عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Mar-2023

«قَراصنة».. و«أجسادٌ نَحيلة»*محمد رفيع

 الراي 

بتأمّل الوجوه والأجساد النحيلة لـ«الصوماليين»، الذين يتم القبض عليهم بين الحين والآخر، من قبل سفن الأساطيل الدولية، التي تزاحمت منذ أكثر من ثلاثة عقود على السواحل الصومالية، ينتابُ المرءَ إحساس غريب ومتناقض في آن. فالصورة الشريرة للقرصان، التي صنعتها الحكومة البريطانية، في القرنين السابع والثامن عشر، لا تزال تحتلّ فضاء المعرفة البشرية عن القراصنة، باعتبارهم لصوصاً وشريرين، وعديمي الإحساس، هذا فضلاً عن الصورة الدرامية النمطية للقراصنة ذوي السيقان الخشبية، والأذرع المعدنية، والببغاوات التي تعلو أكتافهم.
 
والحقُّ، كما يقول «يوهان هاري» في صحيفة «الإندبندنت»، والمؤرخ «ماركوس رديكر» في كتابه «أشرار كل الأمم»، إن الناس القدماء لم يصدقوا كثيراً تلك الصورة النمطية للقراصنة، على الرغم من نجاح الحكومة البريطانية في تعميم تلك الصورة. وذلك ببساطة، لأن غالبية سكان لندن، وخصوصاً الفقراء منهم، كانوا يعرفون الحقيقة، وبأن «القراصنة هم أول المتمردين على هذا العالم»، حين تمردوا على طغيان «قباطنة» سفن البحرية الملكية البريطانية القساة. تلك البحرية التي كانت تلتقط الشباب الفقراء من شرقي لندن، لتأخذهم للعمل بحارة في الأسطول ا?تجاري والقوة البحرية البريطانية، التي تجوب بحار العالم. وهو مصير شكّل بالنسبة لهؤلاء سجناً عائماً لا فكاك منه إلا بالموت، حيث العمل ساعات طويلة، في بواخر مكتظة ومزدحمة، وببطون نصف خاوية، فإن تراخى البحارة قليلاً جلدتهم سياطُ القبطان بشعابه العديدة، وإن تكرّر التراخي، فلا مصير للبحار سوى إلقائه في البحر.
 
على واقع كهذا تمرّد البحّارة البريطانيون، فأسمتهم الحكومة البريطانية القراصنة، غير أنهم لم يكرّروا تجربة جلاديهم «القباطنة»، فابتدعوا طريقة جديدة للعمل في البحر، تبدأ باتخاذ قراراتهم بشكل جماعي، مروراً بانتخاب قبطان السفينة، بمجرد استيلائهم عليها. وعلاوة على ذلك، فقد كانوا يتقاسمون الغنائم بطريقة تتّسم بالعدالة في «توزيع الثروة»، كما إنهم كانوا يأخذون «الرقيق الإفريقي» ليعيشوا معهم بشكل متساوٍ، وهو ما يصفه «رديكر» بأن القراصنة برهنوا، بشكل «واضح وتخريبي»، أن هناك إمكانية لتسيير السفن «بطريقة مختلفة، وغير ق?عية، كما هو الأمر في البحرية الملكية» البريطانية.
 
فعلى الرغم من كون القراصنة «لصوصاً غير مُنتجين»، إلا أن شعبيتهم كانت كبيرة. واحدٌ من هؤلاء، وهو القرصان البريطاني «وليم سكوت»، قال قبيل إعدامه شنقاً في كارولينا الجنوبية: «فعلت ما فعلت لأظل على قيد الحياة، لقد أُرغِمت على القرصنة لأعيش».
 
وهنا تحضر «حكاية القرصنة الصومالية» برمتها، فمنذ انهيار الحكومة والنظام الصوماليين في مطلع التسعينيات، تنبّهت «قوى كبرى» في الغرب إلى الفرصة الكبرى المتوافرة لسرقة الموارد الغذائية الصومالية، وإلى فرصة دفن المخلفات النووية والكيماوية في مياه الصومال..!
 
فعشية انهيار الدولة في الصومال، بدأ الناس يشاهدون سفناً أوروبية غامضة»، تظهر في الشواطئ الصومالية، تتخلّص من «براميل وحاويات ضخمة» في البحر، وتختفي. ومع الوقت، بدأ سكان السواحل هناك يعانون من ظواهر مرضية غريبة: طفح على الجلد، وتقيؤ، ومواليد مشوّهين. وقبل عقد ونصف العقد، بدأت أمواج البحر تقذف إلى السواحل الصومالية براميل وحاويات مثقّبة، فانتشرت بين الناس أمراض ناتجة عن الإشعاع، ومات مئات منهم. ثم تبيّن أن «هناك مَن يدفن مواد نووية» في المياه الصومالية، تحتوي على «رصاص ومعادن ثقيلة كالزئبق والكادميوم وغيرهما?. وحين ظهرت المشكلة إلى العلن، تبيّن أن «مستشفيات ومصانع أوروبية» أوكلت مهمّة التخلص من المواد والنفايات الخطرة إلى «المافيا الإيطالية» بأثمان رخيصة.
 
وفي موازاة ذلك، كانت هناك «سفن أوروبية أخرى» تنهب «الغذاء البحري» من المياه الإقليمية الصومالية، بسفن صيد عملاقة، ومن دون رقيب أو حسيب. وللمفارقة، فإن أول القراصنة الصوماليين كانوا «صيادي أسماك عاديين»، استخدموا زوارق سريعة، بهدف «إبعاد سفن النفايات وسفن الصيد، أو لفرض ضريبة عليها» في أدنى الحدود، وأطلقوا على أنفسهم «حراس شواطئ الصومال المتطوعين»...! أما المفارقة الثانية، فهو ما أظهره استطلاع محلي، بأن أكثر من سبعين بالمئة من السكان في الصومال «يؤيدون تأييداً شديداً القرصنة، باعتبارها شكلاً من أشكال الدفاع?الوطني عن مياه البلد الإقليمية»..!
 
بالتأكيد، ثمة رجال عصابات، ومجرمون، ومهربون حقيقيون، دخلوا لاحقاً على خط عمل هؤلاء القراصنة، بخطف الرهائن وغيرها من الأعمال، التي تتعدّى الأهداف الأولى لـ«حرس الشواطئ المتطوعين»، في منع الصيد الدولي وإلقاء النفايات في مياه الصومال.
 
أما أصحاب الوجوه النحيلة، والأجساد الهزيلة، من متطوعي حرس الشواطئ الصوماليين، فلا عزاء لهم، ولا أصوات ترفع جوهر قضيتهم، وتنتشلها من براثن القراصنة الحقيقيين، لتعيدها إلى نصابها الحقيقي، بأنها قضية شعب انهارت دولته، فنُهبت موارده من كلاب البحر الدولية، ولُوّثت، ولا تزال، مياهه البحرية، بأخطر ما أنتج «المجتمع الدولي» من نفايات..!