تشعر الإمبراطوريات بالتهديد، فإنها تحتضن دائمًا أداة الإبادة الجماعية. اسأل ضحايا الغزاة الإسبان. اسأل السكان الأصليين في أميركا. اسأل شعوب الهيريرو والناما. اسأل الأرمن. اسأل الناجين من هيروشيما وناغازاكي. اسأل الهنود الذين نجوا من مجاعة البنغال أو الكيكويو الذين ثاروا على مستعمريهم البريطانيين في كينيا. وسوف يأتي دور لاجئي المناخ.
وليست هذه نهاية الكابوس. إنها بدايته.
 
*كريس هيدجز‏‏ Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلاً أجنبيًا لمدة خمسة عشر عاما ‏‏لصحيفة "نيويورك تايمز"، ‏‏حيث شغل منصب رئيس مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة. عمل سابقًا مراسلاً أجنبيًا لصحف "ذا دالاس مورنينغ نيوز" و"كرستيان سينس مونيتور" و"الراديو الوطني"، وهو مضيف برنامج ‏‏"تقرير كريس هيدجز". حصل على جائزة منظمة العفو الدولية العالمية للصحافة في مجال حقوق الإنسان للعام 2002. يحمل درجة الماجستير في اللاهوت من كلية اللاهوت بجامعة هارفارد، وهو مؤلف الكتب الأكثر مبيعًا: "الفاشيون الأميركيون: اليمين المسيحي والحرب على أميركا"‏‏؛ "‏‏إمبراطورية الوهم: نهاية محو الأمية وانتصار المشهد". وكان أحد المتأهلين للتصفيات النهائية لدائرة نقاد الكتاب الوطنية عن كتابه "‏‏الحرب قوة تعطينا معنى". عمل بالتدريس في جامعة كولومبيا وجامعة نيويورك وجامعة برينستون وجامعة تورنتو.‏
 
هوامش:
(1) "حكم نواب الملك" the rule of viceroys: هو نظام حكم يدير البلاد فيه حكّام معيّنون من قوة خارجية يمثّلون مصالحها، وليس إرادة السكان، ويجسّد شكلًا من أشكال السيطرة الاستعمارية وغياب السيادة الوطنية.
(2) شانغريلا Shangri-La: هي مدينة/ أرض أسطورية خيالية ترمز إلى الفردوس الأرضي؛ وهي مكان معزول تسوده السعادة الدائمة، والانسجام، وطول العمر، والسلام، بعيدًا عن صراعات العالم وشروره.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Rebranding Genocide