عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Aug-2025

وراء الخطوط.. موظفو "الكول سنتر" بين إدارة الاتصال والاحتراق النفسي

 الغد-ديمة محبوبة

 على الجانب الآخر من المكالمة، هناك موظف يبتسم رغم أنه لم يضحك منذ أيام، يرد بصوت هادئ رغم أنه يسمع شتائم، يعتذر نيابة عن شركة ربما لا يسمع فيها كلمة "شكرا"، ويودع المتصل بود رغم أنه بداخله ينهار. 
 
 
هؤلاء هم موظفو "الكول سنتر"، جيش مجهول يعمل خلف السماعات، يتلقون يوميا عشرات المكالمات، يتحملون الغضب، التوتر، والطلبات المستحيلة، من دون أن يمنحوا فرصة التنفس أو التعبير عن الألم.
 
أحمد شاب في الثلاثينات، يعمل منذ خمسة أعوام في أحد مراكز الاتصال التابعة لشركة خدمات لوجستية، يبدأ دوامه عند الثامنة صباحا ولا ينتهي قبل الرابعة مساء.
يقول "أحيانا أستقبل في اليوم أكثر من 120 مكالمة، معظمها شكاوى، بعضها جارح، وبعضها محبط، لا يسمح لنا بإظهار مشاعرنا، إذ ممنوع أن نغضب، أو أن نرتبك، أو حتى أن نصمت أكثر من ثانيتين". يتحدث عن أيام ينتهي فيها الدوام ويشعر بأن لسانه ثقيل وظهره معقود، لكنه لا يجرؤ على الشكوى، فكل تأخير أو تراجع في الأداء يقابله خصم مالي.
ورغم الصورة اللامعة التي ترسم أحيانا عن بيئة العمل الحديثة، إلا أن الحقيقة داخل مراكز الاتصال غالبا ما تكون مختلفة. فبيئة العمل شديدة الانضباط، الأداء يقاس بالثواني، الكلام محسوب، ومدة كل مكالمة تخضع للتقييم، حتى نبرة الصوت تراقب. من يمرض عليه أن يثبت ذلك بتقرير، ومن يتأخر عليه أن يعتذر، ومن يتعب عليه أن يصمت.
اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي يرى، أن ما يعانيه موظفو "الكول سنتر" هو شكل من أشكال "الضغط الممنهج" الذي يمارس باسم الإنتاجية. ويقول "تفرض عليهم معايير أداء دقيقة ومكثفة، يطلب منهم الرد السريع، واللباقة، والسيطرة على الانفعالات، وفي المقابل لا يحصلون على ما يقابل هذا الجهد من دعم نفسي أو تقدير معنوي".
ويضيف أن كثيرا من العاملين في هذا المجال يصابون تدريجيا بما يعرف بـ"الاحتراق النفسي"، نتيجة التكرار والروتين، والاحتكاك المستمر مع مشاعر سلبية من الطرف الآخر.
لا تتوقف المعاناة عند الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى الجسد. فالطبيب العام الدكتور مخلص مزاهرة يؤكد أن بيئة العمل في مراكز الاتصال تسبب أضرارا صحية متعددة، بعضها يظهر سريعا، وبعضها يتراكم على المدى البعيد.
ويوضح أن الجلوس لفترات طويلة من دون حركة، والتحديق المستمر في الشاشات، يسببان مشاكل في العمود الفقري، وتشنجات عضلية، إضافة إلى إجهاد العين، والصداع المزمن، فكثير من الموظفين يراجعون العيادات بسبب آلام الرقبة والظهر، والتهابات في المفاصل ناتجة عن استخدام سماعات الرأس لفترات طويلة.
ويحذر مزاهرة من أن الورديات الليلية أو المتقلبة تؤثر على الساعة البيولوجية، وتسبب اضطرابات في النوم، ومشاكل في الجهاز الهضمي نتيجة تناول الطعام في أوقات غير منتظمة، مشيرا إلى أن التوتر النفسي المستمر يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم ونقص المناعة، ما يجعل الموظف عرضة للأمراض.
من جانبها، تؤكد المختصة في علم النفس سماح الرمحي، أن موظفي "الكول سنتر"، غالبا ما يعملون في ظروف غير مرئية اجتماعيا.
وتقول "الناس تتعامل مع أصواتهم فقط، ولا تنظر إليهم كأشخاص من لحم ودم. هذا يخلق فجوة في الهوية المهنية، ويجعل الموظف يشعر أنه غير مرئي، أو لا قيمة له".
وتشير الرمحي إلى أن تكرار التفاعل مع الغضب والرفض والسخرية من قبل المتصلين يولد شعورا داخليا بالذنب أو النقص، خاصة عندما يطلب من الموظف أن يعتذر باستمرار من دون أن يكون مخطئا.
وتحذر الرمحي من أن الضغط المستمر يؤدي إلى القلق المزمن ونوبات الهلع واضطرابات النوم. وتقول "إن بعض الموظفين يبدأون في تطوير أعراض الاكتئاب المقنع، حيث يواصلون العمل بشكل طبيعي، لكنهم داخليا يعانون من فقدان الحافز، والتبلد العاطفي، والعزلة".
نور التي تعمل منذ عامين في مركز اتصال لشركة إنترنت، تقول إنها بدأت تشعر بألم دائم في الرقبة، وصداع لا يفارقها، لكنها لم تجرؤ على أخذ إجازة، لأن الإجازات مشروطة، وأي غياب يؤثر على التقييم الشهري. 
وتضيف أنها تعامل كأرقام هي وزملائها، ليس كأشخاص، حتى الضحك يجب أن يكون ضمن "البروتوكول"، نضحك حين يطلب منا، ونسكت حين يراد لنا أن نسكت.
ورغم أن بعض الشركات توفر غرفا للاستراحة، أو دورات في إدارة الغضب، إلا أن الأغلبية لا تعير اهتماما لحالة الموظف النفسية أو الجسدية، ما يزيد  معدلات التسرب الوظيفي، والانقطاع المرضي، والشعور بعدم الانتماء.
وفي نهاية اليوم، يعود الموظفون إلى بيوتهم مثقلين بأصوات الغرباء، ينامون في صمت، ليستعدوا لصباح جديد من المكالمات المتكررة.
قد لا يعرفهم أحد، لكنهم يعرفون الجميع ويقابلون الشكوى بالصبر، والإهانة بالهدوء، ويطلب منهم أن يكونوا دائما في أفضل حالاتهم، فيما لا أحد يسألهم إن كانوا هم بخير.